رؤى

وقفة مع كلمة هرتسوغ من قلب المنطقة الجميلة في قمة المُناخ

يقول الشاعر والكاتب المسرحي والروائي أوليفر جولد سميث Oliver Goldsmith [1730-1774]: “لقد سئمت أن أكون على الدوام رجلا عاقلا!” فهل معنى ذلك أن الإنسان قد يحتاج في وقتٍ ما إلى التخلي عن المنطق وعن التفكير العقلاني الممنهج والذي لا يقبل سوى الأدلة والبراهين؛ كي يتقبل ما يحدث حوله خاصة كل ما يتحلى بالزيف ويخلو من الصدق، وينأى عن كل حقيقة فيفرض كل ما هو كذب وباطل؟!

إن الصدق لا يحتاج إلى تكلّف أو تصنّع؛ فنوره ساطع مبين كنور الشمس الوضّاء مهما حجزته السحب أو حجبته الغيوم؛ ومع ذلك فهناك من يتكلفون الصدق في وقتٍ ما لخداع الناس، كي يُصدِّقوا كلامهم ويُكذِّبوا بصيرتهم، فيظن هؤلاء بعد كل حديث لهم أنهم قادرون على خداع العالم أجمع، بينما ينسون أنهم يطلقون أنفسهم على سجيتها بعد ذلك، بل وطوال الوقت، فكيف يمكن إذن تصديقهم من فرط ما يحتالون ويكذبون؟!

من قلب الشرق الأوسط الذي غيروا تسميته، ورسموا حدود دوله، وخططوا للاستيلاء على ثرواته، وتحكموا في أنظمته مسيطرين على تحركاتها وتوجهاتها، وأقاموا لهم كيانًا أخطبوطيًّا في ربوعه.. كانت بداية وجوده بالزحف والتهجير، ثم بالحرب والقتال من أجل فرض وجوده بالقوة العسكرية، وأخيرًا محاولة تقبل ذلك الوجود والتسليم به كأمر واقع لا مفر منه عن طريق إبرام معاهدات السلام التي معها يتحتم التطبيع والتسليم لكل ما يجذب الرخاء بعدما ساد الأمن والأمان، من قلب هذه المنطقة الجميلة حسب وصفه لها تحدث بكلمات موجزة ولكنها معبرة.

فالآن فقط أصبحت بحق تلك المنطقة جميلة بعدما خلت من كل ما يقلق هدوء البغاة الذين استقروا في المستوطنات الجديدة، وهدموا البيوت القديمة، ودنسوا بأحذيتهم محاريب الصلاة في المساجد والكنائس، واقتحموا بأسلحتهم قرى ومدن شعب أصبح وحيدًا في نضاله ضد الاحتلال، الذي أغرى الجميع بعوائد الاستثمارات، فغدت أهم من أرواح الأبرياء وأكثر نفعًا من خوض أية معركة للثأر لدماء الشهداء.

إننا نتحدث هنا عن كلمة رئيس الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين التي ألقاها منذ أيام في قمة المناخ (كوب 27) المنعقدة في شرم الشيخ والتي كانت واثقة وموحية بدرجة كبيرة. فالآن أصبحت إسرائيل في مأمن من أي اعتداء عليها من دول الجوار الذين أصبحوا يرحبون بها في كل محفلٍ دولي، بل ويحسبون لها ألف حساب. وهكذا أعلن بكل ثبات رئيس الكيان الإسرائيلي “إسحاق هرتسوغ” –الذي ولد في تل أبيب عام 1960، والذي تلقى تعليمه الجامعي في جامعة تل أبيب– أن الشرق الأوسط قد أصبح دارهم الآمن الآن؛ ولكن للأسف هذه المنطقة الجميلة التي يتجاور فيها العرب وإسرائيل بسلام قد تأثرت مثلها مثل بقية أنحاء العالم بآثار التغير المناخي السلبية!

وبالنسبة لإسرائيل فإنها قد ألزمت نفسها بالتعهد في شرم الشيخ، ومن قبل في جلاسكو العام الماضي، بالوصول إلى نقطة الصفر من انبعاثات الكربون والانتقال من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2050، ليس هذا فقط بل طرح هرتسوغ عزم بلاده على إنشاء وتطوير منظومة طاقة إقليمية نظيفة ومتجددة في شرق أوسط يتمتع بالسلام المتجدد والمستدام، وذلك من خلال توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية المتوفرة في صحراء الشرق الأوسط؛ بل وتصديرها إلى أوروبا وآسيا وأفريقيا.

وبالفعل تتعاون إسرائيل الآن مع اليونان في مجال توليد الطاقة النظيفة من أجل تصديرها إلى أوروبا.. كما أن إسرائيل قادرة على مواجهة التصحر والجفاف وإيجاد حلول لأزمات الغذاء ومشكلات نقص المياه التي أصبح الشرق الأوسط يعاني منها في الآونة الأخيرة!

وفي ظل تلك الأزمة المخيمة على العالم أجمع والتي تجاوزت الأبعاد السياسية والحدود الجغرافية فإنه لا مناص من إيجاد مستقبل أفضل للأجيال القادمة؛ ومن ثم فقد أبرزت إسرائيل مدى أهمية التعاون الدولي بصفة عامة والإقليمي بصفة خاصة من خلال استغلال تلك الفرصة للعمل على تعزيز الشراكات الإقليمية؛ كمسار نحو الشمولية والاستقرار  والرقي لتشكيل المعالم الجديدة للشرق الأوسط المتجدد.

وبالتالي كان من الطبيعي أن تواصل إسرائيل على هامش قمة المناخ خطواتها الممنهجة في واحد من مشروعات الشراكة الإقليمية مع أصدقائها الإمارات والأردن بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم وقعت مذكرة تفاهم تهدف إلى المضي قدمًا في مشاريع إنتاج الطاقة النظيفة وتحلية مياه البحر، والتي أعلن عنها العام الماضي، وذلك في إطار “مشروع الازدهار”.. وهو المشروع الذي يحقق أهداف قمم الأمم المتحدة للمناخ إذ يضم محورين: أولهما هو برنامج “الازدهار الأخضر” الذي يشمل تطوير محطة طاقة شمسية كهروضوئية مع نظام لتخزين الطاقة الكهربائية في الأردن بهدف إنتاج طاقة نظيفة تصدر إلى إسرائيل، أما ثاني محور فهو برنامج “الازدهار الأزرق” الذي يهدف إلى تطوير مشاريع تحلية مستدامة في إسرائيل من أجل تزويد الأردن بالمياه المحلاة. وهكذا يتضح جليًّا أنه ليس هناك أفضل من تلك المشروعات لتعزيز الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الجميلة والآمنة والحاضنة للكيان المحتل الغاصب، وأن الماء وهو من أساسيات البقاء في الحياة أصبح يُقايض بالكهرباء في ظل الاهتمام العالمي بالطاقة النظيفة غير الملوثة للبيئة بغض النظر عن قيام إسرائيل بالسيطرة على مجاري مياه نهري الأردن واليرموك والتحكم بها كي تصاب الأردن بشح المياه، وهو المصير الذي ينتظر الكثير من دول الجوار.

أما على الجانب الآخر فقد تحدث رئيس وزراء دولة فلسطين الدكتور “محمد اشتيه” بثقة مماثلة وبقوة ملحوظة غلفت نبرة صوته معربًا عن أسفه لعدم قيام الدول الموقعة على اتفاق باريس بتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة؛ إذ لم تلتزم الدول الصناعية الكبرى بالخطط والمعاهدات التي وُضعت لإنقاذ الأرض من الاحتباس الحراري، ومن ثم دعا دول العالم إلى الالتزام بالمصداقية وإلى ضرورة وجود إرادة سياسية حقيقية تُغلِّب الصالح العام لسكان الأرض على الأرباح المالية.

وفي نهاية كلمته لم يفت الدكتور اشتيه أن يُذكر العالم أجمع بمعاناة شعب فلسطين من الاحتلال الصهيوني الغاصب الذي يقتل الأبرياء ويدمر الطبيعة ويلوث البيئة بدفن نفاياته ومخلفاته الصلبة في الأراضي الفلسطينية التي دأب على اقتلاع أشجارها وسرقة مياهها وهدم بيوتها؛ كي يقيم مستوطناته بكل تجبر وطغيان. فاقتلعت أكثر من مليونين نصف المليون شجرة منذ عام 1967، كما أن البحر الميت يتعرض لخطر وجودي بسبب استنزاف إسرائيل له.

ومن الواضح أن إنقاذ كوكب الأرض مما تعرض له من إفساد مناخي لن يتحقق بمجرد دفع التعويضات المالية سواء للدول النامية المتضررة منه، أو لمن يعانون من ويلات الاحتلال الغاصب والمدمر للبيئة، أو للدول المستضيفة للاجئين؛ بل لابد من سن قوانين صارمة تُجرِّم جنائيًّا تلويث مُناخ الأرض وكذلك كل استنزاف للموارد الطبيعية في البلاد التي تعاني من ويلات الاحتلال، وذلك كي يتم ردع كل من يصر على الإضرار بالبشرية جمعاء بمنتهى الأنانية والتسلط. فكثرة المؤتمرات العالمية وتواصل الحديث عن إنقاذ الحياة على كوكب الأرض منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين عامًا والاكتفاء بالتفاوض حول تقليل الانبعاثات الضارة بالبيئة أو حول زيادة حجم التعويضات لن يكون كافيًا لتفادي ما ينتظر كوكبنا من كوارث متوقعة.

ومع عودتنا إلى كلمة هرتسوغ رئيس الكيان الصهيوني الغاصب نجد أنه قد استطاع أن يلفت انتباه العرب –بوجه خاص– قبل أن ينهي كلمته في قمة المناخ بشرم الشيخ، إذ لم يفته قبل استشهاده بآية من الكتاب المقدس باللغتين الإنجليزية والعبرية أن يقرأ على الحاضرين جزءًا من آية من آيات القرآن الكريم وهي الآية (77) من سورة القصص: “وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ”.

ومن الواضح أن هرتسوغ وهو يحاول التودد إلى جيرانه وأصدقائه قد اختار بعناية الكلمات التي يستشهد بها من القرآن الكريم، فانتقى منه ما يعبر عن حث النص القرآني الذي يؤمن به المسلمون (وهم غالبية جيران دولة إسرائيل المحتلة لفلسطين) على عدم الإفساد في الأرض (وهو في النص القرآني يتعلق بذكر قصة قارون الذي علا في الأرض وبغى على قومه فأهلكه الله مثلما أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعًا).

وليس غريبًا أن يتم إقحام الدين في الخطابات والأحاديث التي تضم أناسًا يعتنقون مذاهب وأديان عدة في محاولة لإثبات مدى التلاقي بين المعتقدات ومن ثم التذكير بوحدة البشرية التي تدعوهم إلى حتمية التعاون فيما بينهم. ولذلك فإنه لزامًا علينا نحن أيضًا أن نذكر من يدعون إلى ضرورة تعاون البشر من أجل إنقاذ الحياة على كوكب الأرض بما ورد في العهد القديم في سفر العدد (33:35) “لاَ تُدَنِّسُوا الأَرْضَ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، لأَنَّ الدَّمَ يُدَنِّسُ الأَرْضَ. وَعَنِ الأَرْضِ لاَ يُكَفَّرُ لأَجْلِ الدَّمِ الَّذِي سُفِكَ فِيهَا، إِلاَّ بِدَمِ سَافِكِهِ”.

فعندما يتفوه من يكتمون الحق ويلبسون الحق بالباطل بكلمة حق، وعندما يستشهد الذين يكفرون بالقرآن الكريم بآية منه، وهم يعلمون أنه مُصدِّق لما معهم بينما كانوا هم أول كافر به، فعلينا إذن أن نتذكر أن من يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا ويحرفون الكلم عن مواضعه لا يُفترض التصفيق لكلماتهم أو الانبهار بأحاديثهم، بل يجب عدم السأم من التفكير العقلاني فيما يقولون ومطابقته لما يفعلون – مهما كلفنا اللجوء إلى المنطق من تحديات أو اضطرنا إلى اقتحام جحور الحيَّات المتلونات.

فهل حقًّا بإمكان المؤتمرات العالمية أن تحمي الأرض ممَّن يفسد فيها ويدمر بيئتها الطبيعية؟ وهل ستكون هناك قرارات قابلة للتنفيذ بشأن حماية أرض فلسطين وشعبها من اعتداء إسرائيل السافر على الطبيعة وعلى البشر بعدما ندَّد رئيس وزراء فلسطين على مرأى ومسمع من العالم أجمع بانتهاكات الكيان الإسرائيلي المحتل للأراضي الفلسطينية ومدى تدميره لبيئتها الطبيعية؟ وهل يمكن أن تكون هناك إرادة سياسية عربية لإنقاذ فلسطين تضاهي ذلك الإصرار الحثيث من الحكام العرب على التعاون الاقتصادي مع العدو الإسرائيلي أو على الأقل تماثل استجابتهم الفورية لتطبيق توصيات معاهدات واتفاقيات المناخ؟!

“وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (206)” سورة البقرة

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock