تأثرت السينما المصرية بالرواية، وقدمت أفلاماً كثيرة استنادا لأعمال روائية لمبدعين كبار، وقد تجلى هذا الاعتماد السينمائى على الرواية فى الخمسينات والستينات على وجه التحديد، حين أنتجت السينما المصرية عشرات الأفلام مأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ ويوسف السباعى ومحمد عبد الحليم عبد الله ويحيى حقى وإحسان عبد القدوس وغيرهم من أساطين الرواية. لكن في المقابل ماذا عن تأثر الرواية بالسينما وإلى أي حد كان هذا التأثر وشكله؟
الرواية – مثل غيرها من الأعمال الإبداعية – تأثرت بمختلف الفنون الأخرى من موسيقى وفن تشكيلي وفنون السينما، حتى أن بعض الأدباء قد عمد إلى الإستعانة بمختلف تقنيات السينما من مشاهد قطع و«فلاش باك»، ووصف يصل إلى حد تصوير المشاهد وكأنها مشاهد من سيناريو فيلم سينمائي. هذا الأمر جعل قضية العلاقة بين الرواية كصنف أدبي والسينما كمنتج فني موضع اهتمام ونقاش بين كثير من الأدباء والنقاد الذين شاركوا في ملتقى الإبداع الروائي العربي السابع، الذي عقد بالقاهرة مؤخرا.
تزاوج
الأديبة وكاتبة السيناريو العراقية بثينة الناصري، تناولت العلاقة بين الرواية والسينما في ورقة لها جاءت تحت عنوان «تقنيات السينما في كتابة الرواية الحديثة» طرحت خلالها سؤالا حول ما إذا كان اعتماد الأدباء على تقنيات السينما في كتابة الرواية، قد انتقص من الرواية ذاتها أم أضاف إليها؟
الكاتبة العراقية «بثينة الناصري»
تجيب بثينة الناصري على السؤال بأن فن الكتابة بدأ في المهد بالإعتماد على الصورة، حيث بدأت الكتابة في شكل صور رسمت على الجدران، ومن ثم تحولت إلى رموز ودونت في البرديات، وها هى تعود مرة أخرى إلى أن تصبح صوراً مرئية متحركة، عبر فن السينما. وتضرب مثالا على التزاوج بين فن الرواية و السينما برواية «أفراح القبة» لنجيب محفوظ، حيث ظهر تأثر محفوظ بالأسلوب السينمائي، وهو الذي كان قد بدأ في كتابة السيناريو للعديد من الأعمال السينمائية. فقد استعان محفوظ في هذه الرواية بكل تقنيات السينما، ففي المشهد الأول من الرواية، يحدد محفوظ الزمن الذي تدور فيه الرواية، «شهر سبتمبر»، من ثم يصف الحجرة، التي يجلس بها مخرج مسرحي مع عدد من الممثلين، ثم يصف وجوه الحاضرين وجلساتهم، الغرفة والأصوات المسموعة، والحوار بين الجميع، كما يستعين بتكنيك القطع من مشهد إلى آخر.
وتشير الناصري إلى تجربة الروائية اللبنانية «لنا عبد الرحمن» في روايتها «ثلج القاهرة»، حيث تقدم الكاتبة روايتها في صورة عدد من المشاهد المتداخلة، حيث يتداخل الزمن والمكان والشخصيات، عبر الإحساس بالحياة مرة أخرى بعد الموت، فالرواية لا تستند إلى تقنيات السينما فحسب، وإنما تستند أيضا إلى تقنيات الفن التشكيلي، وفن التصوير.
وتضرب بثينة الناصري مثالا أخر للتداخل بين الرواية وفن السينما مشيرة إلى تجربة الروائية العراقية إنعام كجه جي، والتي عملت في مجال صناعة الأفلام الوثائقية، وهو ما أثر على طريقة تناولها لروايتها «النبيذة»، حيث جاءت جملها متلاحقة سريعة، تشبه فيلما من أفلام المطاردات، مع الحفاظ على روح التشويق والتنوع وعدم إطالة المشهد الواحد.
الرواية.. السيناريو
الناقد الأدبي الدكتور نبيل حداد، في ورقته «المونتاج راوياً .. دراسة في وسائل التعبير السينمائي في رواية أكالبيلا» يشير إلى أن الآونة الأخيرة شهدت ظهور العديد من الأعمال الروائية التي أصبحت أقرب إلى شكل «السيناريو» منها إلى ما هو مألوف لدى القراء من شكل «للرواية»، فأصبح الأديب يستفيد من أدوات التعبير السينمائية، من إستخدام تقنية التزامن في السعي لإنجاز خطين سرديين في وقت «فني» واحد، والعناية بالعناصر السمعية والبصرية، والسرد بالأشياء، أو بالديكورات والأكسسوارات، إضافة لتقنية اللقطة عن قرب وعن بعد، إلى جانب تقنية المونتاج أي التقطيع بين المشاهد.
الناقد «نبيل حداد»
ويقدم الدكتور نبيل حداد مثالا لشكل العلاقة بين الرواية وفن السينما، برواية مي التلمساني، «أكالبيلا» التي صدرت عام 2012، وتحولت إلى فيلم سينمائي تحت عنوان «تفاحة حواء»، عام 2016، حيث عمدت التلمساني إلى الإستعانة في روايتها بالراوي الذي يؤدي وظيفة إدارة ونقل المشاهد، والتواصل وضبط السرد، وإدارة التحولات في الزمان والمكان والإنسان والسرعة وضبط اللقطات وإيقاعها وفقا لتطور الحدث، والفعل ورد الفعل.
وعن العلاقة بين الرواية والسينما أيضا قدمت باحثتان من الجزائر، هما الدكتورة سعيدة كحيل، والدكتورة سلوي رميشي، ورقة بحثية مشتركة تحت عنوان «تشكل خطاب الرواية السينمائية من الإختراق إلى الإبداعية، رواية صراع العروش، لجورج آر مارتن، بين الحرفية والتكييف السينمائي»، حيث أشارتا إلى أن تلك الرواية شهدت إقبالا، لا نظير له من قبل فئة الشباب على وجه الخصوص، لما استندت إليه من تقنيات مرتبطة بعالم السينما.
في هذا السياق تشير الباحثتان كحيل ورميش، إلى أن فن الرواية قد أفاد كثيرا من عالم السينما، وما قدمه عالم وسائل التواصل الاجتماعي من تقنيات حديثة طورت هذا الفن وجعلته في المقدمة، حيث يمكن الإشارة إلى بروز جنس إبداعي جديد يستند فيه الأديب على تكثيف مقومات العمل السينمائي، وإبراز أدوات كتابة السيناريو، بحيث تصبح الرواية تصويرية أو الرواية مكتوبة للسينما بالأساس.
وإذا كان فن الرواية، قد أستفاد كثيرا من الإستعانة بتقنيات فن السينما، إلا أنه ومع بروز وسائل التواصل الإجتماعي وظهور ما يعرف بالرواية التفاعلية، التي يتم فيها الإستعانة بالكلمة مع الصوت والصورة، وفي ظل ثقافة الصورة التي أصبحت شائعة في الآونة الأخيرة، أصبحت الرواية محل تهديد شديد. هذا الامر كان مبعث تخوف كثيرين من ضيوف ملتقى الرواية العربية الذين أكدوا أن هذا التحدي بات يفرض على الأدباء(الروائيين) تطوير مهاراتهم وابتداع سبل جديدة في السرد، تجعل ذلك الجيل الجديد من الشباب الذي نشأ في ظل ثقافة الصورة، يعود إلى الكلمة المكتوبة، وإلى فن الرواية التقليدي، الذي أصبح مهددا ً بالانقراض مع ما يشهده العالم من بروز لما يعرف بفن الرواية التفاعلية، التي تعد بحد ذاتها فناً جديداً تماما، يختلف كثيراً عن الرواية في صورتها التقليدية المتعارف عليها.