كثيرة هي الدراسات التي تتحدث عن ارتفاع نسبة الأسر التي تعولها نساء، واضطرار عدد غير قليل من السيدات إلى الالتحاق بمجالات عمل ومهن جديدة كانت يوما ما قاصرة على الرجال، غريبة ومستبعدة تماما بالنسبة للمرأة، سواء لطبيعتها الشاقة المرهقة أو لنظرة المجتمع الرافضة لعمل المرأة فيها. لكن هذا الوضع تغير إلى حد كبير خلال السنوات الأخيرة، فقد بات مألوفا – نوعا ما -أن تشاهد في شوارع القاهرة سائقة تاكسي أو سائقة ميكروباص، بل سائقة السيارة الخاصة التي تعمل لدى بعض الشركات الخاصة فى مجال النقل الملاكى.. فلماذا اقتحمت النساء تلك المهن التي كانت مقصورة على عالم الرجال؟ كيف تعاملن مع نظرة المجتمع إزاء ذلك؟، وما هي المشكلات أو الصعوبات التي تواجه المرأة حين تقتحم مهنة صعبة كانت «للرجال فقط»؟
اقرأ أيضا:
على سبيل الاكتشاف والمغامرة، قررنا اقتحام عالم إمراة، عاندتها الظروف وقست عليها الحياة فوجدت نفسها فى مواجهة صعبة مع واقع مر، فما كان منها إلا أن تحدت نفسها وظروفها وقررت أن تدخل معترك مهنة قاسية، وهي أن تعمل سائقة، لكن الأغرب هو أن تعمل سائقة ميكروباص (حافلة ركاب صغيرة)
سحر (اسم مستعار) هي سيدة في النصف الثاني من عقد الأربعينيات من عمرها، حاصلة على بكالوريوس تجارة، إضافة إلى دبلوم تربوي، من كلية التربية بجامعة عين شمس، تعيش بإحدى المدن الجديدة، توفى زوجها فجأة، فوجدت نفسها أمام خيارين: إما أن تحل مكان زوجها المتوفي، كسائقة على الميكروباص الذى كان يعمل عليه فى السنة الأخيرة من حياته، أو أن تدفع بواحد من ابنيها الطالبين بالجامعة للعمل على ذلك الميكروباص، فاختارت أن تعمل هي سائقة للميكروباص وأن تترك ولديها للتفرغ لدراستهما. تقود سحر الميكروباص كل يوم تلاحقها على الطريق نظرات الناس، وضحكاتهم، وصياح بعضهم «أنتي جبارة قوي»، وتعليقات أهلها «دي شغلانة رجالة»، لكن ما يؤثر فيها هو خجل ورفض ولدها الكبير، لطبيعة عملها.
لكنها وخلال لقائها مع «أصوات أونلاين» تتحدث سحر ، وبحماس شديد عن عملها، وتضحك بسخرية تحمل خلفها الكثير من الأسى، وهى تقول «دبلوم تربوي وباشتغل سواقة ميكروباص». تروي سحر عن معاناتها كما معاناة غالبية الناس من غلاء المعيشة وصعوبات الحياة التي دفعتها لأن تمتهن هذا العمل الشاق.
سحر تمثل النموذج الشائع للأم المصرية بامتياز، «همها وحلمها ومستقبلها» مرهون بهموم وأحلام ومستقبل أبنائها، تؤمن بأن التعليم والصحة، هما طريقا الرقي، سحر تقول «احنا شعب عنده كرامة».
قصة كفاح
ولدت سحر بحي غمرة بالقاهرة، وفيه عاشت مع أسرتها المكونة من والدها ووالدتها وأختها وأخيها، حتى تزوجت بعد تخرجها من الجامعة. تصف سحر غمرة، بأنه حي شعبي جميل، يتسم بالترابط بين الناس، كان والدها يعمل في الصباح بإحدى الشركات العامة كمندوب مبيعات، وفي المساء يعمل كسائق تاكسي. وكانت والدتها تساعده على المعيشة، بالعمل في مجال تجارة الملابس الجاهزة، تشتريها من حي العتبة، لتقوم ببيعها لجاراتها.
تزوجت سحر في الثانية والعشرين من عمرها، من شاب حاصل على ليسانس الحقوق، لتنتقل معه للعيش بتلك المدينة الجديدة على أطراف القاهرة، عمل زوجها في المحاماة فترة من الزمن، غير أنه لم يكتب له النجاح في هذا المجال، فتحول للعمل في مجال الإستيراد والتصدير، كمندوب مبيعات، كان راتبه الصغير من عمله إلى جانب راتبها الصغير، من عملها كمدرسة، بإحدى المدارس الخاصة، هما النواة الأولى، لبدء حياتهما المشتركة.
بعد عام واحد ازدهر عمل الزوج وتحسنت معيشة سحر، وانتقلت أم سحر بعد وفاة زوجها من العيش بحي غمرة إلى العيش بالمدينة الجديدة التي تعيش فيها ابنتها، حيث تمكنت من شراء شقة خاصة بها، و افتتاح «سوبر ماركت» صغير. فتركت سحر عملها بالمدرسة، التي كانت تتقاضى منه راتباً صغيراً، لتساعد والدتها في عملها، وتتفرغ لتربية طفليها، اللذين صارا الآن طالبين بالجامعة، أحدهما بكلية التجارة والآخر بكلية السياحة والفنادق.
ثم جاءت ثورة 25 يناير 2011، ليشهد قطاع الإستيراد والتصدير العديد من الهزات، فيفقد زوج سحر عمله في هذا المجال، ليبحث كثيرا عن عمل آخر، فلا يجد أمامه سوى أن يحول سيارته الخاصة إلى تاكسي، يعمل عليه فترة من الزمن، ومن ثم يشتري بمساعدة مالية من حماته، سيارة ميكروباص صغيرة، يعمل عليها لمدة سنة تقريبا، ليتوفي فجأة نتيجة أزمة قلبية مفاجئة، بسبب حزنه الشديد لعدم قدرته على الوفاء بكل متطلبات أسرته، رغم عمله المتواصل.
بداية الرحلة
هنا وجدت سحر نفسها أمام الخيار الصعب إما أن تمتهن ذلك العمل غير المألوف للنساء، أو تقرر أن يترك واحد من ابنيها جامعته للعمل كسائق ميكروباص. اختارت سحر العمل بدلا من ابنيها، فقد خافت عليهما من التعامل مع سائقي الميكروباص، الذين يشاع عن أغلبهم أنهم يتعاطون المخدرات، كما أنها أبت أن يترك ولداها الجامعة، للانخراط في عمل لا تراه كأم مناسبا لهما.
عملت سحر في دورات توصيل تلاميذ المدارس الخاصة صباحا إلى مدارسهم، كما عملت مع جاراتها في مختلف المشاوير الخاصة بهن وبأسرهن. ارتضت أن تكون «سائقة الميكروباص» التي تتعرض من خلالها للكثير من المضايقات، فالتعامل مع الناس، من أصعب الأمور لديها، نظرات الناس اليها، وتعليقاتهم الساخرة، التي تلاحقها إينما ذهبت، والمحملة في بعض الأحيان بالكثير من الإيحاءات الجنسية، هي أكثر ما يضايقها.
أما أصعب المواقف بالنسبة لعمل سحر في هذا المجال، فهي عند التعامل مع «الصنايعية» مثل الميكانيكي والسمكري وغيرهما، ممن تتعامل معهم عند صيانة السيارة، حيث يتطاول بعضهم عليها، فقط لكونها أنثى تعمل في هذا المجال شبه المغلق على الرجال. يضاف إلى ذلك بعض المشكلات مع رجال المرور، سواء وهى تسير على الطريق أو عند تجديد رخصة القيادة.
شغلانة.. رجالة
عائلة سحر نفسها لم تتقبل في البداية عملها بهذه المهنة، فكانوا دائما يرددون على مسامعها «دي شغلانة رجالة»، أما ابنها الأكبر- كما تقول – فلم يتقبل مطلقا عملها هذا، ولطالما تشاجر معها، وطالبها بأن تكف عن العمل، على أن يعمل هو بدلا عنها، غير أنها رفضت بشدة، فلجأ للعمل بأحد محال الحلويات، حتى يتمكن من تدبير مصروفاته الشخصية كي يخفف العبء عنها، وكذلك فعل شقيقه الأصغر، الذي عمل بمجال مشابه كى يخفف العبء عن والدته.
وهي تتحدث عن الهموم والأحلام والمستقبل، فإن سحر الأم ،لا تتحدث عن همها وحلمها ومستقبلها، بل تتحدث عن هموم ابنيها وخوفها عليهما من المستقبل، وعدم توافر فرص عمل مناسبة لهما بعد التخرج من الجامعة، وصعوبة الحصول على شقة لكل منهما يتزوج فيها.
المشكلة الكبرى من وجهة نظر سحر والتي يعاني منها المجتمع المصري بشكل عام تتمثل في ارتفاع الأسعار بشكل هائل، وبما لا يتناسب مع إمكانات عموم الناس، إضافة إلى عدم توفر فرص العمل، ومشكلة المحسوبية والوساطة التي أصبحت مفتاح السر لحل كافة المشكلات. هنا تقول سحر إن حقها في الحياة هو العيش الكريم، والحق في الحصول على معاش مناسب لها، وأن ترى وطنها مصر ينعم بالنظافة والنظام والحياة الكريمة، و«العدل باعتباره أساس الملك»، ولطالما رددت سحر في أكثر من موضع مقولتها الشهيرة «احنا شعب عنده كرامة». وهي في قولها هذا تؤكد على أن دور الحكومة الأساسي لابد وأن يكون – قبل أي شيء توفير سبل العيش الكريم لكل المواطنين.