لا يُدرَك الحق إلا بالجهد، ولا تنجلي الحقيقة إلا لمن ضحَّى من أجلها، ولا يصبح المرء من ذوي البصائر؛ إلا إذا كان نهجه الإخلاص، وديدنه التجرد للمبدأ القويم، وهذا هو سلمان الفارسي.. رجل يقف على ذروة لم يصل إليها غير ثُلة من المخلصين.. فهو المستعفف إذا طمع الناس، المستغني إذا تكالبوا على الدنيا، المستمسك إذا فرَّطوا، المتواضع إذا تكبَّروا. ويوم فُتِحت الدنيا وجُبيت الأموال من شتى بقاع الأرض حتى أوفى عطاؤه على الخمسة آلاف درهم؛ لم ينتفع منها بفلس واحد، بل ذهبت كلها لفقراء المسلمين، أما سلمان فلم يطعم قط إلا من عمل يده. يصنع الخوص بيده ويبيعه ويأكل منه. وفي المدينة لم يتخذ سكنا، وإنما كان يستظل بالفيء حيث دار.
يوم الخندق
سلمان منا آل البيت.. قالها الرسول الخاتم عندما تنازع المهاجرون والأنصار الرجل.. كلٌ يريد نسبته إليه يوم الخندق- وهي الحادثة الأشهر عن سلمان إذ أشار على الرسول بحفر خندق حول المدينة لصد هجوم قريش وغطفان وهو أمر لم تعرفه العرب؛ إذ كان مما تفعله أمة الفرس في الحروب دون غيرها. وقد حفظ الله بهذا الخندق الإسلام ودولته– وهنا يقرر الرسول الأعظم أمرا بالغ الأهمية، وهو أن لسلمان من الفضل والسبق ما يؤهله لأعلى مكانة، وأي مكانة أسمى من الانتماء لآل بيت النبي الأكرم.. وسلمان جدير بها، إنَّها مكافأته الكبرى عن مجمل أعماله العظيمة وآثاره الفريدة ورحلته الخالصة عبر عمره المديد، لم يبغ فيها إلا أن يكونَ على الجادة، ولا يرجو إلا أن يُقبض سائرًا على طريق الحق، لا يشقى بكثرة ما يلقى من وعثائه، ولا يعجزه عنه شدة البلاء، فأي رجل كان سلمان؟
«لقد أُشْبِع سلمان عِلماً».. وهذه شهادة أخرى له من رسول الله، وكان قد آخى بينه وبين أبي الدرداء، وكان أبو الدرداء رجلا عابدا يصوم النهار ويقوم الليل، ويهمل ما دون ذلك، ورأى سلمان أن في ذلك مجاوزة للحد تكاد تضر بعد حين؛ فإذا به ينهاه عن صوم يوم نافلة كان قد نوى صيامه فيتعجب أبو الدرداء ويقول له: أتمنعني أن أصوم لربي وأصلي له؟! فيجيبه سلمان: إن لعينيك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا-صم وأفطر، وصل ونم.. وعندما بلغ ذلك الحبيب قال: «صدق سلمان».
لا فقه مثل فقهك يا سلمان ولا اعتدال مثل اعتدالك؛ وكأنَّك أدركت المقياس وعرفت الغاية؛ فلا إفراط ولا تفريط، ولا إكثار ولا إقلال وإنَّما كل شيء بميزان هو أدق وأرقى من ميزان الذهب.
هكذا كان فهمه رضي الله عنه للتوسط في العبادة وفي تقدير كل شيء بقدره حتى لقَّبه الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- بـ«لقمان الحكيم» وعندما سئل عنه أجاب: «ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم؟ أوتي العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف».
من يَمَلُّ صحبة سلمان أو ينأى عنه أو يستطيع أن يُنزله منزلة دون منزلته، لقد كان عمر رضي الله عنه أزهد الناس في إظهار التعظيم والتبجيل لأي من كان من صحابة رسول الله، مهما بلغت به الدرجات، ومهما ارتفعت به الأعمال، إلا أنَّه وهو الخليفة الذي تخضع له ممالك الأرض لا يستنكف أبدًا أن يأمر أصحابه بالخروج معه إلى مشارف المدينة لاستقبال سلمان وقد أتى المدينة زائرًا من مقر ولايته بالمدائن.
مكانة عظيمة
ربما توضح لنا رواية أبي الدرداء الواردة في حلية الأولياء سر هذه المكانة العظيمة لسلمان في نفوس كل المسلمين على اختلاف طبائعهم- إذ قال عن سلمان: إن فيكم لرجلا كان رسول الله إذا خلا به لم يبغ أحد غيره. كما أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب عن عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول الله ينفرد به في الليل؛ حتى كاد يغلبنا على رسول الله.
وقد ولي سلمان رضى الله عنه ولاية المدائن على عهد الخليفة عمر بن الخطاب، كما ذكرنا آنفا؛ فكانت سيرته بين أهلها مضربًا للأمثال، وقيل إنَّه لم يتخذ له بيتًا إلا بعد أن ألحوا عليه وأتوا إليه ببَّنَّاء حصيف، فقال له سلمان: كيف ستبنيه؟ فأجابه قائلا: لا تخف إنَّها بناية تستظل بها من الحر وتسكن فيها من البرد، إذا وقفت فيها أصابت رأسك، وإذا اضجعت فيها أصابت رجلك. فقال له سلمان: نعم هكذا فاصنع.
وكما كان سلمان يفعل بعطائه؛ كذلك فعل براتبه وكان قد أربى على الستة آلاف درهم، يوزعها كلها على الفقراء ولا يبقى منها درهما واحدا، وليس له إلا عباءة واحدة يلبسها ويفترشها، فكان يسير بين العامة وكأنه واحد منهم. وقد روي أن رجلا جاء من الشام ومعه حمل من تين وتمر، وكان الحمل قد أثقله فبصر رجلا يسير في أثمال فعرض عليه أن يحمل عنه ففعل، ثم أنهما التقيا جماعة من الناس وهما سائران، فألقى عليهم الرجل السلام فردوا: وعلى الأمير السلام، ففزع الرجل وأراد أن ينزل الحمل عن كاهل سلمان، وكذلك أراد أن يفعل الرجال، إلا انه أبى وقال للرجل: إلا أن أبلغك به دارك.
والغريب أنَّ الوشاة رأوا في هذا المسلك العظيم والزهد الذي لا يقارن مأخذَا على سلمان، بل إنَّهم اتهموه عند عمر بأنَّه يزري بهيبة الدولة، وقيل أنَّ عمر كاتَبَه في ذلك داعيًا إياه إلى حفظ هيبة الدولة بالامتناع عن تلك الأفعال، وقيل أن سلمان قد رد عليه برسالة مطولة بليغة، ونحن هنا نقف من كل هذا موقف الشك، فلا عمر بمن ينهى الناس عن الزهد والتواضع وقد عُرف بهما طيلة حكمه، وما هو بالعاتب على سلمان في مثل هذا الأمر وقد عَرف له مكانته وفضله.
لما مرض سلمان، خرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من الكوفة يعوده ،فقدم فوافقه وهو في الموت يبكي فسلّم وجلس، وقال: ما يبكيك يا أخي؟ ألا تذكر صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تذكر المشاهد الصالحة؟ قال: والله ما يبكيني واحدة من اثنتين، ما أبكي حباً بالدنيا ولا كراهية للقاء الله، قال سعد: فما يبكيك بعد ثمانين؟ قال: يبكيني أن خليلي عهد إلى عهدا قال: «ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب» وإنَّا قد خشينا أنَّا قد تعدّينا.
ويروى خالد محمد خالد في كتابه «رجال حول الرسول» عن آخر أيام هذا الرجل العظيم في دار الفناء أنه كان قد ائتمن زوجته على شيء وأوصاها أن تخفيه، فلما كان ذلك اليوم ناداها وقال لها: هلمي خبيئتك التي استخبأتك، فجاءت بها وإذا هي صرة مسك، كان قد أصابها يوم فتح «جلولاء» ثم دعا بقدح من الماء نثر فيه المسك ثمَّ أمرها أن تنضحه حوله وقال لها: إنَّه يحضرني الآن خلق من خلق أهل الله لا يأكلون الطعام وإنَّما يحبون الطيب.
وتفيض روحه الطاهرة إلى بارئها في مشهد يليق برجل من رجالات الإسلام العظام، وكأنَّه حوى الفضائل كلها فلم يغادر منها شيئا وكانت إحداها تكفيه، إنه سلمان الفارسي سيد من آل بيت النبوة.