منوعات

المقداد بن عمرو.. فارس الإسلام الأول

تهيِّئ الأقدار له السبيل إلى مهبط النور؛ فيغادر مضارب «كِنْدة» قرب «حضرموت» فاراً من وجه «أبي شُمَّر بن حجر» الذي ناله سيف «المقداد» في نزال فرضته خصومة لم يسع لها «ابن عمرو».. لكنها -كما قلنا- أقدار تدفع بالفارس إلى صحبة ليس كمثلها صحبة، وإلى سيرة ستصير مضرب الأمثال..

إسلام.. وهجرة

لا تنسى صفحات الإسلام الزاخرة بالبطولة المقداد ابن عمرو، فهو سابع الداخلين إلى الإسلام.. لكن مولاه الأسود بن عبد يغوث الذي دخل في حلفه يوم نزل مكة؛ كان من أشد الناس حقدا على محمد، ومن أشد طواغيت قريش نقمة على من يتبعه.، كما أن المقداد لا ينسى له أنه آواه ونصره واتخذه لدا ونسبه إليه فدُعِيّ المقداد ابن الأسود.. لكن حُبَّ رسول الله لم يُبق موضعا من قلب الفتى شاغرا؛ ولكم كان يتوق لإعلانها في ملأ قريش عالية مدوية يتردد صداها في أرجاء مكة: إني اتبعت محمدا وآمنت بالنور الذي جاء به؛ ليغمر مكة وما حولها.. مكة التي أحبها وتعلق بها برغم أنه رآها مجتمعا عجيبا يحفل بكثير من المتناقضات، يتجاور فيها الثراء الفاحش والفاقة المهلكة، والجَور البيّن مع المكرمات، كإغاثة الملهوف وقِرى الضيف؛ ورغم مخاوفه وهو الغريب الطريد فقد أبت نفسه عليه إلا الإعلان عن لحاقه بركب الأنوار، وانضوائه تحت لواء الحمد، واغتنامه ذلك الفضل العظيم.

ويأمره المصطفى بالهجرة إلى الحبشة فيرحل إليها ويبقى فترة حتى يُؤمر بالعودة إلى مكة، وكان الله قد أذن لرسوله في الهجرة إلى يثرب، ويشدد الأسود على المقداد في عدم مغادرة مكة، ويضع عليه العيون؛ لكنه يحتال لأمر هجرته فيخرج في سرية يقودها عكرمة بن عمرو كانت قد تهيأت لقتال بَعْثٍ أرسله الرسول بقيادة حمزة لاستطلاع عير لقريش؛ فأسرع المقداد بالانضمام إليهم؛ موهما إياهم أنه يرغب في قتال أصحاب محمد؛ فلما تراءى الجمعان انفصل المقداد بفرسه عن جند المشركين، والتحق بسرية المسلمين، وما لبث الفريقان أن عادا دون قتال، فقدم المقداد المدينة على رسول الله، فاستقبله وأحسن استضافته وكان ذلك في العام الأول للهجرة.

بطل غزوة بدر

ويكون المقداد في يوم بدر فارس الإسلام الأول الذي يصول ويجول ويجندل صناديد الكفر من قريش، ويشهد له بذلك من لا ترد شهادته، إذ روي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن عمرو» كما روي عن القاسم بن عبد الرحمن أنه قال: «أول من عدا به فرسه في سبيل الله المقداد» وقد شهد المقداد المشاهد كلها مع الرسول ما تخلف عن مشهد واحد، وقد كان أحد سبعة صمدوا في الدفاع عن الرسول يوم أحد، وقت أن انكشف عنه كبار الصحابة، وكان يرمي المشركين بالسهام إذ كان من الرماة المعدودين، ويومها كان قائدا لفرسان المسلمين ومعه الزبير، وهما من كسرا فرسان قريش في بداية المعركة، وكان على رأسهم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، وهو القائل ما تركت آية «انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً…» لنا عذرا في القعود، فكان رضي الله عنه ممن فتح الله بهم جزيرة قبرص، وكان قد جاوز الثامنة والستين من عمره، وقد كانت منزلته عند رسول الله منزلة عظيمة، وقد روي في الصحيحين أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجنة تشتاق إلى أربعة: علي، وسلمان، والمقداد، وأبي ذر« وورد  أيضا أنه قال «إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: علي، وسلمان، والمقداد، وأبي ذر».. كما روى عنه الإمامان أنه قال: «لم يكن نبي إلا أعطي سبعة نجباء وزراء ورفقاء وإني أعطيت أربعة عشر، عَدَّ منهم المقداد».

 ومن المستغرب أنَّ رجلا كالمقداد لا نجد له كثير ذكر في كثير من كتب التراث؛ فيما يشبه النبذ؛ برغم سيرته التي تتلألأ بعظيم المواقف وحميد الخصال حتى أن أعداءه لم يستطيعوا أن ينالوه بسهم من سهام النقد.. وربما كان مرجع هذا التهميش أنه ترفع عن الإمارة؛ فعندما ولاه الرسول إمرة نفر من أصحابه، ثم سأله كيف وجدها، فذكر له المقداد ما شعر به في نفسه من رفعة على من ولي شأنهم؛ ثم أقسم بالله ألا يلي إمارة بعد ذلك مهما كانت الظروف، حتى أنه كان يرفض أن يصلي بالناس إماما، وليس منهم من هو أعلم منه بالقرآن، فأي رجل كان المقداد؟

   ومما يعزز هذا الرأي القائل أن غض الطرف عن سيرة فارس الإسلام الأول برغم حُسن بلائه الذي امتد قرابة النصف قرن، ما ذهب إليه محمد علي إسبر من «أن المؤرخين في أكثريتهم درجوا على أن يضعوا أقلامهم جندا في دولة الحكام والأمراء» وفارسنا قد رفض الإمارة، بل أنه وقف -دائما- أمام الحكام والأمراء يأمرهم وينهاهم، ولا يخاف في الله لومة لائم، وقد كانوا يتأذون كل الأذى من شجاعته في الحق.

 ومن المعروف أن انحياز المقداد للإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه، كان معلنا واضحا صريحا، منذ أن توفي الرسول الأعظم، وقد روي أنه أعلن غير مرة قناعته التامة بأن عليا هو الأحق والأجدر بخلافة رسول الله دون منازع؛ وهو لا يخشى مصارحة عبد الرحمن بن عوف برأيه، عشية اختياره عثمان للخلافة ،فيقول له: «أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون»؛ ولعل موقفه هذا هو ما جر عليه عداء قريش، وتجاهل المؤرخين لسيرته العطرة؛ بالرغم من أنه لم يكن من خاصة محمد فحسب؛ بل كان من أعز الناس وأقربهم إلى قلبه.

فارس بألف فارس

وإلى هذا الموقف الكاشف لمكانة المقداد عند خير الأنام، حتى نرى عظمة محمد ومحبته للخُلَّص من أصحابه، فلقد روي أن عبد الرحمن بن عوف سأل المقداد ذات يوم مستنكرا: لم لا تتزوج؟ فأجابه المقداد:  ولم لا تزوجني ابنتك؟ فغضب عبد الرحمن وهاج وماج، إذ كيف  لهذا الشريد الطريد حليف الأسود بن عبد يغوث أن يتطلع لمثل هذا النسب، ويحزن المقداد حزنا شديدا ،إذ كان يرى أن الإسلام إنما جاء ليهدم هذه العصبية المقيتة، ويعيد للإنسانية جوهرها الناصع في المساواة بين أبنائها إعمالا لقوله تعالى: «…إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ…» ويذهب المقداد ليشكو إلى حبيبه –صلى الله عليه وسلم- ما كان من عبد الرحمن، فيخبره الرسول أنه هو من سيزوجه، ومَن الزوجة يا تُرى؟ إنها ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، ابنة عم الرسول فأي شرف حظي به المقداد، وما شرف النسب في الزواج من ابنة عبد الرحمن بن عوف إلى نسب الزواج من ابنة عم رسول الله؟  لاشك أن الفرق شاسع. ويتزوج المقداد من ضباعة فتنجب له ابنة جميلة يسميها كريمة، وتكون قرة عين له وهو المطهر من أدران الجاهلية حتى قبل إسلامه، فقد عُرف عنه أنه كان ينشد العدل والمساواة والإخاء الإنساني أينما حل، كما كان من أشد المبغضين للاستعلاء والتكبر الذي أصاب البعض من قريش، وما نفعهم حتى إسلامهم في التخلص منه، فعادوا من بعد وفاة المعصوم، يتنادون بمجد قريش وعزتها وسيادتها على سائر العرب.

شارك المقداد في حروب الشام وكان من أبطال اليرموك، كما كان مع الفاتحين لقبرص كما ذكرنا آنفا، وكان أيضا في مدد الخليفة عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص في فتح مصر، وقال عنه عمر أنه فارس بألف فارس، كما ورد في الأثر: «ما بقي أحدٌ إلا وقد جال جولة إلا المقداد بن الأسود فإن قلبه كان مثل زبر الحديد، وهو من الذين مضوا على منهاج نبيهم ولم يغيّروا ولم يبدلوا».

 يعود المقداد إلى المدينة بعد هذه الرحلة الطويلة من الجهاد لإعلاء كلمة الحق، وهناك في الجرف على بعد نحو ثلاثة كيلو مترات من المدينة يموت بعد أن بلغ السبعين، فيحمل على أعناق الرجال إلى المدينة؛ حتى يدفن في البقيع، وهناك يواريه عمار بن ياسر الثرى ويبكيه صحابة رسول الله ممن عرفوا سبقه وفضله وبطولاته الخالدة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock