«مولاي صل وسلم دائما أبدا .. على حبيبك خير الخلق كلهم»
«البردة» للإمام البوصيري تعد درة قصائد المديح النبوي، فهى واحدة من أشهر القصائد الدينية التي مازال يرددها المنشدون الصوفيون، بمختلف المناسبات الدينية بمصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وكلما أنشد المنشدون مقطعا منها، رددت المجموعة والحضور على إختلافهم، «مولاي صل وسلم دائما أبدا .. على حبيبك خير الخلق كلهم».. هى درة تاج القصائد والأشعار التى مدحت الرسول الكريم.
«الإمام البوصيري» هو الشيخ الإمام شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي، وترجع الدكتورة سعاد ماهر محمد في الجزء الثالث من دراستها «مساجد مصر وأولياؤها الصالحون» سبب شهرته بلقب «البوصيري» إلى أن والده كان ينتمي لقرية دلاص ووالدته تنتمي لقرية بو صير، والقريتان تنتميان لمحافظة بنى سويف، فركبت النسبة منهما فقيل «الدلاصيري» ثم اشتهر «بالبوصيري».
ولد «الإمام البوصيري» – وفقا لما أشار إليه الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة»- في ناحية «دلاص» بصعيد مصر، سنة 608 هجريا الموافقة لسنة 1213 ميلادية، وحفظ القرآن في قرية «بوصير» وتعلم قواعد اللغة العربية، وتتلمذ على يد القطب الصوفي الكبير أبي العباس المرسي.
العمل بالجباية.. ومكائد الموظفين
عمل البوصيري في بداية حياته العملية في مهنة «الكتابة على الجبايات»، والمقصود بها العمل في مجال الضرائب، ببلدة بلبيس بالشرقية، إلا أن عدم أمانة المشتغلين معه بهذه الوظيفة جعله يزهد الوظائف على اختلافها، ويلجأ إلى حياة التصوف والإنقطاع للعبادة، وقد نظم عدة قصائد شعرية عن موظفي عصره جاء بمطلع إحداها:
«خبرت طوائف المستوظفينا .. فلم أجد فيهمُ رجلا أمينا»
يستشهد الدكتور نبيل حنفي محمود في دراسته، «أئمة وشعراء غنائيون» بما أشارت إليه الدكتورة فاطمة محجوب في «الموسوعة الذهبية للعلوم الإسلامية» بأنه حين بلغت هذه القصيدة، أسماع موظفي دائرته، زادوا من كيدهم ومعاندتهم له إلى حد أنهم قاموا بسرقة «حماره» فأنشد فيهم يقول:
«أرى المستخدمين مشوا جميعا .. على غير الصراط المستقيمِ
معاشرٌ لو وُلُّوا جنات عدنٍ .. لصارت منهمُ نار الجحيمِ
فما من بلدة إلا ومنهم .. عليها كل شيطان رجيمِ
فلو كان النجوم لها رجوما .. إذن خلت السماء من النجومِ»
يضيف دكتور نبيل حنفي: أن البوصيري لم يحتمل مكائد ودسائس الموظفين، فترك عمله بالشرقية ورحل إلى القاهرة قرابة عام 680 هجري، فوجد الشيخ ابن عطاء الله السكندري، يخطب في الناس بالجامع الأزهر، وكان ابن عطاء الله السكندري، قد التقي من قبل بقطب الإسكندرية أبي العباس المرسي وأخذ عنه طريق التصوف. تأثر البوصيري كثيرا بخطب السكندري، وحفزت الحوارات التي جمعته بابن عطاء الله، ومعرفته بأنه قد تتلمذ على يد أبي العباس المرسي، البوصيري أن يشد الرحال إلى الإسكندرية، ليلتقي بشيخه أبي العباس المرسي، لتبدأ الرحلة.
الطريق إلى البردة
تبدل حال البوصيري، حين انضم لجمهرة تلاميذ أبي العباس المرسي، فبعد أن كانت إبداعاته الشعرية تحمل الكثير من الهجاء، أصبحت تقتصر على المديح الذي بدأ بمدح شيخه وصولا لمديح الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم. وحين أراد البوصيري مدح شيخه أبي العباس أنشد يقول:
«فاصحب أبا العباس أحمد آخذا .. يدَ عارف بهوى النفوس منجد»
وحين أراد مدح القطب الصوفي الكبير أبى الحسن الشاذلي الذي قدم من المغرب إلى الإسكندرية، مع جمع من مريديه أنشد يقول:
«إن الإمام الشاذلي طريقة .. في الفضل واضحة لعين المهتدي»
تروي الدكتورة سعاد ماهر أن السبب الذي قد شاع عن نظمه لقصيدة «البردة» يعود إلى ما قيل حول تعرضه لمرض شديد، يسمى «الفالج» المقصود به «الشلل النصفي» حار الأطباء في مداواته، ما دفع البوصيري إلى أن ينظم قصيدة يستشفع بها، فلما أتمها رأى في منامه الرسول صلى الله عليه وسلم، مسح بيده الكريمه عليه، فعوفى لتوه.
قصيدة «البردة» التي أطلق البوصيري عليها عنوان «الكواكب الدرية في مدح خير البرية»، تشير إليها الدكتورة فاطمة محجوب، بأنها نالت شهرة كبيرة وتبرك بها الناس على اختلافهم من «خواص وعوام»، حتى أضحت تنشد بالجنائز والمساجد، وتستخدم في الإستشفاء من مختلف الأمراض.
تتكون قصيدة «البردة» من مائة وستين بيتا، قسمها شارحوها إلى عدة فصول، منها ما يتعلق بالغزل وشكوى الغرام، والتحذير من الهوى والنفس، ومنها ما يتعلق بمدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بالقرآن، منها المناجاة وعرض الحالة، وكان مطلعها:
«أمن تذكر جيران بذي سلم .. مزجت دمعا جرى من مقلة بدم؟
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة .. وأومض البرق في الظلماء من إضم»
أما ختامها فكان:
«وأذن لسُحب صلاة منك دائمة .. على النبي بمنهل ومنسجم
ما رنَّحت عذبات البان ريحُ صبا .. وأطرب العيسَ حادي العيسِ بالنغم»
«البردة».. ملهمة الشعراء
قصيدة «البردة» لم تقف عند حدود الإنشاد المتواصل لأبياتها، حتى أن بعض المنشدين قد ترنموا بها كاملة، وإنما الأمر بلغ حد أن العديد من الشعراء قد اجتهدوا في محاولة محاكاتها عبر ما عرف بفن «التخميس» و«التسبيع» في الشعر، والتخميس في الشعر كما يوضحه دكتور نبيل حنفي من «المخمس» وهو ما كان خمس شطرات، والتسبيع يتكون من سبع شطرات، ويشترط في التخميس أو التسبيع أن ينظم الشاعر ثلاث أو خمس شطرات من بحر القصيدة الأصلية، بنفس قافيتها، يتبعها ببيت واحد من القصيدة الأصلية، ومن أمثلة ذلك ما أوردته الدكتورة فاطمة محجوب، في محاكاة قصيدة «البردة» لنص محفوظ بدار الكتب الظاهرية بدمشق، والتي يقول فيها الشاعر:
«يا ساهيا ساهر العينين لم ينم
وحاله بالضنى يغني عن الكلم
ما بال دمعك منهلا كغيث هَمِي
(أمن تذكر جيران بذي سلم .. مزجت دمعا جرى من مقلة بدم)
و يضيف د. نبيل حنفى أن الأمر لم يقتصر على تخميس أو تسبيع «البردة» وإنما امتد ليشمل العديد من قصائد شعر الإمام البوصيري، ويضرب مثالاً بما نظمه صالح الخطيب الموصلي المتوفي سنة 1260 هجريا، مستخدما مطلعاً لإحدى قصائد البوصيري يقول فيها:
(كيف ترقى رقيك الأنبياء .. يا سماء ما طاولتها سماء)
وقد بدأت القصيدة بالشطرات التالية:
«كنت نورا وللوجود خفاء
ونبيا وليس ثم ابتداء
وإذا كان من ضياك الضياء
(كيف ترقى رقيك الأنبياء .. يا سماء ما طاولتها سماء)»
أما أبرز من ألهمته «البردة» من الشعراء، فهو أمير الشعراء أحمد شوقي، حيث نظم قصيدته «نهج البردة»، التي أنشدتها كوكب الشرق أم كلثوم، وكان مطلعها:
«ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
الروح والملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بشراء»
أمضى الإمام البوصيري سنوات عمره الأخيره مجاورا لشيخه أبي العباس المرسي، حيث أقام بزاوية صغيرة مواجهة لجامع شيخه المرسي، حتى وفاته التي اختلف المؤرخون على تحديد موعدها فمنهم من أشار إلى أنها كانت سنة 695 هجريا ومنهم من رأى أنها قد حدثت سنة 696 هجريا الموافق لسنة 1295 ميلاديا. ودفن بذات تلك الزاوية التي عاش فيها آخر أيامه، والتي تحولت إلى مسجد فيما بعد، ليصبح بذلك الإمام البوصيري مجاوراً لشيخه الإمام أبي العباس المرسي حياً وميتاً. ولتبقى «البردة» شهادة حية على الإبداع الخالص لأحد الأئمة المسلمين الذين أثروا الحياة، ومازال أثرهم حيا حتى لحظتنا الراهنة.