كان الطفل «أنطوان» ابن الخامسة يستمع إلى حكايات أبيه عن مصر بشغف كبير، فقلد كانت مصر –وربما ما زالت- تمثل ولعا خاصا لدى كثير من الفرنسيين؛ لذلك من الممكن أن نتخيل فرحة الرقيب أول «بارثلمي كلو» والد «أنطوان» باختياره للسفر ضمن الحملة المتجهة إلى مصر، وكيف أنَّه كاد يطير شوقا من مدينته «غرونوبل» إلى ميناء «تولون» الذي ستتحرك منه سفن الحملة قاصدة الإسكندرية.. ولنا أيضا أن نتصور ما أصابه من خيبة أمل بعد استبعاده من الحملة لاعتلال شديد في صحته بسبب تمكن داء «الربو» منه؛ ولمّا كانت «غرونوبل» مدينة ترتفع نسبة الرطوبة فيها؛ كان لزاما على الأسرة الرحيل عنها إلى «برينول» حفاظا على حياة الوالد.
نجابة مبكرة فى تعلم الطب
في «برينول» القريبة من «نيس» لم تتحسن صحة الوالد الرقيب أول بارثلمى كلو، ربما بسبب الفاقة الشديدة التي كانت تعاني منها الأسرة، تلك الفاقة التي لم تمكِّن «أنطوان» من الالتحاق بالمدرسة؛ لكن الأقدار ترفقت به إذ بعثت له عمَّة كانت راهبة وأُجبرت على مغادرة الدير في أحداث الثورة، لتكون له معلمة خاصة، بمعاونة وإشراف أبيه.
في زيارة للوالد المريض يتعرف الدكتور «سابيه» على الفتى «أنطوان» فيعجب بذكائه؛ ويتخذه مساعدا وتلميذا. إذ بدأ بتلقينه المبادئ الطبية وبعض الإجراءات والتدابير الصحية؛ مصطحبا إياه في زياراته المنزلية التي كانت في معظمها للمقعدين وكبار السن، كما شجعه على الاطلاع على ما في مكتبته الصغيرة من كتب طبية.
وكانت أول جراحة أجراها «أنطوان» إزالة كيس دهني، ظل محتفظا به في الكحول لعشرين سنة تالية.. ثم مات والده وهو في السابعة عشرة.. ولثلاث سنوات تالية بقي «أنطوان» مع والدته في «برينول» التي كانت أصغر من أن تلبي طموحاته، فقرر الانتقال إلى «مارسليا» رغم ممانعة والدته؛ فوصلها وليس معه سوى بعض الكتب الطبية وساعة ذهبية ورثها عن والده وبعض أدوات الجراحة البدائية، واضطر لبيع الساعة.. ثم اضطر لقبول العمل كصبي حلاق.
يلتحق «أنطوان» بالعمل بمشفى المدينة، بعد أن التقى بصديق قديم من «غرونوبل» كان يدرس الطب في «مارسيليا» وقد أسدى هذا الصديق إلى «أنطوان» خدمة جليلة، إذ منحه عددا من الكتب الطبية الحديثة، انكب عليها الفتى دارسا يصل الليل بالنهار، مستغرقا في العمل الطبي في مستشفيات الفقراء وكمساعد في مستوصف، وكضابط صحة بالمناطق الريفية، مما أكسبه خبرة واسعة بعد أن زادت قدرته على التحصيل بتعلم اللغة اللاتينية وإتقانها على يد أحد القسس.
ورغم كل ذلك فقد وجد «أنطوان» نفسه في الثانية والعشرين من عمره، دون أن يحصل على شهادة في الطب؛ فتقدم بطلب التحاق لكلية الطب بمدينة «مونبيليه» واجتاز اختبار الفحص بامتياز ما جعل إدارة الكلية تعفيه من الدراسة بالسنوات الثلاث الأولى، وخلال سنوات الدراسة المتبقية أظهر «أنطوان» نبوغا واضحا خاصة في علم التشريح، ثم تقدم بأطروحته الأولى عن التهابات الحبل الشوكي، ونال الدرجة العلمية، ثم تقدم بأطروحته الثانية عن استعمال آلات الولادة في الأحوال الخطيرة؛ ليجمع بذلك المجد من طرفيه بعد حصوله على درجتين علميتين في التطبيب و الجراحة..
حكيم باش الجهادية المصرية
هذه المسيرة العلمية الشاقة المظفرة جعلته ينطلق بقوة معلنا عن آرائه العلمية التي صدمت الكثيرين، فقُدمت ضده مذكرة للجمعية الأكاديمية للطب في «مارسليا» فمُنع من إلقاء الدروس بالمستشفى، ثم قدم حُسَّادُه شكاية أخرى متهمين إياه بالغرور والهوس والتعصب؛ فأبعد عن العمل. وتتدخل الأقدار لتنتشل «أنطوان» من هوة اليأس والضياع؛ عندما يلتقي «المسيو تورنو» وكان تاجرا وصديقا لـ«محمد علي باشا» ،ومكلفا من جانبه باختيار أطباء أكفاء للعمل بالجيش المصرى، ويوقع «أنطوان» عقدا للعمل بمصر لمدة خمس سنوات بشرط ألا يقيد أحد حريته في العمل، وألا يجبر على تغيير دينه، وألا يسير مع الجيش دون إرادته وكان ذلك عام1825م.
محمد علي باشا
حين وضع «أنطوان» قدمه في ميناء الإسكندرية؛ تنفس الصعداء إذ شعر بنير عقود ثلاثة من الفقر والعوز والظلم تسقط عن كاهله. ومنذ أول لقاء له مع الباشا استطاع «أنطوان» أن يقنعه بإمكانياته؛ فمنحه صلاحيات واسعة؛ وعينه حكيم باش الجهادية، ليؤسس المجلس العام للصحة على غرار المجالس الصحية الفرنسية، ثم ينشئ مستشفى بأبي زعبل لتكون قريبة من المعسكر العام للجيش، وأخرى بالمحمودية بالإسكندرية بجوار الأسطول، ثم يقترح على محمد علي إنشاء مدرسة للطب ملحقة بالمستشفى، على أن يكون الطلاب من المصريين، فأنشئت أول مدرسة للطب بمصرعام1827، واختير لها مئة طالب من نبهاء الأزهر الشريف، وكانت الدروس تلقى بالفرنسية والإيطالية، واستعين بمترجمين، وأثناء ذلك نشط أنطوان في التأليف وأشرف على ترجمة تلك الكتب إلى العربية، وتدقيقها لغويا قبل طباعتها، وانتدب لذلك نخبة من علماء الأزهر ممن لهم معرفة واسعة بكتب الطب القديمة.
إنجازات طبية
وبمرور ثلاث سنوات فقط أصبح لمصر كلية للطب لا تقل عن مثيلاتها في أوروبا، وأخرى للصيدلة، وكذلك مدرسة الطب البيطري التي نقلت من رشيد إلى أبي زعبل، ثم مدرسة القابلات، كما أصبح لها قاموسها الطبي الذي يحوي أكثر من ستة آلاف مصطلح طبي، وأكثر من خمسين كتابا حديثا في فنون الطب باللغة العربية مصاغة بأدق العبارات وأبلغها كما تقدم ذكره.
وبالقطع فقد واجه «كلوت بك» صعوبات جمة ،منها ما أثير حول حرمة التشريح بوصفه مُثلة واعتداء على حرمة الموتى، ورفع الأمر إلى محمد علي الذي أحاله إلى القضاء، واستطاع «أنطوان» أن يعرض رأيه في المسألة بوضوح أقنع القاضي بضرورة هذا العلم؛ لكن هذه الواقعة كادت تودي بحياته إذ هجم عليه أحد الطلاب وحاول طعنه بخنجر، لكن يد العناية الإلهية حالت دون مصرعه.
واستطاع «كلوت بك» تنظيم حملات تطعيم ضد مرض الجدري الذي كان يقتل سنويا عددا يتراوح بين الخمسين والستين ألفا من الأطفال، كما نظم عددا من الحملات للقضاء على الكثير من الأمراض والأوبئة التي كانت تفتك بعشرات الآلاف من المصريين.. وبفضل هذه الجهود وغيرها تضاعف عدد السكان خلال أقل من ثلاثة عقود، كما حدثت طفرة حقيقية في الصحة العامة لغالبية المصريين بفضل ما قدمه هذا الرجل من أعمال عظيمة دعمها بقوة بغزارة علمه وسعة اطلاعه وإخلاصه الشديد الذي جعله لا يحفل بالأخطار المحدقة- وما أكثرها في مجاله- ولا يهتم إلا بإرضاء ضميره وإنقاذ الأرواح ومداواة الجراح وإبراء الأسقام دون تهيب أو إحجام، في بلد منحه ما كان يطمح إليه من المكانة والمجد والرفعة.
ويعتبر الدكتور أنطوان بارثلمى كلو- الذى أصبح يعرف فى مصر بالدكتور «كلو» – أول مسيحي يمنحه محمد على لقب بك، وكان ذلك عام1831، عندما تصدى ومعاونوه بشجاعة منقطعة النظير لوباء الكوليرا، واستطاع بما بذله من جهود أن يحفظ أرواح الكثيرين من الهلاك بسبب هذا المرض الذي راح ضحيته الآلاف، كما كرمته الحكومة الفرنسية أيضا بميدالية «ليجيون دونور».
قبل عام من ذلك التاريخ زار القاهرة الكاتب الفرنسي الأشهر «ألكسندر دوما» والتقى الدكتور «كلوت» بك، وتنقلا سويا في ربوع القطر، وقد دوَّن «دوما» مشاهداته في هذه الرحلة في دراسة حملت عنوان خمسة عشر يوما في إفريقيا.
في العام 1832، سافر الدكتور كلوت بك مع ١٢ تلميذا من تلامذة مدرسته لامتحانهم في باريس، أمام الجمعية العلمية الطبية فحازوا استحسانها، وأظهروا كل نجابة وذكاء وبراعة.. وعند عودته طلب نقل المدرسة إلى قصر العيني فنفذ طلبه على الفور.
وللمرة الثانية في عام 1835، يبرهن «كلوت» بك على قوته الجبارة في التصدي للجوائح عندما ضرب الطاعون القاهرة مخلِّفا 30ألف حالة وفاة في ثلاثة أشهر، واستمر الرجل في العمل دون كلل بعد أن طعّم نفسه بمادة الصديد الجدري الفحمية، وبعد انقضاء الجائحة أنعم عليه محمد علي باشا برتبة أمير لواء، وأنعمتْ عليه الدولة الفرنسية برتبة «أوفيسيه دي لاليجيون دونور» وفي سنة ١٨٤٠ سار إلى فرنسا، وعرض كتابين من تأليفه؛ أحدهما يشتمل على أعماله في مصر، والثاني في الحوادث الوبائية، وفي نفس العام تزوج في مارسليا وكان قد بلغ السابعة والأربعين.
بين مصر وفرنسا
وكان «كلوت» بك قد رافق إبراهيم باشا في حروب الشام (1831-1841) والتقى في بيت الدين بالأمير بشير الشهابي، فطلب منه بشير أن يتوسط لدى محمد علي لإلحاق بعض اللبنانيين بمدرسة قصر العيني؛ لدراسة الطب على نفقة الحكومة المصرية؛ فتوسط له “كلوت” بك وحقق له ما أراد.
بعد وفاة محمد على 1849، استقال كلوت بك من الخدمة وسافر إلى مارسليا، وبقي هناك حتى تولى سعيد باشا سنة ١٨٥٦، فعاد إلى مصر واستشاره سعيد باشا في من يليق لتولي إدارة المدرسة الطبية، فاختار له خمسة من نوابغ الأطباء؛ فتبادلوا رئاسة المدرسة الطبية والمستشفيات زمنا، وكانت عودته الأخيرة إلى فرنسا في 1858، ليمضي بعض الوقت في باريس لنشر بعض الدراسات الخاصة بالحجر الصحي، وقد أنعمت عليه الحكومة الفرنسية برتبة «كومندور دي لاليجيون دونور» كما نال لقب «كونت روماني» من البابا لما قدمه من خدمات للمسيحيين، وفي سنة ١٨٦٠، سافر إلى مرسيليا، وبقي فيها إلى أن وافته المنية في ٢٨ أغسطس ١٨٦٨.
سعيد باشا
المصادر:
1- كلوت بك، أنطوان بارثلمي، لمحة عامة إلى مصر.
2- بدوي، جمال، محمد علي أولاده ص 36.
3- الرافعي، عبد الرحمن، عصر محمد علي ص403:400.
4- طوسون، عمر، الجيش المصري البري والبحري 148-149-166
5- الشيال، جمال الدين، تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي ص 23:18- 58:53.
6- فهمي، خالد ، كل رجال الباشا، ص 305:376