رؤى

التعليم المصري تحت حكم الاحتلال البريطاني من 1952:1892

سار الاحتلال البريطاني على نهجه المعلوم، باتباع سياسته الشهيرة “فَرِّقْ تَسُدْ” واعتبر السيطرة على التعليم هي وسيلته الأهم والأقوى؛ لتحقيق أهدافه الرامية إلى تثبيت حكمه للبلاد؛ لنهب خيراتها واستنزافها حتى آخر قطرة.

اتجه المحتل إلى تكريس مبدأ الازدواجية في التعليم فوضع التعليم الديني -الذي بقي متخلفا لم تطله يد التحديث أبدا- في مقابل التعليم الحديث الذي ابتغي منه اصطناع الأعوان، إذ جعله تعليما وظيفيا يوفر للاحتلال من الخريجين ما يحتاجه لشغل الوظائف، كما رعى ازدواجية التعليم الحكومي والخاص لإحداث أكبر قدر من التمييز الطبقي بين أبناء الشعب الواحد؛ ثم العمل على تكوين طبقة موالية للاحتلال بالكلية من خلال التعليم الأجنبي الفائق الجودة في مواجهة التعليم الوطني الذي عانى طويلا من النبذ والإهمال وتقليص النفقات، كما رعى الاحتلال ازدواجيات أخرى ابتلى بها التعليم المصري مثل: الكتاتيب/المكاتب الأهلية، الأزهر/ الجامعة المصرية، المدرسة الإلزامية (الأوَّلية) /المدرسة الابتدائية.

ولقد كان من شأن هذه الفوضى التي كرّس لها الاحتلال ورعاها رعاية تامة – أن ينتكس التعليم المصري في تلك السنوات العجاف انتكاسة أخرى؛ لم تنته إلا بزوال هذا الكابوس عن مصر، بقيام ثورة يوليو المجيدة.

وكان من أهم ملامح سيطرة الاحتلال على التعليم- إصرار سلطاته على التدخل في وضع المناهج الدراسية التي غابت عنها أي مادة تتعلق بالتاريخ المصري في أيٍ من مراحله، كما هيمنت على تلك المناهج روح المحتل الباغي ببطشه وتجبره، وتدريسه عنوة لتاريخ القارة الأوروبية وانتصارات القوى الاستعمارية تحديدا؛ لتبث في روع الطلاب المصريين الشعور بالاحترام والتعظيم لهؤلاء الغزاة، كما كان إقحام اللغة الإنجليزية في تدريس معظم المواد؛ أمرا يبعث على تذمّر الطلاب؛ خاصة أنه كان على حساب اللغة العربية.. ويُذكر أن سعد باشا زغلول عندما أصبح وزيرا للمعارف عام 1908، أصدر قرارا بعودة اللغة العربية؛ لِتُدرّس بها كافة المواد الدراسية.. كما استقدم المحتل أعدادا غفيرة من المدرسين الإنجليز للعمل بالمدارس المصرية، ودفع لهم رواتب كبيرة من ميزانية الوزارة.

سعد زغلول
سعد زغلول

وكانت الثقافة الفرنسية حاضرة من خلال قوى فرنسا الناعمة التي استعان بها محمد في بناء دولته، وحرصت على تدعيم سبل التواصل بين البلدين بشتى الطرق وعلى رأسها إنشاء عدد كبير من المدارس الفرنسية في مصر.. وقد حرصت قوات الاحتلال على إغلاق هذه المدارس تواليا؛ حتى أغلقت آخر مدرسة فرنسية في مصر عام 1910، بينما وصل عدد المدارس الإنجليزية التي أنشئت خلال العقود الثلاثة الأولى من عمر الاحتلال، ثماني عشرة مدرسة في القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد.. لكن المدارس الفرنسية عادت للظهور من جديد في مصر من خلال الإرساليات التبشيرية الكاثوليكية، التي انتشرت بكثافة في شتّى ربوع مصر؛ ليصل عدد تلك المدارس بحلول عام 1928، أي خلال ثمانية عشر عام فقط إلى179 مدرسة!

 لقد أدرك الإنجليز مبكرا أن تقديم تعليم جيد للمصرين يعني إعداد كوادر ثورية واعية تقود النضال ضد وجودهم في البلاد المصرية، وهو ما قاله اللورد كرومر “لقد اعتبرنا أن توفير مستوى موحَّد للتعليم هو الضمان الوحيد ضد قيام الديماجوجيِّين الذين قد يعملون على إثارة الشعب ضدَّ الحكَّام الأجانب”.

والحقيقة أن كرومر مثله مثل أي طاغية مستبد يدّعي غير الحقيقة ويتهم الآخرين بما هو عليه؛ فالتعليم الموحد لم يكن أبدا هدفا للمحتل؛ كما أن اتهام قادة الشعب بالتعصب والتضليل والخداع؛ هو فِرية مضحكة فقد كانت الأوضاع التي أوجدها الاحتلال وعانى منها معظم الشعب المصري- أكثر وحشية وسوءا من قدرة أي مصري على التعبير اللغوي عن تلك الفظائع الرهيبة.. لكننا نفهم مقولة كرومر بعكس ما قصد، وهو أن الاحتلال عمد إلى إقرار ازدواجية التعليم بطرق شتى تكريسا للانقسام الشعبي والتمييز الطبقي؛ وذلك لإحكام قبضة سلطات الاحتلال على البلاد، وكبت الشعور الوطني، واستعداء فئات الشعب بعضها على بعض، وكذلك الحيلولة دون ظهور قيادات ثورية واعية تقود الحِراك الشعبي ضد الدخيل.

مدارس مصر

كما سعى الإنجليز إلى فرض مصروفات تعليمية باهظة حتى تنصرف عنه الطبقات الفقيرة؛ ولا يُقبل عليه إلا الأغنياء الذين هم بطبيعة الحال أحرص على الاستقرار وأكثر ميلا للرضوخ للمستعمرين وأهوائهم.. وكان التشديد على عدم منح “المجانية” لأي طالب فقير، مهما بلغت درجة تفوقه أحد الأمور التي لا تتهاون فيها سلطات الاحتلال.. وهو ما فجّر أزمة وزارية أثناء تولي سعد زغلول وزارة المعارف.. لكنه أصرّ على موقفه بأحقية الفائقين في المجّانية.. وكان له ما أراد.

وكانت المدارس الأولية (مدارس الفقراء) التي يتعلم فيها الطالب القراءة والكتابة والحساب – لا تؤدي إلى مواصلة طلابها للتعليم حتى الجامعة، وكان مطلب توحيد التعليم الإلزامي مع الابتدائي -عالي النفقات- مطلبا شعبيا مُلحا؛ لكن المحتل أبى؛ ورفع نفقات التعليم الابتدائي الذي كان يؤهل صاحبه للحصول على وظيفة من الوظائف الدنيا؛ فلما أقبل المصريون عليه طلبا للوظائف.. جعلت سلطات الاحتلال الوظائف من نصيب من أتموا تعليمهم الثانوي.. حتى يحرموا المصريين من حقهم في التوظف.

تعليم مصر زمان

“وحين انطلقت الحركة الوطنية بقيادة مصطفى كامل، بدأت بالاهتمام بالتعليم وإنشاء المدارس، حيث رأت أن محو الأمية وتثقيف الشعب هو أفضل وسيلة لمحاربة الاستعمار، وبمساهمات من الجمعيات الخيرية والمساعدات الأهلية والشخصيات المهمة أنشئت العديد من المدارس، وكانت هذه المدارس بمصروفات حيث أنها مدارس حرة لا تخضع لإشراف سلطات الاحتلال؛ فكانت بحاجة لتحصيل مصروفات لدفع الرواتب مع تخصيص جزء للطلبة بالمجان، ومع الوقت ازدادت المدارس الخاصة بشكل كبير خاصة بعد ما ساهمت في إنشائها الجمعيات الخيرية الإسلامية والقبطية من أجل نشر المعارف”.

ثم كان تأسيس جامعة القاهرة بالاكتتاب العام، وبجهود عدد من المفكرين عام 1908، وفي عام 1925، تسلمتها الحكومة المصرية وأطلق عليها اسم الجامعة المصرية، واقتصر عدد الكليات فيها على أربعة فقط هي: الآداب والعلوم والطب والحقوق.

ثم منحت الحكومة عام 1909، مجالس المديريات سلطة فرض ضرائب محلية، لتنفق منها جزءا على التعليم.. وقد أنشأت هذه المجالس مدارس ابتدائية في كثير من المراكز، وأكثرت من فتح المكاتب في القرى، وتولت إعانة الصالح من المدارس والمكاتب.

جامعة القاهرة (الملك فؤاد) في العشرينات
جامعة القاهرة (الملك فؤاد) في العشرينات

“ويمكن اعتبار 1925، نقطة تحوّل في السياسة التعليمية، ففيها اجتاحت وزارة المعارف هزة عنيفة امتدت إلى كل مراحل التعليم وفروعه؛ فبدأت بأنظمة التعليمين الابتدائي والثانوي ومناهجهما التي أكسبها مر السنين وقارا واحتراما؛ فنفضت عنها الغبار وعرضتها للبحث من أساسها. وكان من نتيجة ذلك أن أدخلت عليها تعديلات جوهرية كثيرة فزيدت مدة كلٍ من المرحلتين من أربع سنوات إلى  خمس، وأضيفت إلى المواد التي تُعلّم بالمدارس الابتدائية ثلاث مواد جديدة، وإلى مواد التعليم الثانوي ست مواد جديدة، فبلغ عددها 16 مادة ووسعت المناهج في سائر المواد توسيعا ذا بال”.

ثم تمكنت الحركة الوطنية من تحقيق أحد أهم أهدافها، وهو تمصير التعليم؛ إذ شهد عام 1938، قرارا بإلغاء التدريس باللغة الأجنبية في السنة الدراسية الأولى والثانية، وتوالت القرارات حتى شهد عام 1945، “دمج كافة الأنماط التعليمية ( إلزامي أو أولي – ابتدائي – أهلي – خيري – شعبي “كتاتيب”) في نظام تعليمي واحد أطلق عليه التعليم الابتدائي.. ثم كان قرار عميد الأدب العربي الذي أصبح وزيرا للمعارف عام 1950، بمجانية التعليم الإلزامي والثانوي.. وهو العام الذي شهد انطلاق جامعة عين شمس لتكون ثالث الجامعات المصرية بعد القاهرة والإسكندرية التي أنشئت عام 1942.

ثم جاء عام 1952، ليؤذن بميلاد عهد جديد هو عهد ثورة يوليو المجيدة التي أحدثت نقلة نوعية في التعليم المصري، كما سنرى في الحلقة القادمة بمشيئة الله.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock