قبل سنوات عدة رافقت عددا من طلابي في الجامعة إلى دير الأنبا أنطونيو في صحراء مصر الشرقية. أخذنا أحد الآباء في جولة داخل الدير انتهت بدخول كنيسة صغيرة تضم أيقونات وتصاوير فريدة. من بين نوادر تلك الكنيسة لوحة زيتية للسيد المسيح عليه السلام وقد بدا وجهه فيها أسمر اللون، بما لا يختلف عن مواطن مصري.
وبينما الطلاب يتأملون في الكنيسة الصغيرة سافرت عبر الذاكرة لثانيتين إلى موسكو مستحضرا سلسلة كتب «أهم مئة شخصية في التاريخ». كان واحدا منها يحمل عنوان «محمد». وضعت دار النشر الروسية على الغلاف صورة لنبي الإسلام(صلى الله عليه وسلم)، ولأنها لم تجد على ما يبدو صورة لرجل من الجزيرة العربية اختارت صورة فلاح مصري كالذي يقابله السائحون الروس في الأقصر أو أسوان. كان الغلاف ساذجا للغاية وربما كان مسؤولا عن كساد مبيعات هذا الكتاب رغم الاجتهاد التاريخي الذي أبداه المؤلف في تتبع قصة ظهور الإسلام وانتشاره وصولا إلى قلب الأراضي الروسية.
أعدت نفسي من ذكريات موسكو إلى كنيسة دير الأنبا أنطونيو، ولم أستطع أن أخفي ابتسامة لاحظها أبونا الكريم الذي كان يرافقنا، ولما سألني عن سرها أجبته أن أغلب اللوحات الزيتية التي تضمها الكنائس الأوروبية يبدو فيها السيد المسيح أبيض اللون وكأنه من سكان اسكندناوه وبلاد الثلج الدائم.
كان رد أبونا بسيطا معبرا: «كيف يأنس العبّاد والنسّاك هنا في هذا الحر القائظ وشمس الصحراء إلى أن ملامح السيد المسيح بيضاء؟ المسيح ولد غير بعيد عنا في فلسطين، ولابد أنه كان أسمر اللون، وكل تصاويره وهو أبيض اللون مخالفة لحقيقة البيئة التي عاش فيها».
ما علاقة ذلك بالصورة المرفقة مع هذا المنشور؟
الصورة لأوغسطوس طولطون، وهو إفريقي من سلالة الرقيق الذين حملتهم عنوة سفن الاستعمار الأوروبي من إفريقيا إلى مستعمرات العالم الجديد في الولايات المتحدة.
لا نعرف على وجه الدقة ديانة عائلة طولطون: هل كان أسلافه مسلمين أم وثنيين.، ما نعرفه أن طولطون ولد في عام 1854 في مستعمرات العبودية في الولايات المتحدة وتمكن لاحقا من السفر إلى روما وتدرج في دراسة اللاهوت حتى صار أول قس أسود في الولايات المتحدة، مات طولطون في عام 1897.
ما الذي يهمنا في كل ذلك؟
نشرت بي بي سي خبرا أمس (أول تعليق) مفاده أن بابا الفاتيكان أقر في مرسوم بابوي رفع مقام طولطون إلى مصاف يكاد يقترب من درجة القداسة، إذ لم يعد يتبقى له سوى درجتين فقط. أن يبلغ طولطون أعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها إنسان في مسيرته الدينية ربما تكون ذات دلالة في السياق الكاثوليكي، وإلا لما كانت وسائل الأنباء العالمية اهتمت بالخبر.
وحتي يفهم القراء مراحل بلوغ هذه الدرجة السامية التي لا يحظى بها سوى عدد قليل من القساوسة في التاريخ نشرت بي بي سي (التعليق الثاني) الشروط الخمسة التي يجب أن يمر بها إنسان كي يبلغ تلك الدرجة بداية من مرور خمس سنوات على وفاته مرورا بشهادات عديدة تؤكد تحقق معجزات من خلال استعانة الناس بروحه في العبادة.
حين أتممت قراءة الخبر دارت ثلاثة أسئلة في رأسي:
– هل هناك حاجة فعلا للكنيسة الكاثوليكية لرفع مقام إنسان إفريقي مر على وفاته أكثر من 120 سنة؟ ولماذا الآن بعد كل تلك السنين؟
– هل يمكن ربط ذلك باعتذارات الفاتيكان عن الإساءات التي تمت بحق شعوب عديدة سيما استغلال اسم المسيحية الأوروبية في حروب وويلات ودماء، بينما المسيحية الحقة منها براء؟ هل لذلك أيضا صلة باعتذارات الفاتيكان من فترة لأخرى عن ارتكاب جرائم جنسية من قبل رجال الدين المسيحيين؟ هل تلك الخطوة واحدة من خطوات الاقتراب من ملايين البشر من السود كانت الفاتيكان نفسها تساهم في تجارة استعبادهم وتصدر الفتاوى للإتجار فيهم وإذلالهم؟
– هل صعود ألوان سمراء في القداسة المسيحية بدلا من احتكار القداسة لأصحاب اللون الأبيض الناصع يساعد في انتشار الكاثوليكية ويعطيها مرونة تستطيع أن تنافس بها المذاهب المسيحية الأخرى وأهمها بعثات التبشير الإنجيلية التي تحقق نجاحا ملحوظا في أوساط ذوي البشرة السمراء؟
أفكر في هذه الأسئلة لأنني أؤمن حقا بأن العالم دوما ما يتطلع إلى المستقبل، ويحاول أن يتخفف من الدين والعقيدة لصالح العلمنة، لكنه محاصر لا مفر بأثقال الماضي.
المقال نقلا عن: الصفحة الشخصية للكاتب على موقع فيس بوك ?