ثمة شئ ما يحرضني على الكتابة الإبداعية بعد عمر الأربعين، لا أعرف تحديدا ماهية هذا الشيء؟ هل لكوننا بشر ننظر لما فات من تجربتنا الحياتية بعين تملؤها الدهشة، نستغرب ماضينا ونَحِنُ إليه، نستحضره عبر ذاكرتنا ونطارده ليلعب معنا عبر الورق.. إنها الغواية الملحة على الكتابة. هكذا يقول الكاتب الإنجليزى الشهير ريتشاردز آدمز، الذي بدأ نشر أول عمل روائى له، وهو في سن الثالثة والخمسين.
الأمر قد يدعو للدهشة، فصاحب العقد الخامس من العمر لم يكن له علاقة بالأدب، ولكن هى غواية الحكى التى جعلته أحد أهم الروائيين، ولم ينشغل آدم بالمرحلة العمرية ولا فكرة التجييل، ونجح فى أن يحول الصدفة إلى طريق ومسار.. فى هذا التحقيق لـ«أصوات أونلاين» نرصد تجربة عدد من الكتاب والمبدعين الذين وصلوا إلى عالم الكتابة متأخرين راكضين بكتاباتهم المختلفة وأثبتوا جدارتهم بأن يكونوا في مقدمة المشهد الثقافي المصري في وقت قصير، وكيف كان مشوارهم مع الكتابة، لتكون مسارا اختاروه بمحض إرادتهم.
قداسة الكتابة
يقول القاص صابر رشدي الذي تأخر في نشر إبداعاته مايزيد عن 20 عاما من بداياته الحقيقية مع الكتابة: «النشر لم يكن بتلك السهولة التى يتصورها الآخرون، استمر هاجسه معي فترة طويلة، كنت لا أكف خلالها عن جلب الكتب إلى بيتي، والكتابة الكسولة أحيانًا، لكن تحرُّجي وخجلي أمام أبنائي، وهم يرون مكتبتي تتضخم يوما بعد يوم، وليس لي كتاب واحد على أحد الرفوف، شعور جعلني أفكر في إنهاء تلك المسألة، أو التوقف عن القراءة واقتناء الكتب».
القاص صابر رشدي
ويضيف: «نشرت قصصاً ومقالات متفرقة، على مدى سنوات، لكنى كنت أتهيب إصدار كتاب، فالأمر أكثر قداسة من وجهة نظري، وما أفعله قد يكون اقتحاما لا مبرر له، لكنني أصررت أنه لا راحة لي قبل إصدار مجموعة قصصية أو رواية، من تلك الأعمال الحبيسة، كانت رغبة ذات طبيعة مزدوجة ولا مبالية أحيانا».
وربما وجد الآخرون ملامح سرد روائي في قصصي القصيرة، وهذا حقيقي، يقول رشدي،: «ولكني تضامنا مع كل القضايا الخاسرة، والأنواع الأدبية المظلومة، بدأت بمجموعة قصصية تكريما لهذا الفن الجميل، الذي أحببته، متحديا محاولات إقصائه لصالح الرواية، وحالة الهوس الصارخ بها، التي ضربت الثقافة العربية فى العمق ،أخيرا، السرد لا يحل مشكلة، ولكنه يفعل ما هو أكثر، إنه يحقق إنسانيتنا ويؤكد انتماءنا إلى هذه الأرض».
بعد الستين
الكاتبة والقاصة عفاف طبالة قضت مايزيد عن أربعين عاما بين أروقة مبنى التليفزيون المصري، كواحدة من أهم مخرجيه المتميزين، وقد فوجئ المشهد الثقافي العربى بحصولها على جائزة الشيخ زايد فرع أدب الطفل، لا أحد يعرف رحلة ومشوار عفاف طبالة مع الكتابة، لكن الكل عرفها بحصولها على احدى أرفع الجوائز فى مجال الإبداع.
تشير طبالة إلى أن بدايتها مع الكتابة جاءت عبر الحدوتة: «كنت أحكى لأحفادى حواديت من نسج خيالى، وعندما كبروا، وجدت ما يلح على أن أكتب حواديتي وقررت أن أقدم على هذه الخطوة لتكون نافذتي إلى الأطفال، ليس غريبا أن أبدا فى سن الخامسة والستين خطوة جديدة ومجالا جديدا أقدم فيه ما يضيف للقارئ، فلم أتوقف عند الكتابة للأطفال، وكتبت القصة القصيرة».
الفيس بوك والكتابة
وتقول الأديبة سامية بكري: “بدأت الكتابة مبكرا منذ كنت طالبة في الصف الأول الثانوي ،فقد كنت أقرأ أشعار صلاح عبد الصبور وأتاثر بها وأحاول كتابة قصائد، وأحيانا كنت أكتب محاكاة ساخرة للقصائد المقررة علي في منهج اللغة العربية، وتلتف حولي زميلاتي لنضحك ونتبادل القفشات. بعدها كتبت القصة القصيرة طوال فترة دراستي بكلية الإعلام، ولكني لم أجرؤ على النشر أو على تقديم نفسي كقاصة. وهكذا تخرجت وعملت بالصحافة وقررت توظيف ميولي الأدبية لخدمة الكتابة الصحفية، وبعد فترة طويلة من العمل بالصحافة قررت أن أصدر كتابا بعنوان «ظرفاء الفيس بوك». ولدت الفكرة من اهتمامي بعدد من كتاب السخرية على الفيسبوك الذين تفوقوا في رأيي على كتاب الصحف في هذا المجال وعلى رأسهم الساخر الكبير سامح سمير.
وتضيف بكري أن سقف السخرية لم يكن قد ارتفع كما هو الآن لا على المستوى السياسي ولا الاجتماعي ولا الثقافي لذلك قررت جمع ما يكتبونه وتوثيقه وتحليله تحت هذا العنوان.
وتشير إلى أنها في ذلك التوقيت كانت تحضر ورشة الحكاية وما فيها مع الكاتب المتميز بين أبناء جيله محمد عبد النبي الذي منحها الثقة في نفسها وشجعها على مواصلة الكتابة الأدبية بعد طول انقطاع.
ورغم صدور روايتها «ونسة» التي تدور حول عزلة فتاة ثلاثينية وتجاربها في الحياة وبعدها مجموعة قصصية بعنوان «رقصة مؤجلة» إلا أن سامية بكري لا تزال تتاثر بنشاطها على الفيسبوك الذي يرجع إليه الفضل، بعد محمد عبد النبي وابنتها مريم، في تشجيعها على الكتابة والنشر الذي لم تجد صعوبة كبيرة فيه.
اعتراض
ويقول الشاعر أسامة الحداد: «لم أنشر سوى فى الرابعة والأربعين من العمر ، وبعد سنوات من الإنتظار فى هيئة الكتاب، وتخوف الكثيرين مما أكتب.. فبعد ولادة متعثرة صدر ديواني الأول «شرور عادية» بعد أكثر من اثني عشر عاما على كتابته، كنت أشعر أن الجميع ضدي، وأن ثمة مؤامرة تُدبَر، الأمر لم يكن سهلا ولا يزال وأصدرت بعده ثلاثة أعمال. ولكن ما مر بي- يضيف الحداد، كان أشبه بالنار التى تصنع الفخار، كان علي أن أقاوم، وأحتفظ بذكريات عديدة خاصة أنني بدأت نشر قصائد متفرقة منذ النصف الثاني من الثمانينات، وتوقفت لفترة من بداية التسعينات عن النشر حتى فى الدوريات والمجلات بسبب الوسط الثقافي وبشاعته، وأحرقت دواويني الأولي اعتراضا على ما يحدث.. «كان الأمر أشبه بانتحار أفكر كثيرا به، ولن أنسي أن رئيس تحرير إحدي الجرائد الثقافية حين قدمت له قصيدة من ديوان شرور عادية، وهى «شجون كثيرة تنتظر» والتى نشرت بجانب الديوان فى العديد من المواقع الإلكترونية قال لى (يا بني شوفلك شغلانة تانية)، وقبل وفاته بقليل ذكرته بالواقعة فقال إن النص كان جديدا لا يألفه».
ويشير الحداد إلى أنه ونتيجة لتأخره فى النشر كان لابد أن يدفع ثمنا باهظا وأن يتم التعامل معه ككاتب جديد، خاصة مع استقلاله عن المؤسسة والإعلام. ويضيف أن المعاناة لم تنته «فلدي أعمال مُعدة للنشر انتظر ولا أعرف متى، ومنها ديوان ميدان طلعت حرب الذى يعاني الآن كما حدث مع ديواني الأول شرور عادية ،وكأن دورة الحياة تتكرر معي وأبدأ من جديد فى رهانات مُرهقة».
قيود إجتماعية
وتؤكد الشاعرة أمل جاد الرب أن رحلتها مع الكتابة لم تكن متأخرة، لكن ظروف العمل والحياة هى التى أخرت النشر، غير أن هناك العديد من الأصفاد والقيود الإجتماعية التى كان من الصعب الخروج عليها، كذلك دور النشر لا يمكن لها أن تتبنى أصواتا جديدة دون التخلى عن الدفع.
الشاعرة أمل جاد الرب
لكن ماجرى معى – تقول أمل جاد الرب- جاء عبارة عن دفقة واحدة، مع ماحدث عقب ثورة يناير، فقدمت أول ديوان شعري «باختصار أقرب إلى النشوة»، ومن بعده جاء الديوان الثانى بالعامية المصرية «لا أنام»
ويلفت الأديب فتحي سليمان إلى أنه بدأ النشر قبل ثورة يناير ويقول: كتبت كتابة ساخرة بعنوان «كلام مالوش لازقة» من جزئين، ثم أول رواية كانت «علي محطة فاتن حمامة» أعقبتها برواية «بولاق أبو العلاء»، وتأخر النشر لطبيعة عملي في مجال السياحة والفنادق، فهو عمل مضني، ويستوجب السفر والعمل بمناطق خارج الحزام القاهري، واختصرت فترة الظهور بالاعتماد علي دور النشر الخاصة، لعلمي أن هناك طوابير طويلة في الهيئة العامة للنشر، ومن عادتي عدم المزاحمة وأخذ حق الغير.
أما الناقد الأدبي جمال الطيب فيروي أن تجربته المتأخرة في الكتابة النقدية جاءت بعد سنوات ظلت خلالها القراءة هي هوايته المفضلة، وبمرور سنوات العمر تنوعت مجالات القراءة بين الأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والكتب السياسية، وإن جاء الأدب على رأسها وأعلى قمتها.
ويضيف: «لم أفكر فى الكتابة لإحساسى وقتها أنني لا أملك الشجاعة الكافية والمؤهلة لاقتحام هذا العالم الساحر الذي أهابه. إلى أن جاءت اللحظة الفارقة لبدايتي في خوض عالم الكتابة بمتابعتي لبرنامج «عصير الكتب» الذي كان يقدمه بلال فضل على أحدى القنوات الفضائية المصرية منذ بدايته ر عام 2010، وقد تعرفت من خلاله على العديد من الكُتّاب، وأعمالهم الروائية أو القصصية.. كانت الفترة الأخيرة تحمل عنوان «كتاب الأسبوع» وفيها يتم ترشيح كتاب للقراءة وكتابة مقال عنه وإرساله على البريد ا لإلكتروني للبرنامج، وهنا بدأت تلح علىّ غواية الكتابة، أو النداهة التي جذبتني للتقدم والاشتراك في المسابقة بعدة مقالات، كان أولها مقال عن رواية «الطنطورية» للراحلة دكتورة «رضوى عاشور»، وجاءت النتائج جميعها مبشرة بفوزي بعدة جوائز، كان أولها الجائزة الأولى المقدمة من قناة «دريم 2»، ثم جائزتين عن المركز الأول أيضا مقدمتين من جريدة «المصري اليوم»، وجائزتين عن المركز الثاني وهي مجموعة أعمال مقدمة من «مكتبة الإسكندرية».
يقول الطيب: «كان أول طريقي للنشر بتشجيع من أحد الأصدقاء الذي دفعني للكتابة وإرسال ما أكتبه للجرائد والمجلات الثقافية المتخصصة، وكانت المرة الأولى التي أجد اسمي فيها منشورًا على صفحات جريدة، وكانت جريدة «القاهرة» عام 2014 برئاسة تحرير العظيم الراحل «صلاح عيسى» عن رواية «مولانا» للكاتب محمد عون، وكنت وقتها أبلغ من العمر ثمانية وخمسين عامًا، لتتوالى بعدها المقالات المنشورة على صفحات العديد من الجرائد والمجلات، على رأسها مجلة «المجلة، الهلال، إبداع، عالم الكتاب، أدب ونقد، جريدة مسرحنا، وجريدة الفنون الكويتية».