منوعات

الصوفية المجاهدة(5): المهدى.. الولىُّ الثائر

تفرد الشيخ محمد أحمد المهدي بقدر كبير من التأثير السياسي والديني جعله الرجل الأكثر حضورا في التاريخ السوداني العام.. كان الشيخ قاراً في طريقته ساكنا فى خلوته وزهده كأشهر وأهم الصوفيين السودانيين فى القرن التاسع عشر حتى ألًّم به ما كشف عن ذلك الوجه الآخر للصوفي الثائر الذي سيغير وجه السودان إلى الأبد.

ورغم ما أصاب الشيخ السوداني من شطط في أفكاره وإدعاءاته إلا أنه يُعد مُنظّر الوطنية السودانية ومؤسس تيارها الوطني الذي ستكلل رحلته بالاستقلال.

المهدي كما تخيله فنان غربي، من كتاب للكولونيل الأمريكي تشارلز شاييه-لونغ

بين الشريعة والحقيقة

ولد السيد محمد أحمد الملقب بـ (المهدي) في جزيرة «لبب» بالقرب من مدينة دنقلا عام 1250 هجرية (1844 ميلادية) لأسرة تعود جذورها إلى البيت النبوي. عند شواطىء دنقلا عملت أسرة المهدي في صناعة المراكب حتى هجرت موطنها وهو في السادسة من عمره متجهة صوب العاصمة ومركز الحكم في الخرطوم.

في الخرطوم دخل الفتى منذ نعومة أظفاره الكتاب ليتعلم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والحساب مع أقرانه، وبينما كان نظره يتجه إلى الأزهر الشريف ليتعلم في رحاب المدرسة الدينية الأهم، علوم الشريعة، شاء القدر أن يستقر في مدينة بربر لينهل من علوم الحقيقة. بدأ رحلته مع (إحياء الغزالي) الذي أتاح له قدراً من الإلمام بالشريعة، بينما يتعرف على علوم الحقيقة، لكنه سرعان ما سقط في بحر الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، وفى بحر تلك العوالم العميقة من الوجد والتصوف المرسومة بدقة وحنكة في فتوحات ابن عربى المكية، انصرف خيال محمد أحمد إلى مكانة أخرى وفرت ملابساتها ما تصادف  تحققه في شخصه ومن اسمه ونسبه، فهو كالمهدي المبشَّر بقدومه يحمل اسم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وينتهي نسبه إلى بيت النبوة، ولم يبق – في نظره – سوى أن يملأ الأرض، التي كثر فيها الظلم والجور، عدلا وإيمانا.

مولد المهدية

كانت «المهدية» هي الفكرة التي ألهبت خيال الولي الشاب، ودفعته للتمرد على سلطة الشيخ محمد شريف شيخ الطريق السمانية الذي ارتدى محمد أحمد الخرقة على يديه، وهي ثورية وتمرد لم يكونا معهودين في الحقل الصوفي، لاسيما بين شيخ ومريديه. يقول الرواة إن الشيخ محمد شريف كان صاحب حظوة ومقرباً من الحكام المصريين والأتراك، ولم تكن حياته تخلو من ترف وبذخ على عكس ما تروج له تعاليمه، وحين أقام حفلا باذخا لزواج ابنته اعترضه تلميذه معتبرا ما أقدم عليه الشيخ مخالفاً لما جرت عليه أعراف أهل الله من الزهاد والعارفين.

لكن البعض يقدم رواية أخرى للفراق الذي بدا شبيها بفراق الخضر مع موسى، حيث يقولون إن المريد طالع شيخه باعتقاده في كونه المهدي المنتظر، وهو ما رفضه الشيخ الأزهري المتشرع وقام بطرده. رحل المُريد إلى جزيرة (طيبة) وتلا العهد على شيخ آخر سرعان ما توفى بعد زواجه من ابنته وحل محله، فعلا صيته، وكثر مريدوه، وزاد تأثيره عليهم بما امتلكه من قدرات خطابية، وملامح جذابة صلبة قوية التأثير، ساعده فى ذلك ما اتسمت به حياته من زهد وتقشف وورع، فتحول السكون إلى ثورة، وتحول المريدون الزهاد إلى جيش جرار من المجاهدين، وتحول الشيخ من خطاب العرفان إلى نداء الإصلاح، بإصلاح ما لحق بالمجتمع السوداني من جور وفساد، وما لحق بكواهل المواطنين من ضرائب وإتاوات إرضاء للمستعمر البريطاني وسياسته الوقحة في البلاد.

نموذج لزي أحد أنصار المهدي

كان الشيخ النيجيري عثمان بن فودي يروج في مكة أسطورة اقتراب خروج المهدي المنتظر، وكان الحجاج النيجيريون المارون بأرض السودان يتحسسون ظهوره ويبشّرون بقدومه، وهو ما صب في صالح الشيخ محمد أحمد الذي توافدت عليه الوفود من سائر أقطار السودان مبايعة ومناصرة حتى أسماهم بالأنصار، وأصبح السودان يتنسم عبير ثورة قادمة تحت راية المهدي امتدت في سائر صفوف وشرائح المجتمع، فألهب خيالهم وحماستهم بخطاباته المؤثرة وثوريته المندفعة، وذلك الخيال الصوفي الجامح للمجتمع السوداني في الإيمان بخوارق وكرامات الأولياء.

الدولة المهدية (1881 – 1898)

انتصارات ساحقة

ومع تلك الحماسة المتدفقة سقطت مدن السودان تباعا تحت حكم الولي الثائر وجنده الأنصار، ففي عام 1883م سقطت مدينة «الأبيض» أكبر مدن غرب السودان في يديه بعد حصار طويل ومعارك طاحنة، وبسقوطها قطع الثوار الطريق بين الخرطوم ودارفور، ثم انضم شرق السودان إلى «المهدي» بقيادة عثمان دقنة أحد زعماء قبائل البجة التي تقطن شرق البلاد، وقد عينه «المهدي» قائداً للشرق، وفي عام 1884 دخل «المهدي» وأنصاره الخرطوم وقتلوا القائد الإنجليزي «غوردون» الذي أراد القضاء على هذه الثورة، وفي غضون سنوات أربع استطاع المهدي وجنوده إقامة أول كيان سياسي محلي الحكم في السودان منذ سقوط سلطنة سنار على يد محمد علي باشا عام 1820م.

تقدم الثورة المهدية عام 1885.

غير أن القائد المُلْهَم والعسكري المحنك سيطرت عليه أسطورته الخاصة، فراح يراسل الجميع طالبا مبايعته على مهديته وجعل منها شرطا للإيمان الصحيح، سقط الولي العارف في شرك الخدعة التي اجتذب بها الجمهور من حوله، وهو ما قلب الجميع عليه لاسيما مشايخ الصوفية من ذوي الخلفيات الأزهرية، ولم يطل بقاؤه كثيرا بعد سيطرته على الخرطوم، فتوفي في الثاني والعشرين من يونيو عام 1885م متأثرا بالمرض، ومخلفا من حوله جدالا لم يهدأ حتى يومنا هذا بين أنصاره ومحبيه الذين أدركوا عدم واقعية زعمه وحاولوا تأويل ادعاءاته تأويلا رمزيا على طريقة المتصوفة.

ضريح المهدي في أم درمان

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock