تعتبر الكاتبة الروائية التونسية حياة الرايس، واحدة من أهم الكاتبات على مستوى المشهد الإبداعي العربي المعاصر، سيما وأن إنتاجها الأدبي متنوع وغزير، فقد كتبت القصة القصيرة والرواية والمسرح وأدب السيرة، في لغة شفيفة تتماس مع تخوم الشعر، وبناء قصصي رصين ومحكم، وأسلوب سلس، إعتمادًا على رؤية تستلهم الماضي، وتشتبك مع الحاضر، وتستشرف آفاق المستقبل.
في هذا الحوار مع حياة الرايس، نقف عند مشروعها الأبداعي والفكري، والدور الذى يجب أن يضطلع به المثقف العربى بعد الثورات العربية.
سيرة الأماكن
*تحتفي معظم أعمالك بمدن ومشاهدات.هل يرجع ذلك إلى أن أول أعمالك الإبداعية جاءت في أدب الرحلة «حكايات وأساطير الجزيرة»؟
-كتبت كثيرًا عن المكان بمعنى المدن والأمكنة بصفة عامة، ذلك أن المكان في اعتقادي فيه روح وهو كائن قائم بذاته، والمكان يمكن أن يكون أحيانا أكثر وفاءً من الإنسان، قد تذهب إلى مكان فيستقبلك بشوق ودفء كبيرين، وقد يناديك إذا اشتاق إليك، وقد يفتح لك ذراعيه كما يمكن أن ينغلق في وجهك ويستقبلك ببرود ولامبالاة كبيرة، أعتقد أن هناك تفاعلاً كبيراً بين المكان والإنسان، وهي علاقة ذاتية جدًا لا تخضع إلى قواعد ومقاييس عامة.
أنا زرت عديد المدن، ولكن قليلة هي المدن التي أحببتها، كما البشر تمامًا، تقابل في حياتك كثيرًا من الأشخاص ولكنك لا تحب إلا بعضهم، من المدن التي أحببتها وكتبت عنها في مخطوطي «مرايا المدن» الذي لم يصدر بعد، وهو بمثابة أدب الرحلات «مدينة جربة»، وجربة جزيرة في الجنوب التونسي، وفي «حكايات وأساطير الجزيرة»، كتبت عن تونس العتيقة، وعن موطني الأصلي مدينة نابل شمال تونس، وبلدة دار شعبا الفهري تحديدًا، وضاحية باردو بالعاصمة التي نشأت بها.
كتبت عن باريس كثيرًا، عن صنعاء، عن القاهرة كثيرًا أيضًا، عن بغداد كتبت رواية كاملة بعنوان: «بغداد وقد انتصف الليل فيها»، وهي سيرة مكان كما اعتبرها بعض النقاد.
*كتبتِ القصة والرواية والشعر والمسرحية.. ماذا يعني لك هذا التنوع والانتقال بين فن وآخر؟
-ربما لأني امرأة، والمرأة العربية ولّادة، والمبدعة ولاّدة كتب، وقد اعتذرت في مستهل أحد كتبي لابني الوحيد “أوس”، أنني انجبت له كتبا بدلًا من أن أنجب له أخوة.. بدأت قاصّة مع باكورة أعمالي «ليت هندا»، ثم كتابي «جسد المرأة من سلطة الإنس إلى سلطة الجن»، وهو بحث فلسفي في مقاربة سيكولوجية أنثروبولوجية عن النساء المسكونات بالجان، وتساءلت فيه: ما معني أن يسكن جسد المرأة جان؟
ثم كتبت مسرحية «سيدة الأسرار عشتار»، وهى مسرحية ميثولوجية استحضرتها من حضارات الشرق القديم، حيث أقمت ودرست وتخرجت من معهد الحضارات «بغداد» بلاد الرافدين من حضارة بابل وآشور العظيمة، بعدها مجموعتان قصصيتان: «أنا وفرنسوا.. وجسدي المبعثر على العتبة»، و«طقوس سريّة.. وجحيم»، تخلل هذه الإصدارات ديواني الشعري «أنثى الريح» وبعض قصص الأطفال سلسلة «حكايات فاطمة».
كل هذه الأشكال الإبداعية المختلفة، إنما هيّأتني إلى الرواية التي نُشرت مسلسلة في مجلة «ألف باء»، العراقية، التي احتضنت بداياتي الإعلامية والأدبية حينما كنت طالبة ببغداد، كنوع من الوفاء لهذه المجلة، وكنوع من إثراء أدب البوح الذي تفتقر إليه الكتابات النسائية، قياسا إلى كتابات الرجل في هذا المجال، «بغداد وقد انتصف الليل فيها»، وهي رواية سيرة ذاتية، عن مذكرات طالبة تونسية ببغداد، تتخللها عدة محطات أخرى بين تونس وباريس كما حياتي الآن موزعة بين هذين البلدين الأخيرين، وهي تعتبر وثيقة عن الحياة الأدبية الاجتماعية والطلابية والسياسية ببغداد في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينات. سردت خلال هذه الرواية سيرتي الذاتية حول مذكراتي الجامعيّة ببغداد، وسيرة أشخاص عايشتهم وعاصرتهم، وسيرة مدن بين تونس وبغداد وباريس، فهي شهادة على الحياة في بغداد أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، شهادة على الحياة الاجتماعية والثقافية والتاريخية والحضارية والسياسية، عن الحرب الإيرانية- العراقية، وعن حزب البعث وفوبيا المخابرات العراقية، وعن أهم الأسماء الفكرية والأدبية التي أثْرت الحياة الثقافية، واثّرت فينا كطلبة مثل الدكتور عبد الرحمن منيف بكتابه شرق المتوسط، و جبرا إبراهيم جبرا، وعبد الوهاب البياتي و عبد الرزاق عبد الواحد، ولا يمكن أن نكتب عن العراق دون إخراج الموروث الثقافي وملامسة العمق الحضاري لبلاد الرافدين، فقد أردتها نوعا من حفظ الذاكرة العراقية وتهريبها في كتبنا وأحرفنا وأعيننا من اللصوص، الغزاة الذين أرادوا طمس بعدها التاريخي، لتبقى في وجداننا وفي ذاكرتنا كنوع من الوفاء والانتماء لهذا البلد الذي أعطى الكثير للشعوب العربية والحضارة الإنسانية، وصدرت الرواية بتونس عن دار ميّارة للنشر والتوزيع سنة 2018.
النص المفتوح
*ماهى السمات الجمالية الأبرز التى تشغل حياة الرايس في كتاباتها.. وأي الأجناس أقرب إليكِ؟
-تشغلني جمالية المفردة والجملة، واشتغل على اللغة كثيرًا، لأنها هي التي تعطي تفردًا لأي عمل أدبي، أحاول الخروج من القاموس التقليدي وبناء قاموس خاص بي، أحاول أن اخلص اللغة من عنصريتها وتركيبتها الذكورية، ومسألة الأشكال الأدبية في القصة أو الرواية وتقنياتها ومسألة تعالق الحدود بين مختلف الأشكال الإبداعية، وأسعى الآن إلى كتابة النص المفتوح بهدم كل تلك الحدود، وأن تفتح نوافد السرد والشعر والحكي والتشويق والإخراج السينمائي أو الكتابة السنيمائية على بعضها البعض، فيما يسمى بالنص المفتوح.
أما الجنس الأقرب إلى نفسي فهو الرواية طبعا، وقد أقدمت عليها بعدما كتبت القصة والشعر والمسرح والفلسفة وأدب الرحلات، وأدب الذات وللأطفال، كأنما كل هذه الأجناس الأدبية المختلفة المتنوعة، والتي ميّزت مسيرتي الأدبية، كانت تهيّؤني إلى الرواية التي يجب أن تجمع بين كل هذه الفنون برأيي، والرواية مساحة سرد يجب أن يكون فيها الموقف الفلسفي بمعنى الرؤية والنظرة إلى الحياة، ومواقف الكاتب من قضايا عصره وغيرها، كما أحب أن تكون مناخاتها شعرية، وذلك أسلوبي منذ بدأت كتابة «القصة القصيدة» كما يسميها النقاد. وعمومًا فقد انتفت الحدود في الكتابة الحديثة بين كل هذه الاجناس، بما يعرف بالنص المفتوح، وحاليا اشتغل على نص لا يخضع لأي تصنيف تقليدي، هو يجمع بين كل هذا، ويختلف عنه، لعله يفتح مساحات جديدة للنقد غير تقليدية.
الأدب والصحافة
*كيف أثرت الصحافة على مشروعك الأدبي.. وهل أضافت إلى مشروعك الإبداعي أم أخذت منه؟
-مشروعي الأول والأساسي هو الأدب، اشتغلت بالصحافة منذ صغري، ومنذ بداياتي في مجلة «ألف باء» العراقية التي احتضنت بداياتي، ثم كانت لي تجربة ثرية ومتنوعة وطويلة الصحافة، ربما أثرت النص الأدبي، لكني كنت واعية دائمًا أن لا أنساق وراء أسلوبها الإخباري اليومي السريع، حتى تخصّصت في الصحافة الأدبية في الملاحق الأسبوعية، وصرت أتعامل معها ككاتبة في أعمدة تتناول قضايا أدبية أو فكرية، لكني الآن انسحبت منها كلها تقريبًا، لأتفرغ كليا لإنجاز العمل الروائي في أجزائه الثلاثة، بعد جزئه الأول «بغداد وقد انتصف الليل فيها».
*كيف ترى حياة الرايس المشهد الشعري العربي.. هل تم تهميش الشعر والقصة المسرح لصالح الرواية؟
-هذا سؤال يوجه إلى النقاد.. لكن لكل زمن قالبه أو شكله الإبداعي وهذا زمن الرواية، ويصعب عليّ أن أقول أن زمن الشعر قد ولّى، يمكن أن نقول أن الذى ولّى هو زمن القصيدة، ولكن الشعر مبثوث في السرد أيضًا، وهناك كتابات سردية جميلة جدًا مناخاتها شعرية، تضفي عليها خصوصية أخرى من سحر البيان، أنا شخصيا أحبّ الشعر في السرد في الرواية أو القصة أكثر مما أحبه في القصيدة، والرواية صارت ديوان العرب، لأنها احتوت كل الأجناس ولأنها الأقدر على استيعاب التحولات الاجتماعية والسياسية والتاريخية للمجتمعات العربية، ولأنها تعبر عن آمال وطموحات وأيضًا أزمات هذه الشعوب، وازدهرت الرواية بازدياد أزمات الثورات، والتحولات الاجتماعية لاحتوائها على عنصر الدراما.
والشعر عموما ليس في القصائد، إنما هو مبثوث في الكون، وما على الكاتب إلا اقتناص ومضاته، وأنا في السرد أو في القصيد، أحب ان تكون جملتي شعرية و مفردتي شعرية، ولعل ذلك ما يجعل النقاد يرون أن نصوصي القصصية والروائية والمسرحية تتميز بمناخات شعرية، وهذا يسعدني.
رائحة الأنثى
*مازالت الكاتبة العربية تكتب بصوت الرجل أم أن صوت الأنثى أصبح حاضرًا في العديد من كتابات المرأة؟
-بالنسبة لمفهوم الأنوثة فإن الطبيعة قد حبتنا بالاختلاف والتنوع، فيجب أن نبرز هذا التنوع وأن نظهره في حياتنا وفي كتاباتنا دون خجل من ذواتنا، وأنا وإن خُلقت امرأة فتلك مصادفة طبيعية جميلة لا يجب أن أطمسها، أنا أكره التشبه بالرجال، أو أن أكتب مثل الرجل، وهو ليس دائمًا المثل بالنسبة لي لا في الحياة ولا في الكتابة.
عندما أكتب أحبّ أن ألامس العمق الانساني بأناقة أناملي كأنثى، والنص عندي هو امتداد لجسدي، فأنا أكتب بوهج أنفاسي المتصاعدة من مسام جلدي، وأكتب بكل حواسي وعقلي وشراييني وقلبي وتلافيف الفكر ومنعطفات الذاكرة وعمق الوجدان، بكل تفاصيل تلك الذات التي لا يمكن أن تشبه ذاتًا أخرى أبداً، ككل الكائنات في الطبيعة تماما، وكذلك الشأن بالنسبة للرجل أيضا، على كل كاتب أن يحافظ على خصوصيته، بالإضافة إلى مواقفه ورؤيته للحياة بطبيعة الحال، والنص هو ترجمان كل ذلك، والكتابة هي امتداد للفعل الطبيعي الأصيل أو هي صقل الفعل الطبيعي الخام، وأحب أن يجد القارئ تلك اللمسة الأنثوية في كتاباتي، ويشم رائحة الأنثى في ثنايا سطوري، فالكتابة هي عطرنا الداخلي في النهاية.
من ذلك أحد عناويني ديوان «أنثى الريح» الشعري، فهو دعوة المرأة للتحرر من كل ما يعرقلها من القيود
سؤال الكينونة
*مرت تونس بمرحلة حاسمة في تاريخها منذ ثورة الياسمين، فما دور المثقف برأيك في الارتقاء بمجتمعه ؟
-لقد شهدت الساحة الثقافية التونسية بعد الثورة، تراكمًا معرفيًا ملحوظًا، واصدارات غزيرة في مجال الفكر والإبداع، خاصة الرواية، وكذلك بقية الفنون مثل السينما والفن التشكيلي، مثل فن الجرافيتي و فن الراب، وتمتع الإعلام بمناخ حريات لم تشهده البلاد من قبل، وعموما تمتع المثقف بمناخ حريات لم يشهده من قبل، إلا أن المثقف في تونس، شأنه شأن المثقف العربي، لم يطرح سؤال كينونته بعد. الآن يجب على المثقف أن يلتقط أنفاسه، ويعدّ مشروعه الذي يبدأ بطرح سؤال الكينونة، ليس ذلك الطرح التقليدي «من نحن»؟ ومن هو الآخر، لأن إشكاليات الأنا والآخر وشرق وغرب وشمال جنوب، قد بليت، وإنما سؤال الكينونة المتمثل في: من يحكمنا؟ وكيف؟ وأن يسائل المؤسسة الدينية والسياسية: كيف نتعامل مع النص في علاقته بالمقدس والمحرم؟ وعلاقات الانتاج في تداخلها مع الطبقة الحاكمة وبقية الطبقات، وفي علاقتها بمستويات الدخل والاستقرار والتنمية، أسئلة يجب أن تتمحور حول «السلطة» بتشعباتها وميكانيزماتها.