خلّد الشاعر الراحل فؤاد حداد سيرة الشهيد البطل محمد عبيد ضابط المدفعية في جيش أحمد عرابي، الذي دفع حياته وهو يزود عن استقلال بلاده ويدافع عن كرامتها، فرابط مع فرقته الصغيرة متحديا الجيش الإنجليزي رافضا الانسحاب من التل الكبير كما فعل غيره من الضباط، في تلك المقتلة التي قضت على معظم قوات عرابي.
في قصيدته بعنوان «عظّم شهيدك» يقول فؤاد حداد عن هذا البطل:
والأمهات بحري البلاد تناديه.. دهب الحريم عيط علشان يفديه
لأجل الولاد خلي البطل يضرب.. يكسر صفوف الإنجليز يضرب
يا بنايين نضرب معاه الطوب.. الفجر لمحمد عبيد مكتوب
في الجنة عرض السيف مع دراعه.. الملحمة أخلد من التماثيل
كان حى ما له فى الشجاعة مثيل.. كان جسم فى تراب الوطن مثواه
كان قلب كل المؤمنين جواه
عظَّم شهيدك.. كل دم يسيل على أرض مصرية عظيم الجاه
قول كل حرف فى اسمه واتهجاه.. «م ح م د ع ب ي د»
من أولياء الله
وقف عبيد مع فرقته التي لا يزيد عدد جنودها عن ثلاثة آلاف رجل ليواجه زحف الإنجليز، رابط على مدفعه حتى صهرته حرارة المدفع، فاستقبل الموت راضيًا، حين هرب الجميع، في تضحية ربما لم تغير من الواقع شيئا على أرض المعركة، فالهزيمة لحقت بجيش عرابي والإنجليز احتلوا مصر، لكنها ظلت محفورة في الوجدان الشعبي المصري، الذي تعامل مع عبيد، بوصفه وليا من أولياء الله الصالحين.
عن الدور البطولي للشهيد محمد عبيد في معركة «التل الكبير» يقول الباحث المصري محمد حافظ دياب، في كتابه «انتفاضات أم ثورات في تاريخ مصر الحديث»: “وفي هذه المعركة الختامية التي أنزلت الهزيمة بالجيش المصري بقيادة أحمد عرابي في التل الكبير، أعطت الرشاشات البريطانية الجديدة دعمها الأشد فعالية، بإطلاقها النيران بدقة كبيرة على الجيش المصري أينما كان عرضة لها، وظل أمير الآلاي محمد عبيد، على مدفعه حتى انصهر جسده، وتناثرت أشلاء جثته تحت سنابك الخيل، فلم يُعرف له قبر، ليتحول في الوجدان الشعبي إلى ولي من أولياء الله، ويتناقل الأهالي أنهم شاهدوه حيًا يرزق في الشام».
أما الروائي الكبير بهاء طاهر فتحدث في رائعته «واحة الغروب» عن بطولة عبيد الذي رابط في المعركة حتى لقى ربه شهيدا، فيما قرر آخرون خيانة عرابي وقبضوا ثمن خيانتهم، فقال: «أسأل نفسي طوال الوقت عن الخيانة، سألت نفسي كثيرًا لماذا خان الكبار الذين يملكون كل شيء؟ ولماذا يدفع الصغار دائمًا الثمن؛ يموتون في الحروب ويسجنون في الهزيمة، وسألت نفسي لماذا يخون الصغار أيضًا؟ لماذا خان الضابط يوسف خنفس جيش بلده في التل الكبير، وقاد الإنجليز ليغدروا به ويفتكوا به ليلًا؟ كيف كان يفكر وهو يرى مدافع الإنجليز تحصد إخوانه ورفاق سلاحه الذين كان يأكل معهم وينام معهم ويضحك معهم؟ وهل وقعت عيناه على زميله الضابط محمد عبيد وهو رابض على مدفعه وسط الفوضى والهزيمة يطلق النار على الإنجليز حتى صهرته حرارة المدفع كما سمعنا؟».
ويعبر طاهر عن تقديره لعبيد قائلا: «كم أحببته وكم أحبه الناس! لم يصدقوا أنه مات.. يقولون إنه غاب فقط، يسمونه الشيخ عبيد ويقولون إنه شوهد مرة في الشام ومرة في الصعيد. ينتظرون رجعته ليواصل حربه ضد الإنجليز! لكنه يظل حلمًا، أما يوسف خنفس فهو الحقيقة الباقية. تعال أحدثك أنا كيف يكون الغدر».
هكذا تحول عبيد إلى أسطورة، واجه الموت في سبيل ما يعتقد، فتناقل البسطاء سيرته، وتغنى بها الشعراء على الربابة في المقاهي والموالد، وآمن البعض أن هذا الولي غاب لكنه لم يمت، ارتقى جسده إلى بارئه، لكن روحه مازالت تطوف لتذكر الناس بحلم الحرية.
مصريون وشراكسة
ولد محمد عبيد في كفر الزيات بمديرية الغربية، التحق بالجيش المصري جنديا عاديا، وشق طريقه وسط متاعب جمة ليثبت وجوده. وعلى قدر جهده أنصفه القدر مثل غيره من الجنود المصريين الذين ترقوا إلى رتبة الضباط، حتى وصل إلى رتبة البكباشي في آلاي السودان في مايو 1880.
في تلك الفترة تولى نظارة الجهادية الشركسي عثمان رفقي باشا وكان دائم الكيد للضباط المصريين، منع عنهم الترقيات واستبدلهم بضباط شراكسة، فقد كان يرى أنهم لا يصلحون إلا أن يكونوا عبيدا.أعد رفقي مشروع قانون يمنع به ترقية الجنود المصريين من تحت السلاح لكي يبقى الشراكسة في الجيش هم العنصر الذي يسود. وعن ذلك يقول الروائي والمؤرخ محمود الخفيف في دراسته «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه»: «أما عن كبار الضباط فقد بدأ يعزلهم أو يقصيهم عن مواضعهم، وأما عن الجند فقد كانت الحكومة تسخرهم في أعمال لا تمت بصلة إلى الجندية كحفر الترع والزراعة في أرض الخديوي، وهو ما عارضه الزعيم أحمد عرابي معارضة شديدة».
«قرر رفقي باشا استصدار قرار بنقل القائديْن المصرييْن أحمد عبد الغفار وعبد العال حلمي، صديقيْ عرابي الذي علم بالقرار قبل نشره فعلق غاضبا: إن هذه لقمة كبيرة لا يقوى عثمان رفقي على هضمها» بحسب ما روى عرابي في مذكراته، ويضيف: «جاءني ضابط وأخبرني بأن كثيرًا من الضباط ينتظرونني بمنزلي فتوجهت إليهم في الحال فوجدت من ضمنهم الأميرالاي عبد العال بك حلمي حكمدار الآلاي السوداني الكائن مركزه في طرة، والبكباشي خضر أفندي من الآلاي المذكور أيضا، وعلي بك فهمي أميرالاي الحرس الخديوي بقشلاق عابدين والبكباشي محمد أفندي عبيد من الآلاي المذكور، والبكباشي ألفي أفندي يوسف من الآلاي الرابع، والقائمقام أحمد بك عبد الغفار من الآلاي السواري وغيرهم، وكانوا جميعا في هياج عظيم؛ إذ بلغهم صدور أوامر ناظر الجهادية قبل إرسالها إليهم، فلما رأوني أفضوا إليّ بما سمعته من نجيب بك وإسماعيل باشا كامل من قبل، فقلت لهم: قد سمعت هذا من غيركم فماذا تريدون؟ قالوا: إنما جئناك لنرى رأيك؟ فرد عرابي: رأيي أن تطيبواِّ نفوسكم وتهدئوا روعكم وتعتمدوا على رؤسائكم وتفوضوا إليهم النظر في مصالحكم، وهم يتخذون من بينهم رئيسا لهم يثقون به كل الثقة ويسمعون قوله ويطيعون أمره، ويحفظونه بمعاضدتكم إذا أرادت الحكومة به شرا، فقالوا كلهم: إنا فوضنا إليك هذا الأمر، فليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك. فقلت: كلا، بل انظروا غيري وأنا أسمع له وأطيع وأنصح له جهدي، فقالوا: إنا لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك، فأبنت لهم أن الأمر عصيب ولا يسع الحكومة إلا قتل من يتصدى له، فقالوا: نحن نفديك ونفدي الوطن العزيز بأرواحنا. فقلت لهم: أقسموا لي إذن على ذلك، فأقسموا».
وبعدما وقع الاختيار على عرابي لحمل شكاوى الضباط، شرع في كتابة عريضة إلى رئيس النظار مصطفى رياض باشا يشكو فيها من تعصب عثمان رفقي باشا لجنسه وإجحافه بحقوق الوطنيين، «طلبت فيها عزل ناظر الجهادية وتعيين غيره من أبناء الوطن عملا بالقوانين التي بأيدينا، وتشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة تنفيذًا للأمر الخديوي الصادر عقب ارتقائه مسند الخديوية، ورفع عدد أفراد الجيش إلى 18 ألف جندي».
قرأ عرابي العريضة على مسامع الحضور فوافقوا عليها، فوقّع عليها وختم عليها أيضا علي بك فهمي وعبد العال بك حلمي، وذهب ثلاثتهم فرفعوها إلى رياض باشا في منتصف يناير سنة ١٨٨١، رغم أنهم يعلمون ما كان ينطوي عليه هذا العمل من جرأة في ذلك الوقت.
ويقول محمود الخفيف في كتابه الذي نشر كدراسة مسلسلة في مجلة الرسالة قبل ثورة يوليو وطبع ككتاب مطلع ستينيات القرن الماضي: «كان رياض باشا يكره تقديم العرائض مهما كانت عدالة المطالب التي تحويها، فكان يلقي في السجن أو يحكم بالنفي على من يخطون مثل هذه الخطوة، قابل رياض الضباط مغيظا محنقاً، وخاطبهم في كبرياء وغلظة كما يقول عرابي، وقال لهم: «إن أمر هذه العريضة مهلكة، وهو أشد خطرا من عريضة أحمد فني الذي أرسل إلى السودان»، قاصدا أحمد أفندي فنى الذي نُفي إلى السودان في عريضة مماثلة وقضى نحبه في منفاه».
فرد عرابي على رياض باشا قائلا: «أننا لم نطلب إلا حقا وعدلا، وليس في طلب الحق من خطر؛ وإنا لنعتبرك أباً للمصريين، فما هذا التلويح والتخويف؟ فقال رياض: ليس في البلاد من هو أهل لأن يكون عضوا في مجلس النواب، فقال له عرابي: إنك مصري وباقي النظار مصريون والخديو أيضا مصري، أتظن أن مصر ولدتكم ثم عقمت؟ كلا فإن فيها العلماء والحكماء والنبهاء، وعلى فرض أن ليس فيها من يليق لأن يكون عضوا في مجلس النواب، أفلا يمكن إنشاء مجلس يستمد من معارفكم ويكون كمدرسة ابتدائية تخرج لنا بعد خمسة أعوام رجالا يخدمون الوطن بصائب فكرهم، ويعضدون الحكومة في مشروعاتهم الوطنية؟ فانبهر وكأنما كبر لديه ما سمعه منا، ثم قال: سننظر بدقة في طلباتكم هذه، فانصرفنا على ذلك».
أضمر رياض ورفقي لعرابي ورفاقه، وقررا الإيقاع بهم، ودعاهم رفقي إلى زفاف إحدى الأميرات، فتشكك عرابي في الأمر، ونصحه رجاله بألا يذهب، لكنه مضى في طريقه وأخبرهم بأنه سيذهب لاستجلاء الأمر وإن لم يعد بعد ساعتين فليفعلوا ما تمليه عليهم ضمائرهم.
عبيد ينقذ الثورة العرابية
ما أن وصل عرابي ورفيقاه إلى ديوان الجهادية حتى قبض عليهم عدد من الضباط الشراكسة وجردوهم من سلاحهم واحتجزوهم في إحدى غرف ثكنات قصر النيل، وصدر قرار بمحاكمتهم عسكريا، وبالفعل تشكلت المحكمة، لتعقد جلستها وتصدر حكمها.
ويروي عرابي في مذكراته تلك اللحظات قائلا: «ولما أقفل علينا باب الغرفة تأوَّه رفيقي علي بك فهمي وقال «لا نجاة لنا من الموت، من لأولادنا الصغار»، ثم اشتدّ جزعه حتى كاد يرمي بنفسه في النيل من نافذة الغرفة؛ فشجعته حتى تماسك».
كما يروي محمود الخفيف واقعة تحرير عرابي ورفيقيه من قبضة رفقي باشا ورجاله، والتي أظهرت جسارة وشجاعة الضابط محمد عبيد فيقول: «شاع خبر القبض على عرابي في الجند الوطنيين فثارت ثائرتهم، وكان أكثرهم جرأة وإقدامًا ووفاءً الضابط الباسل محمد عبيد بطل التَّلّ الكبير فيما بعد، وكان في آلاي علي فهمي بقشلاق الحرس بعابدين، فنادى جنده نداءه العسكري فاحتشدوا، فأمرهم بالسير إلى قصر النيل، فاعترضه خورشيد بسمي ،ذلك الذي حل محل فهمي؛ فلم يستمع محمد عبيد إليه، بل اعتقله في إحدى حجرات القشلاق، وشهد الخديوي تأهُّبَ الجند للمسير؛ فأرسل إليهم الفريق راشد باشا حسني، سير ياوره ليصدهم عن سبيلهم فيما استمعوا له، وأرسل توفيق يستدعي عبيدًا وبعض إخوانه فرفضوا أن يذهبوا إليه».
ويسترسل الخفيف: «أحكم عبيد الهجوم على قصر النيل، ولاذ رفقي بالهرب من إحدى النوافذ في صورة مخزية، وهرب أعضاء محكمته، واعتدى الجند على من صادفهم من الضباط الأجانب، وما زال عبيد يبحث عن الضباط الثلاثة هو وجنوده، وراحوا يحطمون الأبواب والنوافذ حتى عثروا عليهم؛ ففك عبيد قيودهم وأطلق سراحهم».
«في هذه الآونة تحرك آلاي طرة قاصدًا قصرالنيل، واستمرَّ رجاله في سيرهم على الرغم من أنهم علموا أن الضباط الثلاثة قد أخُلِيَ سبيلهم، وعلى الرغم من أن الخديوي أرسل لقائدهم خضر أفندي خضر ينهاه عن الحضور، إلا أن خضر توجه إلى عابدين وقد علم أن عرابيٍّا وصاحبيه قد ساروا إلى هناك».
ذهب الضباط الثلاثة ومن ورائهم من أخرجوهم من الأسر إلى الخديوي يُسمعونه شكواهم، وكان بعض أعوان الخديوي يشيرون عليه بأخذهم بالشدة ومعاملتهم معاملة الثائرين ولو أدى الأمر إلى إطلاق النار عليهم، وقال البعض إنه من العبث أن تلجأ الحكومة إلى البطش وليس لديها وسائله، فالفرق جميعًا تؤيد عرابي ومن معه. والرأي أن يسلك الخديوى معهم جانب اللِّين فيطفئ بذلك نار الفتنة، وكان ممن أشاروا بهذا الرأي محمود سامي البارودي الذي سوف يغدو من زعماء العرابيين فيما بعد.
محمود سامي البارودي
تغلبت الحكمة على الطيش، ووضع اللين في موضع البطش، كما يقول الخفيف، مضيفا: «أوفد الخديوي إلى الضباط الثلاثة ومن ظاهرهم من الجند تحت نوافذ قصره يخبرهم بإجابته مطلبهم الأول وعزل رفقي، وطلب إليهم أن يختاروا من يحل محله حتى لا يعودوا إلى الشكوى؛ فوقع اختيارهم على البارودي، ووعدهم الخديو أن ينظر في بقية مطالبهم، وأن يعمل على إنصافهم بعد أن أعادهم إلى مناصبهم والتمس الضباط الإذن على الخديوي، فلما مثلوا بين يديه أعربوا له عن امتنانهم وصادق ولائهم لشخصه وعظيم إخلاصهم لعرشه، ثم انصرفوا وانصرف الجند فرحين مستبشرين».
وبهذا تحول الضابط محمد عبيد الذي أطلق سراح عرابي ومن معه إلى نقطة انطلاق لما جرى في ثورة العرابيين من أحداث، فلولاه لتمت محاكمة عرابي ورفيقيه، ولوئدت الثورة قبل أن تبدأ.
على عهد الثورة
ويشيد المؤرخ عبد الرحمن الرافعي بشجاعة عبيد وإقدامه ووفائه لقادته المعتقلين، ويقول في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي»: إن عرابي لم ينس لعبيد موقفه «كان يثني عليه الثناء المستطاب، ورقاه إلى رتبة قائممقام ضمن من رقي من الضباط في عهد وزارة البارودي، ثم إلى رتبة أميرالاي، وظل محافظا على عهد الثورة، حتى كانت واقعة التل الكبير، ووقع فيها ما وقع من الذعر والفرار».
وعن دور عبيد في موقعة التل الكبير يقول الرافعي: «لقد أدى الضابط الشجاع محمد بك عبيد واجب الدفاع في تلك المعركة حتى النهاية، وقاتل الإنجليز قتالا مجيدا على رأس آلايين من الجنود، حتى قتل معظمهم، وقتل هو ضمن من قتل، فختم حياته بصفحة مشرفة جعلته بحق آية البطولة في تاريخ الثورة العربية».
لم يخلف عبيد ذرية ولم يعرف له قبر، ولم يفكر أحد في إقامة قبر له، أو تخليد ذكراه المجيدة بل لا يوجد في التل الكبير أي مدفن يضم رفات المصريين الذين قتلوا في المعركة، على أنهم يعدون بالآلاف، في حين أن من يمر هناك يشاهد مقبرة مشيدة للضباط والجنود البريطانيين الذين قتلوا في هذة الواقعة، فتأمل في الفرق بين تقدير الأمم لشهدائها وتقديرنا لشهدائنا، يختم الرافعي حديثه عن البطل المنسي عبيد.