كانت القرون السبعة الأولى من عمر الحضارة الإسلامية عصورا للإبداع والإنجاز العلمي والحضاري،لكن البعض يسعى لإغفال وإنكار ذلك الجانب المشرق من تاريخنا العربي والإسلامي، أوأننا قصرّنا في استخلاص فضلنا العلمي والفلسفي على الإنسانية، فتغافلنا، عن عمد حينا أو عن جهل في كثير من الأحيان، عن إبراز تلك النقاط المشرقة في تاريخنا على الرغم من أهميته في بعث الأمل في النفوس،ورفع الحرج عن وجهنا الذي اكتسى منذ قرون عدة ثوب الاستهلاك والتطفل والتبعية لثقافات الغير ومنجزاتهم الحضارية.
ولعل أكثر ما نحن بحاجة إليه الآن هو استعادة الثقة بالذات، والإيمان بتناوب حركة التاريخ، وتحين الفرص للعودة إلى ما كنا عليه من حضارة دانت الإنسانية بفضلها، وأغرت شعوب العالم القديم بتعلم لغتها ،التي كانت لغة أهل العلم، ونقل مظاهر حياتها، والإرتماء في أحضانها.
الجرَّاح الماهر
ولعل الطبيب والعالم المسلم «أبو القاسم الزهراوي» هو واحد من أهم محطاتنا التاريخية المشرقة، وأكثرها فخرا بما كان من ماضينا المثمر، الذي اعترفت بفضله الإنسانية جمعاء، ماضيها وحاضرها.
وُلد أبو القاسم الزهراوي في مدينة الزهراء الأندلسية عام (325 هـ/ 936م)، في عهد الخليفة الفذ عبدالرحمن الناصر، ونُسب إليها، وعايش أوج الحضارة الإسلامية في الأندلس، ونشأ في بيئة توفرت فيها جميع وسائل الإنتاج العلمي والفكري والعقلي؛ ليكون مثالاً فريدًا على عظمة ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية.
لكن عبقرية الزهراوي كانت في قدرته على اقتحام الجسم الإنساني للمرة الأولى بوضع أساسيات علم التشريح ووظائف الأعضاء، واعتبارها الأساس الذي يجب أن تقوم عليه مهنة الطب و الأطباء، بعد قرون ظل فيها التشريح عملاً ممتهناً يمارسه الحلاقون والحجامون تحت مسمى – العمل باليد- بينما يترفع عنه الأطباء. كان هذا هو الوضع في العالم الإسلامي المتحضر، أما في بلاد الغرب فلم تكن الكنيسة لتسمح بالاقتراب من عالم السر الإلهي الممثل في الإنسان، بل كان التداوي يتم عادة عن طريق السحر والشعوذة.
عمل الزهراوي في مستشفى قرطبة، الذي أنشأه الخليفة عبد الرحمن الناصر، وأعمل النظر في الطرق والوسائل المستخدمة في علاج المرضى، وترسخت قناعاته في المضمار الطبي حتى أصبح ذا خبرة عظيمة بالأدوية المفردة والمركبة، وجمع بين الطب والصيدلة. ولم يقنع بالطرق التقليدية في مداواة المرضى، فسعى إلى إبراز أهمية مزاولة الطبيب لفن الجراحة بدلاً من أن يوكل ذلك -كما كانت العادة- للحجّامين أو الحلاقين، فمارس الجراحة وحذق فيها وأبدع، حتى أصبح المرجع الأول لما يُعرف بعلم الجراحات في الطب الحديث.
200 أدأة للجراحة
وإلى الزهراوي ينسب الفضل في معرفة أكثر من مائتي أداة من أدوات الجراحة التي تناسب مع مختلف أشكال العمليات الجراحية، كالمشرط والمقص الجراحي وجفت الولادة، والمنظار المهبلي المستخدم حاليًا في الفحص النسائي، والمحقن أو الحقنة العادية، والحقنة الشرجية، وملاعق خاصة لخفض اللسان وفحص الفم، ومقصلة اللوزتين، وكلاليب خلع الأسنان، ومناشير العظام، والمشارط على اختلاف أنواعها، وغيرها الكثير من الآلات والأدوات التي أصبحت النواة التي طُوِّرَتْ بعد ذلك بقرون لتصبح الأدوات الجراحية الحديثة.
كما أبدع منهجًا علميًّا صارمًا لممارسة العمل الجراحي، يقوم على دراسة تشريح الجسم البشري ومعرفة كل دقائقه، والاطلاع على منجزات من سبقه من الأطباء والاستفادة من خبراتهم، والاعتماد على التجربة والمشاهدة الحسية، والممارسة العملية التي تُكسب الجراح مهارة وبراعة في العمل باليد -أي الجراحة- وبيَّن ذلك لطلابه في موسوعته الطبية العملاقة (التصريف لمن عجز عن التأليف)، وهو أهم وأشهر تصانيفه الطبية الذي ظل بمثابة المرجع الجراحي الأول لكبرى الجامعات الأوروبية حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي.
وإلى الزهراوي يعود الفضل إلى تعريف الإنسانية بالعديد من العمليات الجراحية الهامة مثل عمليات القسطرة، وشق القصبة الهوائية، وربط الشرايين، وإزالة تجلطات الدم جراحيا، ووصف الأورام السرطانية وطرق استئصالها وغيرها العشرات من العمليات الجراحية التي لا تزال تعتبر خطرة في وقتنا الراهن.
وإذا كان اسم الزهراوي خافت الذكر في أوساطنا العربية، فلقد ظل ذائع الصيت بين أوساط الجراحين والأكاديميين ومؤرخي علم الجراحة الغربيين حتى عصرنا الراهن. فقد ترجم العلامة الإسباني جيرارد ألكريموني كتاب التصريف إلى اللاتينية التي كانت لغة العلم في القرون الوسطى، ليكون مرجعا لأطباء أوروبا. كما أشاد بفضله على الإنسانية أمثال جوستاف لوبون، وعالم وظائف الأعضاء الكبير هالر وغيرهم كثيرون.
وبعد ما يزيد عن الف سنة، لا يزال اسم هذا الطبيب المسلم أبو القاسم الزهراوي، يتردد في أوروبا وبطرق مختلفة، فهو يسمى أبولكاسس والبلكاسس، والسروي، وأكاراني، والزهراوي، وزاهرفيوس، والكارافي.
لقد كان أبو القاسم الزهراوي إحدى الثمرات التي قطفتها الإنسانية من بستان الإسلام، والتي سعدت بها وبأمثالها الأجيال، من خلال ما تركته من بصمات الخير في رعاية المصالح ودرء المفاسد، وقيام صرح الحضارة الإنسانية على قواعد راسخة. وقد كان كل ذلك بجهود أمثال الزهراوي العظيم.
مريض أوربى فى مستشفى قرطبى
وربما يكون من المفيد أن ننقل هنا صورة أحد المرضى الأوربيين الذين أسعفهم الحظ بالتداوي في واحدة من مسشفيات قرطبة كما قدمتها المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة في كتابها «شمس الله تشرق على الغرب…فضل العرب على أوربا»
«أبى الحبيب، تسألني إن كنت بحاجة إلى نقود. فأخبرك بأني عندما أخرج من المستشفي سأحصل على لباس جديد، وخمس قطع ذهبية حتى لا اضطر إلى العمل حال خروجي مباشرة فلست بحاجة إذا إلى أن تبيع بعض ماشيتك، ولكن عليك بالمجىء إذا أردت أن تلقاني هنا، إني الآن في قسم (الأورتوبادي) بقرب قاعة الجراحة، وعندما تدخل من البوابة الكبيرة، تعبر القاعة الخارجية الجنوبية وهي مركز(البوليكلينيك) حيث أخذوني بعد سقوطي، وحيث يذهب كل مريض أول ما يذهب لكي يساعده الأطباء المساعدون وطلاب الطب. ومن يحتاج منهم إلى معالجة دائمة في المستشفى تعطى له وصفته فيحصل بموجبها على الدواء من صيدلية الدار…
وأما أنا فقد سجلوا اسمي هناك بعد المعاينة وعرضوني على رئيس الأطباء. ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال، فحممني حماما ساخنا وألبسني ثيابا نظيفة من المستشفى. وحينما تصل ترى إلى يسارك مكتبة ضخمة وقاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس في الطلاب. وإذا ما نظرت وراءك ترى يقع على ممر يؤدي إلى قسم النساء، ولذلك عليك أن تظل سائرا نحو اليمين، فتمر بالقسم الداخلي والقسم الجراحي مرور الكرام… فإذا سمعت موسيقى او غناء فأدخل وأنظر بداخلها فلربما كنت هناك في قاعة النُقة حيث تشنف آذاننا الموسيقى الجميلة ونمضي الوقت بالمطالعة المفيدة….»