منوعات

في وخزها شفاء أو شقاء: «الإبرة».. تلك الأداة الحادة الممشوقة الشامخة

حادة، واخزة، رشيقة، جامعة الشمل فى هدوء، وواصلة المقطوع دون قلق، وساترة الحال رغم هشاشتها، شامخة فى كبرياء نادر رغم رهافتها، أداة نجاة وإنقاذ عندما تتفرق بنا السبل، وتصلح الحال إن كان فاسدًا، ووسيلة اختبار دقيقة وحاسمة فى اختيار واختبار الزوجة.

الإبرة فى التاريخ

لعل من موبقات الحداثة، أننا لم نعد نرى «الإبرة» في يد نسائنا، ذلك لأن الإبرة مثلها مثل الكثير من الأدوات المنزلية التى بدأت تتلاشى وتنقرض، أو لم يعد لها مكان فى المنزل الحديث أو بين أيادى النساء اللاتى لم يعدن يهتممن بوجودها الآن، مع أن تاريخ الإبرة «مغروز» فى تاريخ الإنسانية.

فمنذ البداية، وفى عصور قديمة للإنسانية كانت الإبر تصنع من عظام الحيوانات، أو أشواك الأسماك، أو أغصان بعض الأشجار والنباتات، وكان ذلك قبل أن تصنع من المعدن. وقد كان الصينيون هم أول من استخدم الإبر المعدنية، قبل أن تنتقل للغرب وتنتشر فى كل العالم. لكن ظهور الإبرة كصناعة بدأ في مدينة «نورمبرج» بألمانيا في القرن ال 14 ميلاديًا، وأول إبرة صُنعت من الصلب آليا كانت فى 1785م، وصنع للإبرة ثقب فى عام 1826م.

 و كما هو معروف فإن الإبرة أداة للخياطة أو الحياكة أو خياطة جلود الأحذية، هى أَداةٌ أحدُ طرفيها مُحَدَّد والآخَر مثقوب،يُخاطُ بها، وهى رفيعة الشكل وتكون بأطوال وأحجام مختلفة، ومنها ما يصل طوله لأكثر من عشرين سنتيمترا مثل إبر الاطباء التى يستخدمونها أثناء العمليات الجراحية، ومنها ما يصل إلى طول الذراع وهى تلك التى تُخيط بها الجلود والبراذع للحيوانات.

وخز الإبر

ورغم ندرة رؤيتها الآن إلا أن «الإبرة» موجودة وحاضرة فى حياة الإنسان، وهى موجودة أيضا لدى كائنات أخرى، فالإبْرة لدى العَقرب أو النحلة: تَلْسَع بها وتدافع بها عن نفسها، والإبْرة من المِرْفَق أى الذراع هى طَرَف العظم الناتئ عند ثَنْي الذراع، وإبرة المِحْقَن هى إبرة يُغرز طَرَفُها في الجسم لينفذ منها الدواءُ إليه، وإبْرة آدم نبات للزينة مُعَمِّر من فصيلة الزنبقيَّات، وإبرةُ الفونغراف هى ما تَمُرُّ على أثر الصوت المسجَّل لتعيده، و«بَيْت الإِبْرَة» هى البوصلة التى ترشدنا في البحار والصحراء، وإبرة وابور الطهى هى التى يتم تنظيف الفونية بها وهى التى تقوم بتوزيع الجاز، ووَخْز الإبَر هو الإيذاء المتتابع فى خفية، وحديثا  اصبحت الإبرة علاجًا وهى الإبر الصينية التى تعتمد على غرز الإبر الدّقيقة فى نقاط محدَّدة في الجسم للعلاج من بعض الأمراض، كما أن كثيرا من الحشرات لديها إبر للسع أو الدفاع بها مثل الدبابير والنحل.

اقرأ أيضا:

وفي السياسة الحديثة يقال «سياسة وخز الإبر» ويعنى بذلك سياسة العداء فى الخفاء توخز وخزًا من غير أن تسيل دماء، وقد كانت واضحة بين أمريكا والإتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة. كما نراها فى حياتنا اليومية بين الحماة وزوجة ابنها.

 والخروج من «ثقب الإبرة» للدلالة على المهارة والخفة والنجاة، ولدقة ورهافة الإبرة يقال عن المرأة الهادئة التى تعيش فى حالها «لا تسمع لها صوت إبرة» أي لا تسمع لها أى ضجيج أو صوت فى بيتها، وتقال أيضًا عن المرأة النظيفة والهادئة والتى لا تثير المشكلات، وتقال عن صعوبة المهمة واستحالتها «يبحث عن إبرة في كومةِ قش».

 ويقال عن شكل الإبرة إنها قاسية وتعيش بمفردها ولا تحب الصداقة ولاتكف عن الوخز، لذا يطلق في الحياة العامة لفظ «رجل إبرة» أى ثقيل وكثير الشكوى والإلحاح، أو على من يكون كثير الإيذاء للغير خاصة فى الخفاء، بينما فى الماضى كان يعتبر هذا سبابًا للمرأة، فإذا رأت امرأة، امرأة أخرى رفيعة ونحيفة جدًا، تقوم بهجائها بأنها «امرأة إبرة».

معتقدات شعبية

وقد ارتبطت الإبرة بكثير من المعتقدات الشعبية قديمًا، فقد كان يُحرم بيع الإبر بعد صلاة العصر فى مصر، حتى لو دفعت أكثر من قيمتها بكثير، والسبب فى ذلك اعتقاد بأن الملائكة الموكلة بتقسيم الأرزاق تهبط بعد العصر، فإذا كان الإنسان فى يسر وهناء زادت سعته، وإن كان فى بؤس وشقاء أعطته على قدره، كما يعتقدون أن حرفة الخياطة من أفقر الحرف، لذا يكرهون أن تراهم الملائكة على هذا البؤس فترزقهم على قدر بؤسهم، فحرموا من أجل ذلك الخياطة وبيع الإبر بعد العصر.

كما كان يعتقد بأن الخياطة بالليل تؤذى الأموات، لذا كانوا يكرهون أن يخيطوا شيئًا بالليل، وفى بعض القرى بالريف تتشدّد  بعض النساء فى ذلك فلا يعرن إبرة لأى سبب بعد العصر، فإذا دعت الضرورة إلى ذلك وضعتها المعيرة فوق رغيف من الخبز وأعطته لطالبة الإبرة فتأخذ الرغيف وعليه الإبرة، ولكن لا تمسها بيدها مباشرة.

و«الإبرة الغشيمة» مصطلح شعبي عن الإبرة التى لا ثقب لها، وهى فى الأصل إبرة أخطأت الآلات التى تصنعها فمرت عليها من غير أن تثقبها، وعندما كثر الطلب عليها كان تجار الإبر يستوردونها بتوصية خاصة منهم، والسبب فى الاقبال عليها اعتقاد العجائز أنها تبطل عمل السحر، فهن يأخذنها ويلففنها فى خرقة ويضعنها فى حجاب من جلد فتمنع العين والسحر.

فى  الغرب يختلف الأمر بالنسبة للإبرة عن الشرق، حيث يشتد الإقبال على شراء الإبر التى تخاط بها الأكفان، وذلك لإلقاء أذى من السحر على الآخرين، ويشاع أيضا أن على الفتاة التي تتمني الحصول على زوج، أن تقوم بغرز «سبعة إبر» فى شمعة جديدة، بعد إشعالها، وتدعو السيدة العذراء إلى إجابة طلبها طوال مدة الاشتعال، فإذا فعلت ذلك ولم تظفر بقلب الرجل الذى تتمناه، فهى على الأقل تجعله عاجزًا مع النساء الأخريات.

أداة اختبار للعروس

ولدقة الإبرة يطلقون عند تجهيز العروس عبارة «لديها كل شيء من الإبرة للصاروخ» أى لا ينقصها شىء من أدوات بيتها. وكانت بعض الحموات يخترن الفتيات لأبنائهن بعد أن تشاهدهن وهن يقمن بادخال الخيط فى ثقب الإبرة وخاصة صغيرة الحجم ذات الثقب الضيق، حتى تعلم مدى قوة بصرها ودقته، كما تترك لها بعض الملابس الممزقة أو بها وتحتاج إلى الخياطة، حتي ترى الغرزة التى تخيط بها عروس الإبن المنتظَرة، فإذا كانت الخياطة سيئة ومعيبة تقول عنها «بين الغرزة والغرزة ترقد العنزة» وهى تقصد بذلك أن غرز الخياطة ليست منسجمة ولا دقيقة، فبين كل غرزة وأخرى فضاء كبير يتسع لجلوس ونوم العنزة.

ورؤية الإبرة في المنام تدل للعازب على الزواج، وللفقير على ستر الحال، ومن يرى خيطًا فيه إبرة فإن شأنه يلتئم، ويجتمع له ما كان متفرقًا من أمره، ولو كُسرت إبرته أو أخذت منه، فإن شأنه يتفرق ويفسد أمره، والإبرة هى النصيحة، والخيط هو الناصح، وإن خاط ثيابه استغنى إن كان فقيراً، واجتمع شمله إن كان مبدداً، وانصلح حاله إن كان فاسداً.

ومن المعروف أن «الإبرة التى بها خيطان لا يحاك بها» وهو مثل يضرب لتعدد الرؤوس والخوف من فساد العمل بكثرة الأوامر المتناقضة، بينما فى الصبر يقال «التركى يحفر البير بإبرة» للتدليل على أن التركى صبور على نيل غرضه يصل إليه فى دأب وصبر، ولو لم يجد وسائل متوافرة استطاع أن يتخذ أى وسيلة مهما صغرت، ويكمل نقصها بصبره والثبات على قصده.

ستظل الإبرة – رغم أنها تندثر الآن- موجودة ومؤثرة فى العقل والوجدان الإنساني، فهي تبعث على البهجة والفرح حين تحيك فستان الزفاف أو تستخدم فى تنجيد الجهاز للعروس، وهى أيضا تجلب الحزن الشديد حين تخيط أكفان الراحلين وأجساد المصابين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock