لم يكن فوز الروائية العمانية جوخة الحارثي، بالجائزة العالمية للرواية «مان بوكر»، مجرد انتصار شخصي لأدبها، بل تخطى ذلك إلى لفت الانتباه إلى الأدب العماني بشكل خاص، والأدب الخليجي بشكل عام، فضلًا عن تأكيده أن الأدب العربي يستطيع المنافسة بقوة في المحافل الدولية، شريطة توافر البيئة الملائمة لذلك، من كتابة جيدة وترجمة مميزة، وهو ما يؤكده الكتّاب والنقاد خلال السطور التالية.
العرب والجوائز العالمية
تقول الروائية الإماراتية «مريم الساعدي».. «أعتقد أن العرب يمتلكون فرصًا كبيرة للفوز بالجوائز العالمية، فقط لو تمت ترجمتهم بشكل لائق، فالأدب العربي لا يقل أهمية عما سواه من آداب العالم، يحتاج فقط أن يصل عبر مشاريع جادة للترجمة، لو تم دعم ترجمات حقيقية للأعمال العربية فهذا كفيل بإيصال صوت العرب الأدبي إلى أرجاء الأرض، وسيتم استقباله بكل تقدير واحتفاء، حتى وإن لم يحصل على الجوائز، فالذائقة الغربية لديها تقدير واهتمام حقيقي بالأدب الجاد.
مريم الساعدي
وتلفت «الساعدي»، إلى أن هناك اهتماما خاصا بأدب الخليج العربي، إذ يمتلك العالم فضولا من نوع خاص حول هذه المنطقة ومعرفة ماذا يدور بعقول أناسها، وكيف يُعبّرون عن أنفسهم وأسلوب حياتهم إبداعيًا، حيث تبدو المجتمعات بالنسبة لهم قبلية غامضة لا زالت تحيا على إرث ثقافي تراثي، رغم ظاهرها المتمدن في عالم حديث مختلط، ولطالما كان هذا مدعاة لفضول الغرب المشدود لغموض قصص الشرق البعيد، وهناك بعض المشاريع الابداعية الجادة في المنطقة والتي بإمكانها الحصول على اعتراف دولي، فقط نحتاج أن نؤمن بإنسانيتنا وبقدرتنا على التعبير عنها أدبيًا بأكبر قدر ممكن من الصدق، وبدون إحساس غير واقعي بالعظمة وهو إحساس قد ينتج عن التهويل في استقبال بعض الأعمال لدوافع مختلفة، والصوت الأدبي الصادق دائمًا يجد صداه في أذن مستمع يبحث عن أنغام الجمال الإنسانية.
اقرأ أيضا:
«سيدات القمر» للعُمانية جوخة الحارثى.. أول رواية عربية تفوز بالبوكر العالمية via @aswatonline https://t.co/d2wtMY9i3m
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 14, 2019
وتؤكد صاحبة «مملكة النحل في رأسي»، أن فوز جوخة الحارثي مجرد مثال لهذه الإمكانية، وهناك أعمال كتبتها نساء خليجيات لا أعتقد أنها تقل أهمية عن رواية الحارثي الفائزة بـ«المان بوكر»، امتلكت جوخة فقط حظًا أوفر بالمترجمة التي آمنت بعملها إيمانا حقيقيا لتنقله للانجليزية. وتضيف: «شخصيًا لم أطلع على رواية جوخة بعد ولا أعرف مستواها الفني، ولكن الأكيد أن «الفضول» أحد أهم عوامل الالتفات إلى الأعمال في هذه المنطقة، اطلعت على روايات عالمية كثيرة تمت ترجمتها وتحصلت على الجوائز ولم يكن مستواها بذلك الإبهار الذي قد يظنه أي كاتب عربي لا يمتلك الثقة الكافية بنفسه».
وتختم «الساعدي» بالقول: «أتمنى أن يشتغل الكاتب في الخليج على عمله بدون التفكير في الجوائز عالمية كانت أو محلية، في النهاية الجائزة الحقيقية هي أن يصل العمل إلى القارىء، والترجمة جسر أصيل لذلك، والجوائز إن حصلت فلا يجب أن تكون إلا تحصيل حاصل، وعلى الكاتب أيضًا أن يظل مدركًا أن لكل جائزة معاييرها الخاصة التي قد لا تكون «فنية» بالضرورة، فلا يأخذه الزهو بالإنجاز والوصول، فيرتكن إلى ذات الإحساس غير الحقيقي بالاكتمال والتحقق، فهنا قد تكمن نهايته «فنيًا» وإن حالفه الحظ وانتشر «عالميا».
الإبداع السردي الخليجي
ويقول الكاتب الصحفي والروائي الأردني حسين دعسة، إن فوز الروائية العمانية جوخة الحارثي بجائزة البوكر العالمية لأفضل عمل أدبي مترجم للغة الإنجليزية- عن روايتها «سيدات القمر»، يوضح أن العمل الابداعي «رهين المحبسين» في الخليج العربي تحديدًا: المحبس الأول «الحريات العامة»، والمحبس الثاني هو «الدين السياسي» بكل موروثاته التقليدية، وفي حالة الإبداع الأدبي في مجالات السرديات من قصة قصيرة ورواية ومسرح وحتي شفاهي، فالمعروف أن موروث الخليج العربي والجزيرة العربية، أكبر منجم لإبداعات نادرة من حيث السرد والقص والخيال الشرقي.
حسين دعسة
ويشير «دعسة»، إلى نواة «الرواية العربية النسوية» على فقر بداياتها سرديا ولغويا، وبالذات عند الكاتبة أليس بطرس البستاني (1870 – 1926) ولبيبة هاشم (1880 – 1947) وزينب فواز (1860 – 1914)، جنبا إلى جنب مع رائدة هذا الاتجاه النسوي دون منازع عائشة التيمورية (1840 – 1902)، حيث لعبت الترجمة دورًا كبيرا في انطاق المسكوت عنه من حياة المجتمع العربي الإسلامي بكل مفردات ثقافته. ويضيف: «الآن علينا أن نؤكد أن الرواية العربية في مناطق مؤلفيها وليس مناطق تفكيرهم، وعلى مستوى توظف تقنيات وأسرار السرد، وطرائق التأليف المعاصرة التي تعتمد على التأثر بعالم القص والسيناريو والشعر والخيال والتمثيل السردي، فالتلازم محدد ممكن، مثير وعاصف، جعل ابداع سرديات الرواية في الخليج والجزيرة العربية، يتجاوز قدرة السوق والقارئ، برغم اختلاف أدوات التلقي.
يرى «دعسة»، أن الرواية في الخليج كانت تتماثل من حيث الوعي مع الرواية في شبه الجزيرة العربية، من حيث التقنيات السردية التي تدور حول كلاسيكيات الرواية المصرية والشامية، إلى أن ظهرت أسماء غيرّت المفهوم والشكل وجدّدت طرائق التمثيل السردي وأسراره التي وفرتها الترجمات العربية لآداب عالمية، وعاش الخليج العربي مرحلة أدبية وثقافية وإبداعية فيها طفرات كثيرة من العمل والكتابة والصراع على كسر محابس الإبداع، وهي أمور تعرف بمرحلة الازدهار الاقتصادي والاجتماعي الثقافي والفني والفكري، كما بدأت مسيرة التنمية المشرقة والمضيئة في الثقافة والفن والإبداع. ومع هذا التصاعد الثقافي والتحولات والتطورات المجتمعية السريعة، انطلقت المسيرة الروائية بإيقاع متسارع في ستينات وسبعينات القرن الماضي، من خلال وجود الصحف والمجلات بشكل واسع.
ويوضح أن ما كان من جوخة الحارثي العمانية، ورجاء عالم من السعودية، أو ليلى العثمان من الكويت، يحدثنا عما كان من إسماعيل فهد إسماعيل أو أمين صالح من البحرين، أو طالب الرفاعي وغيرهم كالشاب سعود السنعوسي، والعجوز عبده خال، لافتًا إلى أن الخليج حدد بوصلة الكتابة المعاصرة وأثرها، فقد وضع فوز «الحارثي» كأول شخصية أدبية عربية تُمنح جائزة «بوكر الدولية» في مواجهة مع عالم الثقافة الاستعمارية ومداوراتها وإشاراتها لتحديد اتجاهات وإشارات واقعنا الثقافي وابداعنا الموزون، الذي فيه عبقريات أسست في الفكر وليس في البيئة، وأقصد هنا سرديات نجيب محفوظ ورضوى عاشور وادوارد الخراط وصنع الله ابراهيم.
صنع الله ابراهيم رضوى عاشور إدوارد الخراط نجيب محفوظ
ويعتبر دعسة أن «سيدات القمر»، رواية عمانية تحكي مشافهات وتوفر صورة شاعرية متخيلة وفنية، لمجتمع يشهد عملية تحول وتطل على حيوات كانت سابقا في الظل، تستولي على العقول والقلوب بالمقدار نفسه، راوية حياة ثلاث شقيقات، يشهدن على التطور البطيء في المجتمع العماني بعد الحقبة الاستعمارية، وما زلت أذكر كيف وصلت الروائية «رجاء عالم»، وفازت في العام 2011 عن روايتها «طوق الحمام» بجائزة البوكر للرواية العربية، مناصفة مع الكاتب المغربي محمد الأشعري عن روايته القوس والفراشة، وهذه هي المرة الأولى منذ إطلاق البوكر عام 2008 التي تفوز فيها كاتبة بالجائزة، وتكشف روايتها «طوق الحمام» عن العالم الخفي لمدينة مكة المكرمة من الرقيق الأبيض إلى التطرف الديني إلى استغلال العمال الأجانب، حيث شكل فوزها هنا استدراكا عالميا لروايتها الخطيرة الذكية.
أما في الكويت، فهناك حالة ابداعية أسست وتؤسس لعالم الكتابة والمنجز العربي والعالمي، فقد كان فوز الروائي سعود السنعوسي بروايته «ساق البامبو»، بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2013، حالة صادمة، فقد كنا نرى عالمنا في الخليج عربيا وقوميا عبر أعمال ليلى العثمان وعالية شعيب وإسماعيل فهد وطالب الرفاعي، أما رواية السنعوسي فكانت تسجل عوالم أخرى بين الفلبين والكويت، وتتناول بعض القضايا والأحداث التاريخية والسياسية والدينية.
سعود السنعوسي ورواية «ساق البامبو»
في سياق متصل، تقول الروائية والناقدة الأكاديمة المصرية الدكتورة إيمان الزيات: «لا شك أن الإبداع الناتج عن مجتمعات ذات نسيج واحد وتركيبة محددة، يختلف أيما اختلاف عن ذلك الإبداع الذي تنتجه المجتمعات المتداخلة والمركبة، متعددة الأنسجة واللغات والثقافات والمعارف، فتلك المجتمعات إذا تم إدماج خليطها الثقافي والإجتماعي والمعرفي بشكل ايجابي ومتوازن، ستكون أكثر قدرة على انتاج نوع من الإبداع المدهش..وهذا يدعونا للتفكير في أهم الملامح والخصائص الإبداعية التى تميز أقلام تلك المجتمعات ونصوصهم، فمن أين تأتي المتعة التى يثيرها فينا نص ما، فتدفعنا إلى إعادة قراءته وعدم نسيانه؟ هل هي فكرة النص أم آلية بنائه أم سلاسة سرده أم خصوصية الحالات والمجتمعات التى يتناولها هذا النص أم كل ذلك مجتمعًا؟
إيمان الزيات
تضيف الزيات: «علينا أن نقر بأن هناك مشروعًا قصصيًا آخذًا في النمو والتبلور، في بلدان الخليج، محاولًا أن يكرس نفسه ليحظى-من ثم- بالحضور الكثيف والفاعل في الحياة الأدبية والثقافية العربية.