فن

رأفت الميهى.. الخارج على النص

في عام 2012، وعقب إجرائه عملية قلب مفتوح، وفي خضم أحداث الثورة المصرية التي اندلعت في يناير 2011، كتب رأفت الميهي سيناريو فيلم عنوانه «قلب مفتوح» وصفه بأنه أشبه ما يكون بالهلوسة.. يحكي السيناريو قصة ضابط في جهاز مباحث أمن الدولة يصاب بأزمة قلبية يدخل على إثرها المستشفى لإجراء عملية قلب مفتوح، وأثناء إجراء العملية يدخل الضابط في حالة هلوسة يستعيد من خلالها أحداث حياته؛ فيرى أمه وهي تبيع مصاغها؛ لتلحقه بكلية الشرطة، ويخايله وجه الفتاة البسيطة التي أحبها يوم أن التقاها قرب بحيرة البرلس؛ والتي اضطر للتخلي عنها تحت وطأة الطموح، ثم يُفزعه وجهه وقد اكتسى ملامح الجلاد مُزهِقا الأرواح، مُنزِلا ألوان العذاب على الأجساد الهشة.. يعاين بطلنا تلك المشاهد وهو في تلك اللحظات الحرجة؛ فيتبين أن ما قدمه على مذبح الواجب راح هباء، كما أن رؤساءه الذين شُغل بتنفيذ أوامرهم طوال الوقت لم يكونوا في حقيقة الأمر سوى أصناما من صنع خياله المريض.. فيموت.

لأسباب عديدة لم ير هذا الفيلم النور، وربما كان أهم تلك الأسباب متعلقا برأفت الميهي الذي آمن بحق الأجيال الجديدة في مساحات أوسع للعمل والإبداع؛ فآثر أن ينتهي معلما كما بدأ لا مخرجا.

البدايات

في مطلع الستينات تخرج رأفت الميهي في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب.. لم يشغله عن دراسته خلال تلك السنوات سوى حضور الندوات الأدبية وكتابة القصة القصيرة التي تميز إنتاجه منها بالجودة والإحكام بشهادة كثيرين.. كان عليه بعد التخرج أن يستسلم لمصيره، ويقبل بوظيفة مدرس خارج القاهرة؛ لكن حنينه لمدينته كان يضنيه؛ ظل حائرا بين البقاء في الوظيفة أوتركها والرجوع إلى أحضان أثيرته الجميلة.. ثم قطعت يد القدر التردد بالحسم عندما أبلغه صديق أن مخرجا إذاعيا قد قام بتحويل قصة قصيرة له كان قد نشرها في إحدى الصحف إلى تمثيلية إذاعية. جلس الميهي يستمع إلى التمثيلية وهو شبه مسحور؛ فها هي جُمَله التي وضعها على ألسنة شخوصه تتردد عبر الأثير ليسمعها الناس في جميع أنحاء مصر.. أي روعة تلك التي تتيح للمبدع أن يصل صوته إلى الجماهير على هذا النحو المبهر، بينما تسرى أفكاره إلى العقول عبر ذلك الوسيط الفتان؟ وكان القرار بترك التدريس والالتحاق بلجنة القراءة بالمؤسسة العامة للسينما، وكذلك مواصلة الدراسة بمعهد السيناريو الذي أسسه صلاح أبو سيف.. بعد تخرجه في المعهد بدأ الميهي كتابة السيناريو بشكل احترافي، فقدم سيناريو مسلسل رزق العيال للتليفزيون، ثم عددا من تمثيليات السهرة مصَّرها عن مسرحيات لكاتب أمريكي، كما كتب سيناريو  لقصة «الغريب» ليوسف إدريس قدمت كتمثيلية في البرنامج الثاني، وفي نفس الوقت ترجم كتاب أعمدة السينما، إلى جوار انتظامه في كتابة المقالات النقدية.

ويلتقي مبدعنا مع المخرج سيد عيسى الذي كان قد أنهى دراسته للإخراج في روسيا، فيكتب له سيناريو فيلمه الأول «جفت الأمطار» عن رواية لـ «عبد الله الطوخي».. ورغم تميز الفيلم وتفرده في كثير من النواحي إلا أنه لم يحظ بالنجاح المنتظر؛ وكان سببا في ابتعاد مخرجه عن العمل السينمائي، وكان المخرج كمال الشيخ قد شاهد الفيلم، وأعجب بالحوار وما يحمله من معان وتلميحات فأدرك قدرة الميهي على حمل مضامين النقد للنظام السياسي دون الدخول معه في صدام وكان ذلك عام 1967.

https://youtu.be/4ynBk4dbu84

ينضم الميهي إلى جماعة السينما الجديدة التي كانت تضم الناقد علي أبو شادي، والمخرج محمد راضي، والمونتير أحمد متولي والناقد سمير فريد والمخرج علي عبد الخالق وآخرين.. وقد أصدرت الجماعة بيانا دعت فيه إلى تطوير سينما مصرية تعبر بصدق عن قضايا الواقع المصري وهموم الناس وتتمتع بمستوى فني وتقني متطور.. كما ألمح البيان إلى رفض هزيمة يونيو وضرورة استعادة الأرض والكرامة.

تجارب فريدة

تقارب كمال الشيخ و رأفت الميهي عن طريق صديقهما المشترك صلاح أبوسيف الذي يَعُدُه الميهي أستاذه في السيناريو وكان أول عمل جمع بينهما هو فيلم «غروب وشروق» الذي حقق نجاحا مدويا،.. وفي العام التالي يقدمان معا «شيء في صدري» عن قصة لإحسان عبد القدوس، واستمر النجاح.. ثم يقدم الميهي تجربة فريدة مع ثلاثة مخرجين شباب من خلال فيلم «صور ممنوعة» الذي ضم ثلاث قصص منفصلة كتبها الميهي التزاما منه بدعم الأجيال الجديدة برغم أنه كان لايزال يتلمس طريقه في عالم السينما.. وخلال عامي 73، 74 يكتب الميهي ثلاثة سيناريوهات هي «أين عقلي» من إخراج عاطف سالم، وفيلم «غرباء» للمخرج سعد عرفه وقد تناول الفيلم مبكرا خطورة ظاهرة التطرف على المجتمع المصري من خلال عرض بعض النماذج مثل أستاذ الجامعة الملحد المنبهر بالحضارة الغربية الذي ينتهي منتحرا بعد اكتشافه حقيقة زيف تلك الحضارة، والشاب المتدين الانعزالي المعادي للمجتمع الذي ينتهي أمره إلى الاكتئاب والضياع إلى جانب بطلة الفيلم التي تتخبط بين نماذج الأستاذ والأخ المتدين والحبيب المستهتر.. ولا ينسى الميهي مبدأه الأساسي في دعم الشباب فيكتب لعلي بدرخان سيناريو فيلمه الأول «الحب الذي كان» قبل أن يعود للعمل مع كمال الشيخ مرة أخرى لتقديم فيلم «الهارب» عن ممارسات الأجهزة الأمنية ضد الشباب المسيس.. وصولا إلى أهم ما قدمه الثنائي، وهو فيلمهما الرائع «على من نطلق الرصاص» عام1975، وهو درة تاج العمل المشترك بين العملاقين في نظر الكثيرين.. ولهذا أسباب عديدة منها، أنه أول فيلم يطرح فكرة الحل الفردي والعدالة الناجزة في ظل سيطرة الفساد وغياب القانون، ثانيها أن الفيلم كشف مبكرا بعض جوانب الفساد في نظام الرئيس السادات، وتداعيات سياسات الانفتاح الخطيرة على المجتمع المصري، والتحذير من تدمير أجيال بأكملها لحساب فئة الانتهازيين  ولصوص كل عصر.. وكانت براعة سيناريو الميهي أن الأحداث جرت في إطار تحقيق متقن تتكشف من خلاله الحقائق تباعا دون افتعال أو مباشرة. 

عقب النجاح الذي حققه الفيلم وردود الفعل الغاضبة من قبل دوائر السلطة.. قرر الميهي التوقف عن العمل والتفرغ التام لدراسة فن الإخراج وكل ما يتعلق به.. استمرت فترة التوقف نحو خمس سنوات، عاد بعدها عام 1981، ليقدم لنا فيلم «عيون لا تنام» الذي جسّد من خلاله انسحاق الإنسان المصري في ظل تغول القيم المادية، وتحكم الشيخوخة- في إشارة إلى العصور السابقة بكل ما حملت من مساوئ- في الشباب للتضحية به في أتون البحث عن أسباب البقاء الأبدي.. والفيلم برغم جماله ودقة صنعه والنجاح الذي حققه إلا أن النقاد لم يعتبروه البداية الحقيقية للمخرج رأفت الميهي، زاعمين أن الفيلم هو استكمال لمسيرة الميهي السينارست.

ومع بدايات عهد مبارك يلقي الميهي قنبلته التي هزت الأوساط الفنية والسياسية والقضائية.. «الأفوكاتو» الذي اعتبره الكثيرون الفيلم الأنجح في مسيرته.. والفيلم -على عبثية كثيرٍ من مشاهده – يحمل رسالة تحذير من توفر كافة الشروط التي  كانت تسمح بعودة أساطين الفساد في العصور السابقة بقوة، مع وجود ذلك الكم الهائل من الثغرات في القوانين التي تغري بالتلاعب وإنتاج أشكال جديدة من الفاسدين الذين ربما تضطرهم الضرورة للانخراط في الأنشطة غير القانونية لانعدام البدائل المشروعة، وهو ما تجلى بقسوة في صور متعددة بعد مرور ثلاثة عقود من عصر مبارك انتهت بالهبة الشعبية في يناير 2011.

https://youtu.be/MneORNR8HCA

وعلى عكس المتوقع تماما وبعد ثلاث سنوات من الانتظار يقدم الميهي فيلما يحمل شجنا خالصا من خلال قصة إنسانية ترتبط بالمكان «جزيرة وراق العرب» حيث يلعب الميهي على كثير من المتناقضات.. الحياة والموت، العزلة والزحام، الحب والكراهية… ومن خلال هذه الثنائيات تتسرب لغة سينمائية بالغة الحساسية من خلال مشاهد شديدة الخصوصية تكشف بجلاء عن عذابات البشر وآمالهم وأحلاهم المجهضة بانفراط آخر عقد للأمل ومباغتة الموت رغم توقعه.. وهو فيلم «للحب قصة أخيرة» الذى يعد من أجمل ما قدمت السينما المصرية، وكان بمثابة نهاية مرحلة للميهي.. بدأت بعدها مرحلة التجريب التي استهلها بالثلاثية غير المتصلة «السادة الرجال» 1987، و «سمك لبن تمر هندي» 1988، و«سيداتي آنساتي» 1989 وقد حققت هذه الأعمال نجاحا جماهيريا، واستمرت في دور العرض لشهور، واستطاع الميهي من خلالها كسر السائد وطرح رؤى أكثر انفتاحا على الواقع، وإن بدت في شكل عبثي.. ثم قدم الميهي في النصف الثاني من عقد التسعينيات عدة أفلام لم تصادف النجاح كسابقاتها، وإن تباينت درجة جودة صناعتها وهي «قليل من الحب كثير من العنف» 1995، «تفاحة» 1996 «مِيْت فُل» 1996، «ست الستات» 1998، ومع مطلع الألفية يقدم فيلم «عشان ربنا يحبك» بطولة عدد من الوجوه الجديدة وقتها، ثم آخر أفلامه في 2005 بعنوان «شُرُم بُرُم» ولم يعرض الفيلم سينمائيا واقتصر عرضه على الفضائيات.. وبعد ثلاث سنوات يخرج الميهي مسلسل «وكالة عطية» عن قصة خيري شلبي ورغم الجهد الهائل الذي بذله على مدار عام كامل هي مدة تصوير المسلسل؛ لم يحقق العمل النجاح المتوقع.

https://youtu.be/ABuRj4y31aY

يذكر أن الميهي أنتج للمخرج مجدي محمد علي فيلمه الأول «يا دنيا يا غرامي» عام 1996، وقد حقق الفيلم نجاحا كبيرا، كما كتب سيناريو «هور جادا سحر العشق» ولم يستطع الميهي تنفيذ الفيلم لعزوف الموزعين عنه بسبب حساسية القصة التي تدور أحداثها حول علاقة عاطفية تجمع بين ضابط وفتاة مختلفي الديانة.. أصدر الميهي القصة في شكل رواية، لتضاف إلى روايته السابقة «الجميلة حتما توافق».

بعد الخسائر التي تكبدها بسب عدم نجاح أفلامه الأخيرة يفتتح الميهي أكاديمية فنون وتكنولوجيا السينما باستوديو جلال وقد تخرج في هذه الأكاديمية العديد من نجوم السينما والدراما.. وقد أغلقت الأكاديمية بعد رحيل الميهي في 24 يوليو 2015، وأعيد افتتاحها في 25 أكتوبر 2017 بعد جهود كبيرة من تلاميذ الأستاذ وابنه وزوجته السيناريست علا عز الدين.

السيناريست علا عز الدين

 وتبقى مسيرة رأفت الميهي الفنية حافلة بالكثير من المواقف الملهمة لفنان متعدد المواهب، قدم إسهاما متفردا في مجالات عدة، واستطاع أن يترك أثرا خالدا في تاريخ الفن لا يمحى ولا يتشابه مع غيره.. رحم الله رأفت الميهي وطيب ثراه.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock