رونالد أرونسون – أستاذ تاريخ الأفكار في جامعة وين ستيت بالولايات المتحدة الأمريكية
عرض وترجمة: أحمد بركات
بعد مرور ما يقرب من أربعين عاما على موته في عام 1980، لا تزال صورة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر شاخصة أمام ناظرينا باعتباره مؤسس الوجودية، ومُنظر الحرية وصاحب الأطروحات الفلسفية المثيرة للجدل مثل تلك التي تضمنها كتابه Being and Nothingness (الكينونة والعدم) (1943)، والأعمال الأدبية المؤثرة مثل رواية Nausea (الغثيان) (1938). وتمثل هذه الصورة الذهنية العامة والراسخة، تقديرا مستحقا لأعمال سارتر الرائدة، خاصة تلك التي تمخضت عن نشاطه السياسي في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية حتى موته، وهي الفترة التي تميزت بالاشتباك الثري والدؤوب مع الماركسية.
الماركسية والوجودية
وحتى يومنا هذا لا يزال التقاء الماركسية بالوجودية، الذي وقع في منتصف القرن الماضي، حيويا وملهما. ففي الوقت الذي يتلمس فيه الفكر العالمي توجهات فلسفية جديدة، ويتصاعد مد دعوات لخلق بديل اشتراكي يحل محل الرأسمالية، تقدم جهود حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من أجل صياغة مشتركة وجامعة للماركسية والوجودية، الكثير من الدروس العميقة التي يجب أن نتعلمها وننهل من معينها، ليس فقط لأهمية كل من الفلسفتين في الفكر والتنظيم السياسي، لكن أيضا بسبب تفاعلهما في كتابات سارتر.
اقرأ أيضا:
كتاب لم يكتمل (1-2): حنا أرندت..المقاتلة الباردة التى اختلفت مع ماركس تثير الجدل مجددا via @aswatonline https://t.co/akQMWCLUO7
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 25, 2019
بدأ الشاب العبقري سارتر نشر كتاباته المبكرة في عام 1936، بينما كان عمره 31 عاما. وعلى مدى العقد التالي، أنتج سلسلة من الأعمال النفسية والفلسفية والأدبية الرائدة، وأقام علاقات عمل وثيقة مع عدد من المثقفين الباريسيين الشباب، مثل سيمون دي بوفوار وموريس ميرلوبونتي وآخرين. في البداية، لم يبد سارتر اهتماما كبيرا بالعمل السياسي أو الماركسية، وانصرف جل اهتمامه وشغفه إلى الأفلام والقصص الأمريكية، وأخذ توجهاته الفلسفية عن فلاسفة الفينومينولوجيا (علم الظاهريات) الألمان، مثل إدموند هوسرل ومارتن هيدجر. وتكشف كتاباته خلال تلك الفترة عن روح مفكر شاب عقد العزم على أن يصيغ فلسفته الخاصة ويخلق منهجيته المستقلة ليسبر من خلالهما أغوار العالم على طريقته.
تطور نقدى
تنبثق الوجودية الأولى عند سارتر عن فردانية جامحة بدت وكأنها لن تترك أي مساحة للتحليل الاجتماعي وأهمية التاريخ والعمل الجماعي. وظلت أفكاره على ما كانت عليه حتى منتصف الأربعينيات، عندما بدأ العثور على توجهاته وأفكاره الاجتماعية بفضل عاملين متناقضين، هما صديقه الجديد ألبرت كامو، والتقاؤه بالفكر واللغة الماركسيين. قدم سارتر مراجعة نقدية لروايتي كامو The Stranger (الغريب) وThe Myth of Sisyphus (أسطورة سيزيف) بعد نشرهما مباشرة في عام 1942، ثم التقى كامو في باريس في عام 1943 أثناء إحدى ’بروفات‘ مسرحية The Flies (الذباب) التي كتبها سارتر. بعد ذلك بقليل تولى كامو رئاسة تحرير صحيفة Combat، الصحيفة السرية لواحدة من أكبر حركات المقاومة الفرنسية. وبعد تحرر فرنسا في صيف عام 1944، قاد كامو معركة عبر سطور افتتاحياته في صحيفة Combat ضد ماركسية الحزب الشيوعي. ويمكن القول بأن جزءا كبيرا ومهما من التطور الفكري لدى سارتر في حقبة ما بعد الحرب قد تشكل بوعي ذاتي من خلال هذه المقالات النقدية، وبعد ما يزيد على عشر سنوات شكل سارتر ماركسيته الوجودية غير الشيوعية الخاصة.
كان اكتشاف سارتر للالتزام السياسي والاشتراكية الماركسية هو ما مكنه من الانتقال بعيدا عن الطريقين المسدودين اللذين خلّد فيهما أفكاره عن «الجحيم هو الآخرون» (في مسرحية No Exit (لا مفر))، و«الإنسان عاطفة لا قيمة لها» (في كتاب Being and Nothingness (الكينونة والعدم)). وعندما ولج سارتر العالم ليأخذ فيه مكانه ومكانته ككاتب مقالات سياسية وأديب مسرحي وفيلسوف اجتماعي وناشط سياسي كان ذلك عبر بوابات الحركات والروابط والأفكار الماركسية. وبعد التحرر، أسهم الحديث عن الثورة ووجود الاتحاد السوفيتي وأهمية وفاعلية الحزب الشيوعي الفرنسي في ترسيخ إيمان كثيرين بأن عالما أفضل بصدد التشكل. وغدا سارتر مهموما – على المستويين السياسي والفلسفي – بالماركسية، وظل على ذلك أغلب فترات حياته الإنتاجية.
يمكننا أن نجد لمحة من هذا الاهتمام السارتري المتزايد بالماركسية في مقالاته في صحيفته الفرنسية في وقت زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1945. في هذه المقالات – التي ظلت غير معروفة في الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 2001، ولم يعاد نشرها باللغة الفرنسية – استخدم سارتر لأول مرة الفئات الماركسية لتحليل المجتمع الأمريكي وطبقته العاملة. وأكد سارتر أن العمال الأمريكيين «لم يصبحوا بعد بروليتاريين» لأنهم «سجناء» في غياهب الفردانية ويتمتعون بـ «مساواة شكلية». وبعد شهور قلائل، جاء مقال Materialism and Revolution (المادية والثورة) ليقدم الوجودية كبديل للماركسية الستالينية. لم يظهر هذا المقال أي قراءة لماركس وإنجلز – وهو ما لم يتحقق حتى إعادة نشره في عام 1949 – لكنه أشار إلى كتاب ستالين Dialectical and Historical Materialism (المادية الجدلية والتاريخية) (1938). كان هدف سارتر هو استبدال حتمية الماركسية السوفيتية بالحافز الإنساني للتغيير – المشبع بالحرية – كأساس للثورة. تضمن هذا المقال أيضا إشارات جلية إلى اهتمام سارتر المتصاعد بالسياسة، وقد ظهر هذا المقال في نفس الوقت الذي ظهرت فيه دعواته لالتزام الكُتَاب بالسياسة من خلال مفهوم Littérature Engagée (الأدب الملتزم).
العمل السياسى
ظهر مزيد من الجهود الملموسة لمسرحة مشكلات الالتزام الثوري عبر السيناريو المسرحي الذي كتبه سارتر تحت عنوان In the Mesh (في الشبكة) (1946) ومسرحية Dirty Hands (الأيادي القذرة) (1948). كانت هذه هي السنوات الأولى التي شهدت التزام سارتر بالعمل السياسي. ففي نهاية عام 1947 أسهم سارتر في تأسيس الحزب اليساري «التجمع الديمقراطي الثوري» (RDR)، الذي لم تُكتب له الحياة طويلا، بهدف الدعوة إلى اتخاذ طريق ثالث بين الستالينيين الثوريين في الحزب الفرنسي الشيوعي والديمقراطيين الإصلاحيين الاجتماعيين في القسم الفرنسي من منظمة العمال الدولية. في هذا المناخ الملبد بالفكر اليساري والسياسة، تشكلت مجلة Les temps Modernes باعتبارها المنبر اليساري الأول والمستقل في فرنسا، حيث تولى سارتر إدارة التحرير بينما تولى ميرلو بونتي رئاسة تحرير القسم السياسي. إضافة إلى ميرلو، الذي اعتبره سارتر معلمه السياسي، استوعب سارتر جيدا اللغة الماركسية ومفرداتها ومنهجيتها في فهم التاريخ والمجتمع. في هذه الأثناء كان الشيوعيون قد مضوا بعيدا إلى حد وصف الوجودية بأنها «فلسفة عقيمة وعبثية لا تصلح إلا للمرضى». وفي خضم هذه المرحلة التي شهدت مزيدا من العمل السياسي، نشر سارتر مقالين رائدين عن الظلم والمقاومة، هما Anti-Semite and Jew (معاداة السامية واليهود) (1946)، وBlack Orpheus (أورفيوس الأسود) (1948).
وبرغم ما عاناه سارتر من آلام جراء التمييز بين الوجودية والماركسية الستالينية، إلا أن كتابه Being and Nothingness (الكينونة والعدم) تضمن مساحات محتملة للالتقاء بين الفكرين الماركسي والوجودي. وإجمالا، فإن أي قراءة لماركس كانت – عاجلا أم آجلا – ستقود سارتر إلى هذه العبارة الشهيرة من كتاب كارل ماركس The Eighteenth Brumaire of Louis Napoleon (الثامن عشر من برومير «لويس نابليون») (1852): «الأفراد يصنعون تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه على هواهم. إنهم لا يصنعونه في ظل أوضاع اختاروها بأنفسهم، وإنما في ظل أوضاع قائمة بالفعل، تشكلت وانتقلت من الماضي». وفي كتابه Theses and Feuerbach (أطروحات حول فيورباخ) (1845) قدم ماركس هذه الفكرة في صياغة فلسفية أكثر عمقا: «الفلسفة المادية التي تذهب إلى أن الإنسان نتاج الظروف والتنشئة، وأنه – بناء على ذلك – يتغير بتغير الظروف والتنشئة، تنسى أن الإنسان هو من يغير الظروف وأن المربي لا بد أنه يتعرض هو نفسه لعملية تربية». توضح هذه الآراء أن ماركس قد فهم العمل الإنساني على أنه محض اختيار حتى لو أحاطت به ظروف خارجة عن الإرادة الإنسانية. ومن ثم، فإن مكونات الماركسية التقليدية التي اصطدمت بسارتر كانت متجذرة بالأساس في نسختها الستالينية المشوهة.
(يُتبع)