ظاهرة سخيفة تفشت فى المجتمعات العربية، من مصر إلى لبنان والجزائر وتونس وغيرها من البلدان العربية، حيث تشهد صفحات التواصل الإجتماعي «الفيسبوك» ما يمكن تسميته بـ«العنف الرمزي» الذى ظهرت تجلياته لدينا فى مصر مؤخرا فى عدد من الحملات التي تضمنت الكثير من مظاهر العنف، مثل تلك الحملة التي أطلقها بعض الشباب تحت عنوان «خليها تعنس» والتي بادرت بعض الشابات بالرد عليها بحملة مماثلة جاءت تحت عنوان «خليه قاعد جنب أمه»، لتطرح تلك الحملات العديد من التساؤلات حول ماهية «العنف الرمزي»، وأسباب انتشاره بشكل لافت فى المجتمع المصري والعربي بشكل عام.
حالة عنف
هل للعنف الرمزي أسباب تجعله ينتشر في مجتمعات بعينها بشكل يستوجب النظر والدراسة؟
الباحثة الجزائرية عائشة لصلج أولت اهتماما بدراسة ظاهرة «العنف الرمزي» على شبكات التواصل الاجتماعي «الفيسبوك» لدى فئة الشباب الجزائري في دراستها المعنونة «العنف الرمزي عبر الشبكات الإجتماعية الإفتراضية، قراءة في بعض صور العنف عبر الفيسبوك»
الباحثة الجزائرية عائشة لصلج
تشير عائشة لصلج، في دراستها إلى تاريخ المجتمع الجزائري بوصفه تاريخا مليئا بالصراعات والحروب ومختلف أشكال العنف، غير أن الآونة الأخيرة قد شهدت مزيدا من إستشراء «حالة العنف» حتى بات العنف وكأنه مكون من مكونات البناء الإجتماعي للمجتمع الجزائري، لدرجة جعلت البعض يصف المواطن الجزائري بكونه «كائن عنيف بطبعه» وذلك وفقا لوصف الباحثة. هنا تتساءل عائشة عن طبيعة تلك الأسباب والعوامل التي جعلت من العنف ظاهرة مستشرية في المجتمع الجزائري؟
تجيب الباحثة عن تساؤلها ذلك مشيرة إلى أن للعنف عوامل ومسببات متشابكة مع بعضها البعض، منها ما هو اجتماعي وما هو نفسي، وتتقاطع تلك المسببات والعوامل الإجتماعية والنفسية مع العوامل والمسببات الإقتصادية والسياسية، مع بروز دور المسببات المتعلقة بعملية التنشئة الإجتماعية سواء في البيت أو المدرسة، هذا إلى جانب ما تلعبه وسائل الإعلام من دور فاعل في تغذية ظاهرة العنف بكل أشكالها وتجلياتها، سواء كانت في صورة عنف مادي جسدي ملموس، أو كان عنفا رمزيا معنويا، وسواء كان عنفا فرديا أو جماعيا.
العنف الخفي
تستعرض عائشة لصلج رؤية عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيار بورديو لمفهوم «العنف الرمزي» مشيرة إلى ان العنف الرمزي عند بورديو يتضمن حالة من «فرض المعاني يمارسها الفاعلون الاجتماعيون من كاهن وقديس وداعية ومدرس ونفساني وغيرهم».
تضيف عائشة أن العنف الرمزي عند بورديو يعني فرض المسيطرين طريقتهم في التفكير والتعبير والتصور الذي يكون أكثر ملاءمة لمصالحهم، ويتجلى ذلك العنف في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية تعتمد على الرموز كأدوات في السيطرة والهيمنة مثل اللغة والصورة والإشارات والدلالات والمعاني، هو إذن عنف «نائم خفي هادىء لا مرئي ولا محسوس حتى بالنسبة لضحاياه».
عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو
العنف الرمزي آلية إخضاع وهيمنة
تستفيض عائشة في تفسير معنى ومضمون العنف الرمزي عند بورديو مشيرة إلى أنه يتخفى ضمن الدلالات والرموز والمعاني والممارسات الثقافية والاجتماعية السائدة التي يقصد بها فاعلوها المطالبة بشرعية الحقوق وشرعية ممارسة هذا العنف، مثلما هو ممارس عليهم بشكل علني لكنهم يستخدمون هذا العنف الرمزي ردا للإعتبار. بمعنى أن العنف الرمزي إنما يعد آلية إخضاع الغير من خلال سلطة إجتماعية شرعية أو غير شرعية، العنف الرمزي إذن ينطوى على قوة تهدف إلى فرض السلطة والنفوذ بطريقة تعسفية استبدادية.
تعود عائشة لتشير إلى تفسير بورديو للعنف الرمزي لدى أهل المدينة بوصفه «ممارسة سكان المدينة للعنف تجاه المجتمع أو تجاه أنفسهم ما هو إلا الوجه المزدوج للعنف المستخدم من طرف الدولة ضد المجتمع ككل.. فالعنف الرمزي هو محاولة لفرض نوع ما من الشرعية للهيمنة والسيطرة، سواء كان من يقوم بتلك الهيمنة الدولة أو المجتمع».
اقرأ أيضا:
«إذا تساوت المرأة مع الرجل عم الرخاء».. كتاب ينتصر لحقوق الجنس الناعم via @aswatonline https://t.co/wsDEGCMp1z
— أصوات Aswat (@aswatonline) August 1, 2019
العنصرية والتنميط على صفحات الفيسبوك
تشير عائشة لصلج في دراستها إلى ان الشباب الجزائري يمثل نسبه غالبة من جملة مستخدمي الفيسبوك في الجزائر، كما تؤكد على إنتشار الكثير من «النكات العنصرية والتقزيمية» لشخصية الجزائري أو العربي بصفة عامة، وأن هذه النكات وإن كانت متداولة بين عامة الشعب على أرض الواقع إلا أن أثرها ووقعها يتضاعف على شبكة الفيسبوك بسبب سرعة الإنتشار وكثرة التداول.
حصدت المرأة الجزائرية الكثير من العنف الرمزي من قبل صفحات الفيسبوك في الجزائر، في هذا السياق تضرب عائشة مثلا بصفحة «ألف جنية والا واحدة من …» بمعنى أن الشاب يفضل الإرتباط «بجنية» على أن يرتبط بفتاة من «مدينة…»، وهى صفحة تتضمن الكثير من التنميط السلبي للمرأة الذي يعد أشد صور العنف الرمزي تجاه المرأة الجزائرية، حيث يقدم المرأة «بوصفها رمزا للغواية والخبث والسحر والفتنة وضعف العقل وهى مصدر كل شر» على حد وصف رواد تلك الصفحة.
غير أن أخطر مظاهر العنف الرمزي من وجهة نظر عائشة قد تجلى على صفحات الفيسبوك لدى الشباب الجزائري في صورة انتشار تلك الكلمات والعبارات التي تصفها بكونها «كلمات بذيئة ونابية»، حتى أصبحت تلك الكلمات والعبارات وكأنها وسيلة تعبير عن الإختلاف والتمايز لدى هؤلاء الشباب، إلى جانب إنتشار ظاهرة الرسائل المعنونة «ادخل وشاهد فضيحة كذا».
تلفت عائشة النظر إلى مظاهر العنف الرمزي الديني المتمثلة في إنتشار العديد من الرسائل ذات المضمون الديني التي تنتهي بعبارة «إن لم تنشرها فان الشيطان قد منعك».
على الجانب الآخر تستشهد عائشة بصفحة أصدرتها «شبكة راديو طرواطوار» وهى صفحة تعرف نفسها بكونها «شبكة إذاعة الرصيف الدولية، فضاء حر للإعلام التائه، ومصدر موثوق لمختلف الإشاعات والأخبار الكاذبة غير معروفة المصدر ولا موثوقة الصحة» حاول أصحاب تلك الصفحة التخلص من آثار العنف الرمزي بأسلوب إعلامي تواصلي ساخر، قائم على تفنيد مجمل الإشاعات والأكاذيب الرائجة على صفحات الفيسبوك.
تختتم عائشة دراستها بالتأكيد على أن العنف الرمزي لدى الشباب إنما هو تعبير لما يعانونه من أزمات تتعلق بإنتشار ظاهرة البطالة والتهميش السياسي والاجتماعي، مع محدودية حرية الرأي والتعبير، الذي جعل من صفحات الفيسبوك المتنفس الوحيد لدى هؤلاء الشباب، لذا توصي الباحثة بضرورة طرح مختلف القضايا التي يعاني منها الشباب على أجندة عمل الباحثين بمختلف العلوم الاجتماعية.
نعود لصفحات الفيسبوك بمصر لنؤكد على أن الأمر قد لا يختلف كثيرا عما توصلت إليه الباحثة الجزائرية عائشة لصلج في دراستها الخاصة بالعنف الرمزي فى الجزائر، ذلك أنه لا يكاد يمر أسبوع واحد دون ملاحظة تكالب عدد من صفحات الفيسبوك على نقد شخص ما ومهاجمته بعنف شديد لممارسته سلوكا ما يرى منتقدوه أنه يستحق عليه كل هذا النقد أو ما نسميه «العنف الرمزي» لأنه في حقيقة الأمر ليس نقدا وإنما هو «تكالب» أو «تنمر» مجموعة ضد «شخص»، وهى ظاهرة تستحق -كما أوصت الباحثة- اهتمام الدارسين من مختلف التخصصات.