منوعات

رغم التهويل الغربي.. التعايش أقوى من الطائفية في العالم العربي

*أسامة مقدسي – أستاذ التاريخ بجامعة رايس الأمريكية

*عرض وترجمة: أحمد بركات

من المفارقات أن تاريخ الطائفية وتاريخ التعايش يمتدان عبر الخط الزمني نفسه، وينبعان من المنبع ذاته، وأن كل جهد أو تعبئة طائفية لا تُبرز، في نهاية المطاف، سوى تلك الحالة من التعددية التي كانت تهدف إلى مواجهتها واستئصالها.

وفي حالة العالم العربي – وربما الشرق الأوسط بوجه عام – في العصر الحديث، قامت وسائل الإعلام والدوائر السياسية والأوساط الأكاديمية بتسليط الضوء بقوة على السردية الطائفية، وتجاهلت، في الوقت نفسه، العديد من السرديات المضادة للطائفية التي صاغت تاريخ العالم العربي في العصر الحديث.

قد يكون أحد أسباب ذلك التوجه البحثي الجارف نحو دراسة الطائفية وتحليلها مفهوما تماما، وهو ما يتعرض له العالم العربي من اضطرابات سياسية وعسكرية قامت في الغالب على (أو تم تمثيلها على أنها تمتلك) نعرات طائفية أو دينية. رغم ذلك، فقد انتهى المطاف بالباحثين الذين حاولوا تفسير هذه الظاهرة وفهم الأحداث الجارية في ضوئها إلى طريق مسدود.

وكما تبين أفضل الأعمال النقدية في التاريخ والأنثربولوجيا حول تسييس الدين في الشرق الأوسط، فإن شبكات الطائفية وما تبذله من جهود تعبوية ليست هي ما يجب الكشف عنه، وإنما اللغة الطائفية واسعة الانتشار، والعلاقات الطائفية التي ترتكز عليها. فالتحزب الطائفي ليس أمرا طبيعيا بحال، لكنه نتاج جهود أيديولوجية وعلمانية ممنهجة.  

رغم ذلك، فإن جزءا غير قليل من التركيز على الطائفية في العالم العربي مُسيس بوضوح. فعلى سبيل المثال، قام رؤساء الولايات المتحدة – حتى لو كانت المسافة السياسية بينهم مثل تلك التي تفصل بين باراك أوباما ودونالد ترامب – باستخدام نفس المصطلحات الإمبريالية المهينة حول منطقة الشرق الأوسط؛ حيث أصر كلاهما على أن الشرق الأوسط مسكون بمشاحنات طائفية متوطنة وحروب قبلية متجذرة. كما عمد كلاهما إلى تضخيم فكرة الطائفية الشرقية البدائية المتأصلة من أجل التهوين من الدور الأمريكي في خلق الظروف التي شجعت على التأزم الطائفي في المنطقة.

باراك اوباما، دونالد ترامب

وفي مواجهة هذه الأفكار الخبيثة، استدعى باحثون، وربما أشخاص عاديون أيضا، من جميع أنحاء العالم العربي نظرة تاريخية مغرقة في الرومانسية عن التعايش، تغاضت عمدا في الغالب، عن اللامساواة والعنف في التاريخ العربي الحديث. وتقوم هذه النظرة على فرضية مركزية مفادها أن التطور التاريخي في الحالة العربية يمثل شكلا ثابتا مثاليا للمساواة الليبرالية، وليس حالة صيرورة متغيرة.

لكن الأكثر تعقيدا من ذلك هو أن اصطلاح ’التعايش‘ غالبا ما كان يدفع باتجاه فكرة المجتمعات الأحادية – سواء على المستوى الإثني أو الديني – بدلا من فهم هذه المجتمعات باعتبارها ساحات ديناميكية للاختلاف. ويخوض هؤلاء الذين يتبنون أفكارا محافظة عن ’مَن‘ أو ’ما‘ يمثل أي مجتمع، خلافا جوهريا ضد هؤلاء الذين يصرون على مفاهيم أكثر تقدمية لتعريف الإسلام أو المسيحية.

فالتعميم بشأن «المسيحيين» في الشرق الأوسط – على سبيل المثال – لا ينكر فقط الفوارق الواضحة بين المسيحي الميليشي الكتائبي من جانب، وعالم لاهوت التحرير المسيحي من جانب آخر، وإنما يسطح أيضا الأشكال المختلفة لانتماءات المسيحيين في الشرق الأوسط وإليه.

وفي حالة الشرق الأوسط على وجه التحديد، فإن الحاجة إلى إضفاء النزعة الواقعية على المجتمعات وأسسها الأيديولوجية، يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع استدعاء تاريخ ديناميكي للتعايش يتجاوز الطائفية. فالأيديولوجية الطائفية مفرقة بطبيعتها، فهي تتطلب الربط الدائم بين المجتمعات الدينية القديمة والمجتمعات السياسية الحديثة، وكأن الموارنة، أو اليهود، أو الشيعة في العصر الحديث يتشاركون بالضرورة رابطة أقوى مع إخوانهم في الدين من القرون الوسطى، من تلك التي يتشاركونها مع معاصريهم من ذوي الانتماءات الدينية والطائفية المختلفة. فالأيديولوجية الطائفية – في التحليل النهائي – غير معنية بطرح تساؤلات حول كيفية تشكل وتحول المجتمعات الدينية أو الإثنية على مدى التاريخ، والأدوات التي استخدمتها هذه المجتمعات لقمع المعارضة الداخلية، وهوية من يضطلعون فيها بتمثيل غيرهم والنيابة عنهم ومن يُمثَلون أو يُناب عنهم.

إن طرح هكذا أسئلة لا يعني بحال إنكار البروز التاريخي للانتماءات الطائفية، لكنه يتحدى أحاديتها المفترضة، ويشكل خطوة أولى وحاسمة في رؤية سكان المنطقة العربية كرجال ونساء متنوعين سياسيا واجتماعيا ودينيا، وليس فقط كسنة وشيعة ويهود ومارونيين وعلويين، أو – في واقع الأمر – كعرب وأكراد أحاديين. فالعراقيون ذوو الانتماءات الدينية المتباينة، على سبيل المثال، شكّلوا في أغلب الأحوال حالة مشتركة تتحدى التمسك المزعوم بالهوية الطائفية المعيارية، سواء كشيوعيين أو كقوميين عراقيين عرب في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، أو في وقتنا الحالي كمواطنين غاضبين يحاربون الفساد والطائفية في بلدهم.

إن حجب التركيز المعاصر عن إشكالية الطائفية يمثل أحد أكثر القصص الاستثنائية في العالم العربي الحديث، وهي كيف باتت فكرة المساواة السياسية بين المسلمين وغير المسلمين – التي كان مجرد تخيلها في الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن التاسع عشر ضربا من المستحيل – أمرا عاديا ومألوفا في معظم أنحاء المشرق العربي في حقبة ما بعد الدولة العثمانية في منتصف القرن العشرين.  

لقد اعتمدت حقبة التعايش الجديدة في بداية الأمر على إصلاحات كبرى غشيت الإمبراطورية العثمانية التي عكفت على إصدار مراسيم لترسيخ مبادئ عدم التمييز وقيم المساواة في الفترة بين عامي 1839 و1876، كما اعتمدت أيضا على جهود مكافحة الطائفية التي اضطلع بها بعض العرب الذين راحوا يفكرون في أنفسهم باعتبارهم منتمين إلى أمة حديثة مشتركة تقوم على التعددية الدينية، في مقابل المنهجيات العلمانية والأفكار المتزمتة.

وكان الانتقال من عالم محدد بالتمييز الديني العلني والخضوع غير المتكافئ، إلى إمكانية بناء مجتمع سياسي مشترك يضم مواطنين ذوي انتماءات دينية مختلفة ،محفوفا بالقيود الجندرية والطائفية والطبقية. وتمثل أعمال الشغب المشينة المعادية للمسيحيين، التي اندلعت في دمشق في يوليو 1860، عندما تم ذبح المسيحيين ونهب منازلهم وكنائسهم، دليلا دامغا على انهيار الثوابت في العالم العثماني الإمبراطوري الطبقي القديم. أما في العالم العثماني القومي الجديد، الذي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد اعتبر المواطنون الحضريون أن حقهم في تمثيل مجتمعاتهم وقومياتهم و«تمدين» مواطنيهم «الجهال» أمرا مسلما به.

وبرغم أنه لا يمكن إنكار حالة الفوضى التي تحيط بقضية العروبة المسكونية (الجامعة) الحديثة التي شملت كلا من المسلمين والمسيحيين واليهود، إلا أن تمييز سردية الطائفية الثابتة على تلك الخاصة بالتعايش المتغير، يجافي حقيقة أن كثيرا من العرب المسلمين قاموا بحماية أقرانهم الدمشقيين المسيحيين إبان أحداث عام 1860. وبعد عام 1860، قام المسلمون والمسيحيون واليهود العرب ببناء مدارس «وطنية» مسكونية تعددية في جميع أنحاء المشرق العربي تبنت الاختلاف الديني ،ولم تنكره. ومن ثم، فقد قدم التراث الإسلامي الثري من الأندلس إلى بغداد، واللغة العربية المشتركة، كنزا من التعبيرات المجازية التي يمكن أن تُنسج حولها تصورات عميقة معادية  للطائفية من أجل مستقبل أكثر تعايشا.

وبدلا عن تقسيم العرب إلى ثنائية «الديني» و«العلماني»، وكأنها فقط الثنائية المهمة، فإنه بالإمكان تحقيق الكثير بالتركيز على الطرق التي ناضل من خلالها العرب من أجل بناء مجتمعات متعددة جديدة تبنت حقيقة الاختلاف الديني وإمكانية تجاوزه سياسيا. إن القوميات العرقية والدينية في البلقان، والمصير المفزع الذي لاقاه الأرمن على يد أعضاء حزب «تركيا الفتاة»، ووصول الصهاينة المتطرفين لفلسطين -التي شكلت يوما فسيفسائية دينية يزهو بها التاريخ البشري – والوهابية المنغلقة في شبه الجزيرة العربية، كلها أمثلة تقدم جميعا النموذج النقيض الذي يبرز مسكونية المشرق العربي في نهاية الحقبة العثمانية، وما بعدها.

ورغم ذلك، لم يملك سكان العالم العربي في العصر الحديث مصيرهم السياسي على الإطلاق. فقد خضعت الإمبراطورية العثمانية للاحتلال البريطاني والفرنسي، وتم تقسيمها على أسس طائفية بعد الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك، أدت حتمية مكافحة الإمبريالية إلى تشكيل مجتمعات سياسية متجاوزة للاختلاف الديني في دول ما بعد الحقبة العثمانية، مثل سوريا والعراق ومصر ولبنان وفلسطين. كما بدأت في المقابل سياسات الأقلية الشوفينية والسياسات القومية والدينية في التبلور. وبينما تم توثيق هذه السياسات بشكل جيد، إلا أن الإرادة الإيجابية للتعايش ما زالت بحاجة شديدة إلى مزيد من الدراسة والبحث، بل وتزداد هذه الحاجة اليوم أكثر منها في أي وقت مضى.

إن ديمومة ثقافة التعايش بكل تعقيداتها، توفر علاجا ناجعا لمواجهة فكرة الشرق الأوسط الطائفي المضللة والخبيثة.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا 

      

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock