رؤى

الوهابية المرتبكة.. تراجعٌ يتواصل: السلفية المعاصرة من المركز إلي الهامش

في كتابهما الصادر عام 2015، والذي أحدث جدلا كبيرا داخل الأوساط السلفية المعاصرة بعنوان «ما بعد السلفية.. قراءة نقدية في الخطاب السلفي المعاصر»، يقدم مؤلفاه المصريان أحمد سالم وعمرو بسيوني حفرا معرفيا داخل مسيرة السلفية منذ جيلها الذي بني معمارها العقدي والمنهجي والسلوكي وهو جيل الإمام أحمد بن حنبل (164-241ه -780-855م).

 

يعيشون فى الماضى

يري الكاتبان أن السلفية كمنهج شائع في أوساط المسلمين تختلف عن تلك التي أسستها أجيالها المختلفة منذ أحمد بن حنبل.. فوفقا للكاتبين يتضح أن الاشتغال العقدي شهد تحولا منذ طبقة بن حنبل وإلي طبقة بن تيمية (661-728ه -1263-1328م )، وهو ما كان له أعظم الأثر علي طبيعة الاشتغال العقدي عند «السلفية المعاصرة»

‎ويشير الكتاب إلي أن ذلك كان له أثر سلبي علي السلفية المعاصرة من حيث نزوعها للجدل السجالي والمعارك التي لا يٌراعي فيها مناسبة الزمان والمكان وطبيعة التحديات والخصوم، مع تقصير في مسألة نشر الدين العام والعقيدة بما هي عمل وحياة وآثار سلوكية لا بما هي جدل وكلام .

‎ويشير المؤلفان إلى أن «السلفية المعاصرة ظلت تعيش خصومات أحمد بن حنبل وابن تيمية وتنشرها علي مستويات من الناس لا ينبغي أن تٌنشر فيهم، وتشتغل بها بأوزان نسبية لم يكن من الصواب أن تُعطي لها»

Image result for ‫السلفية المعاصرة‬‎

‎السلفية هنا أوسع وأقدم من الوهابية- التي هي فرع يري نفسه مشتغلا في مركزها، وإن كنا نري أنه اشتغل في سياقات تتعارض تماما مع مناهج السلفية التي تُثبت الإسلام للناس عامة ولا تنزع للتكفير وتعذر بالجهل باعتباره عارضا من العوارض التي تمنع تكفير مسلم إلا بعد إقامة الحجة القاطعة البينة عليه.

‎بطابعها النصي وانغلاقها علي مقولات الإمام أحمد، اعتبرت السلفية أنها التعبير الأسمى عن صحيح الدين وأن ما يخالفها يحكم عليه بالابتداع وحتي الكفر. وفق هذا المنظور واجهت السلفية  أزمة ظهور أبي الحسن الأشعري (260-324ه-874-936م ) واكتمال مذهبه في القرن الخامس الهجري وهو مذهب يزاوج بين احترام النص وإعمال العقل في فهمه.

‎وقد واجه الأشعري اتهامات كبيرة من السلفية التي كان يمثلها الحنابلة في ذلك الوقت، وحين ألف كتابه «الإبانة في أصول الديانة» لم يقبله الحنابلة ورفضوه وهجروا الرجل، بل إن التمسك بالعتيق كما كان يُطلق الحنابلة جعلهم يتهمون غيرهم بالزندقة، وفي هذه الفترة من القرن الرابع الهجري ستجد النقل عن المبتدعة وذمهم وترك التعامل معهم حتي بلغ الأمر بتكفير الأشاعرة.

Related image

أبي الحسن الأشعري

‎ستصبح هذه النقول تقريبا هي سند السلفية المعاصرة في مواجهة مجتمعاتهاـ باعتبار أن هذه المجتمعات متلبسة  بممارسات دينية وعبادية مختلفة عن النسق المغلق الذي ارتضته السلفية لنفسها ولكافة المسلمين معيارا يجب التزامه وإلا فالتفسيق والتبديع وربما حتي التكفير كما هو الحال مع فئات كثيرة كالصوفية والأشعرية، كما أن تمثّل حالة الافتراق في الأمة وتقسيمها علي أساس المعيار العقدي للسلفية العتيقة في القرنين الثالث والرابع الهجري والتي وصلت عندهم إلي ألف وثمانمئة فرقة كلها خارجة عن الإسلام الصحيح بالمعيار السلفي وهو ماجعل الأمة موضوعا للتمزيق والتقسيم والتشريح والتجريح والاستعلاء عليها من قبل من كان أن يفترض أن يكونوا هداة لها آخذين بيدها إلي معارج الوصول والقبول استنادا إلي مفهوم الرحمة والقول الحسن البليغ.

‎-مع صعود المنهج الأشعري الذي يوازن بين العقل والنقل وبين إثبات الصفات والتأويل وإدخال الجدل الكلامي والتفلسف كأداة في مواجهة تحديات الفرق الأخري كالمعتزلة والشيعة وغيرهما بأساليبهما، وانتشار المذهب في كافة أصقاع العالم الإسلامي متجاوزا المذاهب الفقهية التقليدية فكان هناك أشاعرة مالكية وشافعية وحنفية، فإن السلفية تراجعت منذ القرن الخامس الهجري خاصة مع احتمائها بالسلطة الحاكمة لمواجهة خصومها الأشعريين، ولم يُقدر لها الصعود إلا مع مجئ ابن تيمية في القرن السابع والثامن الهجري والذي عاصر الدولة المملوكية والهجمة المغولية علي العالم الإسلامي وكذلك الهجمة الصليبية.

Image result for ‫أبي الحسن الأشعري‬‎

بن تيمية وبن عبد الوهاب

ابن تيمية هو باني المعمار السلفي بتمامه، فهو أول من تحدث عن توحيد الألوهية والقضايا المتعلقة بنقضه مثل النذر والذبح والدعاء وذلك لوجود الدولة الفاطمية في مصر (358-567ه -969-1171م )، قبل مجئ ابن تيمية والأيوبيين ومن ثم فإن دينها الإسماعيلي كان يقوم علي اعتبار قضايا الطواف حول مقابر الصالحين وبناء القباب عليهم والدعاء عندها والذبح والنذر لهم جوهرية، وسوف يلتقط الوهابيون بعد ذلك هذا المعني المركزي من الرجل ليعتبروه فيما بعد جوهر دعوتهم.

‎-كان بن تيمية هو الرافد الأساسي لأفكار محمد بن عبد الوهاب (1115-1206ه-1703-1791م )، وكان الاثنين معا هما الرافد الأساسي للسلفية المعاصرة رغم أن «سلفية الاسكندرية في مصر» مثلا تحاول أن تبتعد عن وصفها بالوهابية لما في الأفكار الوهابية من تشدد جعلهم يكفّرون الناس بسبب ما يعتبرونه نواقض للتوحيد دون أن يعذروهم بالجهل، فمن جهل التوحيد فقد كفر بلا إعذار.

Image result for ‫ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب‬‎

‎ورغم إشارة بعض السلفيين إلي أن مقاومة المبتدعين والمخالفين ودحض أفكارهم وبيان غلطهم هونوع من الجهاد وهو ما جعل البعض يشير إلي أن الجهاد باعتباره عملا حركيا قد يكون فيه تجاوز خاصة ولو كان من يجاهد له سلطة ويستند إلي قوة وسطوة. لكننا الآن مع وجود الوهابية كفرع عن السلفية تترفد من المذهب الحنبلي وتعتبر نفسها امتدادا له – وإن كان البعض ينازعها في ذلك – وتترفد من أفكار بن تيميه فإنها الحركة الأولي التي تنتسب للسلفية التي تستند إلي السيف والقتال لإجبار الناس علي الدخول في دعوتهم ليس باعتبارهم مسلمين ولكن باعتبارهم كفارا ومشركين – كما أوضحنا تفصيلا من قبل -.

‎-ورغم أن مؤلفيْ للكتاب الذي اتخذناه منطلقا لتحليلنا وفهمنا لتحولات الظاهرة السلفية، وهما سلفيان «أحمد سالم وعمرو بسيوني» قد اعتبرا الوهابية تحققا سلفيا باعتبارها تترفد من الحنبلية والتيمية (نسبة إلي بن تيميه) فإنني أخالفهما في ذلك وأعتبرها شذوذا كاملا ذلك أنه لم يسبق لأحد ممن مثلوا السلفية أن خرج علي المسلمين بالسيف مقاتلا لهم معتبرا جموعهم في القري والحواضر والمدن مشركين وكفارا كالكفار الأصليين يٌذفف علي جريحهم ويُقتل مدبرهم وتسبي ذراريهم وتُنتهب أموالهم – وفي بعض الحالات تم سبي النساء.

عمرو بسيوني                                        أحمد سالم

‎-ولا ريب أن الوهابية خلعت البيعة المعقودة للدولة الإسلامية التي كانت قائمة في ذلك الوقت وهي الدولة العثمانية  وتحالفت مع محمد بن سعود لتحقيق سلطة سياسية لما تصورت أنه الدين الذي يجب أن يُجبر الناس علي تمثله وإقامته، رغم أن بن حنبل لم يخرج علي سلطة المأمون ولم يفعل كما فعلت بعض التمثلات السلفية من بعده في الاستناد إلي السلطة السياسية لردع والانتصار علي مخالفيها من الأشاعرة علي وجه الخصوص، كما لم يفعل ابن تيمية مع دولة المماليك التي التزم بطاعتها وعدم الخروج عليها واعتبرها كما وصف «الطائفة المنصورة» التي يُقاتل خلفها ويقوم الناس بأمرها لحمايتها لدار الإسلام.

مأزق السلفية المعاصرة

-السلفية المعاصرة التي ظهرت في السبعينيات في العالم الإسلامي وتبلورت كحركة تأثرت بالدعم السعودي لها، واعتبرتها السعودية أحد أهم أدواتها في سياستها الخارجية ضد الدولة الناصرية، وليس مستبعدا الدور السعودي آنذاك في السماح للسلفية في مصر بالانتشار والصعود في سياق التقارب المصري – السعودي – الأمريكي في مواجهة الشيوعية وفي مواجهة الثورة الإيرانية التي قامت علي الشاطئ الآخر للخليج العربي،

‎وبلغت تلك السلفية بمشاربها المختلفة أقصي صعود لها في التسعينيات ،ثم بلغت منتهي صعودها مع تأسيسها للأحزاب السياسية بعد نجاح ثورات الربيع العربي المؤقت. بيد أن هذا المد الاستراتيجي يعود مرة أخري للانزواء والانكماش ويرجع ذلك للأسباب الآتية:

‎1-داء التفرق.. فحجم التشطي والتناحر والتفرق بين التيارات السلفية يجعلنا نتكلم عن سلفيات متصارعة وليس سلفية منسجمة متوافقة. فهناك السلفية الجامية والسلفية الجهادية والسلفية الحركية والسلفية السرورية، كما أن الطبيعة التكوينية للتيارات السلفية باعتبارها عقدية تقوم علي التشرذم والتشظي فلا تجد إلا قليلا من يمكنهم التوافق علي خطوط فكرية جامعة فضلا عن تأسيس لعمل مشترك.

‎2-عدم القدرة علي الإجابة علي الأسئلة المعاصرة والوقائع الجديدة بل التعامل معها عبر مقولات مقولبة وجاهزة لم تعد تشفي غليلا أو تريح عليلا، ويكفي أن السلفية مثلا تتحدث عن تحطيم التماثيل واعتبار التلفزيون رجسا من عمل الشيطان واعتبار صوت المرأة عورة وأنها يجب أن تبقي حبيسة المنزل وأنها يجب أن تكون سببا لإسعاد زوجها دون مراعاة لحالها والاهتمام بشأنها، وعلي مستوي التعامل السياسي فإن السلفية تري الانتخابات شركا والأحزاب السياسية عملا جاهليا وأن الديموقراطية دين.

‎3-وجود بدائل منافسة أكثر قدرة علي الانفكاك من الطبيعة المغلقة للصيغة السلفية ومن أهم تلك البدائل الأشعرية التي ظهر ممثلون بارزون لها في السنوات الأخيرة أمثال علي جمعة في مصر، وحسن السقاف في الأردن وسعيد عبد اللطيف فودة في سوريا، وأبو محمد صالح الأسمري في السعودية.

‎4-تدهور الصورة السلفية بعد النهايات المفزعة للتيارات القتالية والتي أدت إلي ظهور «داعش» تحت مسمي دولة الخلافة الإسلامية،

‎5-غياب الرموز الدينية التي منحت القبول والمصداقية والانتشار للسلفية المعاصرة أمثال  عبد العزيز بن باز  ومحمد بن صالح العثيمين ومحمد ناصر الدين الألباني، حيث ترك الثلاثة خلفهم فراغا لم يستطع أحد أن يملأه بعدهم، ولو اتخذنا مصر علي سبيل المثال يمكن أن نشير إلى سبعة أسماء مثلت رموزا لسلفيتها هم  ياسر برهامي ومحمد إسماعيل المقدم  ومحمد عبد المقصود وأبو إسحق الحويني و مصطفي العدوي ومحمد حسان  ومحمد حسين يعقوب. ويمكن القول بأن هؤلاء قد فقدوا جميعا تأثيرهم السابق ولم يعودوا صالحين لتقديم أنفسهم كرموز موثوق فيها للتيار السلفي في خضم التحولات الفكرية والسياسية التي جرت في مصر منذ عام 2011 حتى الآن.

‎6-فقدان السلفية المعاصرة لموارد الدعم المالي التي كانت تأتيها بشكل أساسي من الخليج، كما أن الموارد التي حصلت عليها السلفية من شبكات الداعمين لم تحسن إدارتها وتوظيفها عبر مشاريع وقفية مثلا متجاوزة للمشايخ والطبقات المحيطة بهم من المريدين وطلاب العلم والمرافقين والمنتفعين.

‎7-تحولات السلطة وتغير موقفها من التيارات السلفية، حيث لم تعد تنظر إليها باعتبارها أساسا لشرعيتها كما هو الحال في السعودية التي تري أن الوهابية أصبحت عبئا عليها وأن صيغتها التي قبلتها الدولة السعودية بانتشار السلفيين ضمن مؤسسات الدولة للسيطرة علي العناصر المتشددة في المجموعات التي كانت تمثل تحديا للدولة من «إخوان من أطاع الله» لم تعد صيغة قابلة للاستمرار وأنها فقدت جدواها ولم تعد صالحة لمنح شرعية أو بناء صورة جاذبة أو تقديم أجوبة للأجيال الجديدة التي اهتزت ثقتها بقوة فى الحالة السلفية وفى التيارات الإسلامية عامة بعد ما جري من أحداث وتطورات تاريخية بعد ثورات الربيع العربي.

الخلاصة:

‎أن السلفية ومعها الوهابية المرتبكة تنتقل من المركز إلي الهامش وذلك لعدم قدرتها علي منح ما كانت الدول والمجتمعات تحتاجه منها، خاصة مع عجزها عن كسر الصيغة العقدية المغلقة التي تضعها في مواجهة مجتمعها في حالة التيارات الدعوية والإصلاحية السلمية وتضعها في مواجهة دولها في حالة التيارات القتالية التي تري السيف هو لغة التفاهم التي لا لغة غيرها.

‎ويبدو أن السلطة والدولة بعد استثمارها في السلفية، كمصدر للشرعية كما هو حال السعودية أو كعامل توازن للمجتمع كما هو حال مصر، لم تعد مقتنعة باستمرار تلك الصيغة وبالتالي شرعت في البحث عن بدائل دينية أكثر انفتاحا وقدرة علي بناء توافقات واستجابات لتحديات هائلة لم تعد السلفية قادرة علي أن تواجهها أو تستجيب لشروطها ومتطلباتها.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker