حتى وقت قريب كان الظنُّ قد غلب على كثيرين من المعنيين بشؤون الفكر والإصلاح الاجتماعي العام أنه قد تم التغلب على مشكلة الاحتلال العسكري الذي جثم على أغلبية بلدان أمتنا الإسلامية، وأنه لم يبق إلا الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، وأن عبء التحرر من الاستعمار المباشر قد زال إلى غير رجعة، وأن ما تملكه الأمة من طاقات يمكن أن يستثمر من أجل التصدي للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية.
وحتى وقت قريب أيضاً ساد الظن، أو غلب، بأننا ماضون على طريق التخلص من المشكلات الأخرى التي أعاقت التقدم وعطلت نهضة الأمة منذ قرنين من الزمان تقريباً ، ومن ذلك القضايا المتعلقة بالاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والحريات العامة، وأوضاع المرأة، والانحطاط بعيداً عن الأخلاق والقيم السامية.
ولكن بدلاً من التقدم إلى الأمام إذا بأغلبية مجتمعاتنا العربية والإسلامية تجد نفسها تتقهقر إلى الخلف، وإذا بالقضية التي ظننا أنها حُلت تعود بشكل أكثر شراسة ألا وهي قضية الاستعمار في شكله العسكري القبيح، إلى جانب أشكاله الفكرية والثقافية والاقتصادية والتشريعية الأشد قبحاً ولكنها غير مباشرة؛ وهي لا تزال تراوح مكانها.
إن الأحداث الجارية في الآونة الأخيرة كلها تشير إلى عودة الشعور بالتبرم بشكل مضاعف مع عودة مشكلة الاحتلال العسكري التي غلب على الظن أنها قد حسمت، وأن حزمة المشكلات قد أُعيد إليها ما بدا أنه قد نقص منها في وقت سابق، بما تحمله هذه العودة غير الحميدة من ضرورة إعادة ترتيب أولويات التصدي لهذه المشكلات؛ وكأنه لم تمر مائتا سنة أو ما يقرب من ذلك عندما نهضت قوى الأمة الحية لمواجهة الغزو الغربي ورفعت في وجهه راية الجهاد. ومن ثم فإن من المنطقي أن يعاد طرح سؤال شكيب أرسلان الأكبر، وهو السؤال الذي تدخل جميع تلك المشكلات تحت عباءته ألا وهو لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
لقد طُرح هذا التساؤل، وبهذه الصيغة التي تقارن بين المسلمين وغير المسلمين، لدى أغلب رواد الفكر والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث؛ أي منذ ما يقرب من مئة عام وأكثر، ولم تختلف الإجابات التي قدموها إلا في بعض التفاصيل، أما جوهر الأسباب كلها فقد كان واحداً لديهم وهو أن البعد عن جوهر الإسلام هو سبب الأسباب التي أدت إلى التدهور، وأن التمسك بهذا الجوهر هو سبب الأسباب التي تقود إلى النهضة.
وأياً كان الأمر فمثل هذا التساؤل يعدُّ تساؤلاً أساسياً وحساساً في آن واحد؛ فهو أساسي لأن الإجابة عليه سوف تعبّر عن كيفية فهم صاحب الإجابة للواقع الذي صار إليه حال عموم شعوب الأمة الإسلامية. ومثل هذا الفهم بدوره أمر ضروري، كمقدمة ومدخل للتعامل مع هذا الواقع ووضع خطة لتغييره إلى ما هو أصلح. وهو تساؤل «حساس» بالنسبة للمسلمين خاصة، لأنه في صيغته المقارنة يفتح الباب للمناقشة حول «الإسلام ذاته» وما إذا كان سبباً في هذه الإشكالية أم لا؟ خصوصاً أن وضع المقارنة يغري بفتح هذا الباب؛ إذ أن غير المسلمين هم الطرف الآخر في المقارنة، وهم الذين يثيرون مثل هذا السؤال الملغز، ويتبنّاه أتباعهم من أبناء الأمة.
قد يكون من اللازم حقاً بيان: لماذا نهض المسلمون وازدهرت حضارتهم وسادت الدنيا أول مرة؟ وذلك قبل المضي في بيان أسباب انحطاطهم وأفول نجم حضارتهم منذ ثلاثة قرون تقريباً؛ فثمة علاقة وثيقة بين الأمرين كما تقضي بذلك شهادة التاريخ. فقد شهد أنهم يوم تمسكوا بتعاليم الإسلام سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا للإنسانية طريق التقدم والرقي، وقدموا حضارة امتدت منافعها إلى كل المجالات. بعد ذلك ابتعدوا عن التعاليم السامية لهذا الدين، وجهلوه وأهملوه ، ولبسوه كما يلبس الفرو مقلوباً… فوصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم مرة أخرى عودة صادقة وصحيحة.
وإذا كانت «العلة» هي في تنكّر المسلمين لدينهم كما يري كثيرون من رواد الإصلاحية الإسلامية في العصر الحديث. فإن ما يوقع في الحيرة هو: لماذا إذن تخلى المسلمون عن تعاليم دينهم وأهملوها بعد أن رأوا أنها كانت سبب عزهم ومجدهم وحضارتهم؟ هذا هو السؤال الذي يكمن خلف السؤال السابق، ولا مناص من طرحه ومناقشة الاجابات المحتملة عليه.
ليس ثمة بد من طرح القضية ضمن إطار أشمل يفسّر حركة التاريخ والسنن الكونية لصعود وهبوط الحضارات في مسيرة التقدم الإنساني بصفة عامة. فتعاليم الإسلام كـ «نصوص» و«قيم» و «مبادئ» لا يمكن لها أن تنشئ حضارة إلا بشروط. وهذه الشروط هي من صميم تلك التعاليم، ولكنها قد تتوفر في مرحلة معينة في مجتمع معين فينهض ويزدهر عمرانه، وقد لا تتوفر فيتأخر وتتدهور أحواله.
إن قضية النهضة لا تخرج عن كونها سنّة من سنن الله في حياة الأمم؛ فكل أمة بين حالين لا ثالث لهما، يخلف كل منهما الآخر متى توافرت دواعيه وأسبابه، هذان الحالان هما حال القوة وحال الضعف. فالأمة تقوى إذا حددت غايتها، وعرفت مثلها الأعلى، ورسمت منهاجاً عملياً ينظم حركتها، وصممت على الوصول إلى الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل الأعلى مهما كلفها ذلك من تضحيات.
وعندما تنسى الأمة الغاية وتجهل المثل، وتضل المنهاج وتؤثر المنفعة والمتعة على المجاهدة والجهاد، وعندما تنحل الأخلاق، ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن الواجب، حينئذ تأخذ الأمة في الضعف ويتحكم فيها الاستبداد السياسي، ويدب إليها دبيب السقم الاجتماعي ولا تزال تضعف حتى تهيئ لنفسها عوامل التجدد فتتجدد، أو لا تُهيئ لنفسها بنفسها هذه العوامل فتبيد. فالبشرية تسير قدماً نحو الكمال الذي كتبه الله لها يوم شاء أن يستخلف الإنسان في الكون وسخر له ما في السموات والأرض. وأغلب تجارب الأمم في التكوين والتربية كثيراً ما تكون طويلة المدى، وكثيراً ما تنزع بها المعاكسات العاطفية إلى جهة الخطأ فتصبح عقيمة النتائج فاسدة الآثار. لهذا اقتضت حكمة الله ورحمته بالناس أن يشد أزر العقل والقلب بنواميس ونظم إلهية تقرب على الإنسان المدى وترشد البشرية إلى مدارج الكمال الذي كتب لها.
وفي التاريخ شواهد تؤكد ما ذكرنا: فقيادة الدنيا كانت في الأزمنة القديمة شرقية بحتة في الهند وفارس، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها النبوات الموسوية والعيسوية والمحمدية إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سنّة الله التي لا تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية. وها هو ذا الغرب بقواه الطاغية يظلم ويجور ويطغى ويتخبط، فلم يبق إلا أن تمتد يد «أخرى» قوية يظلها لواء العدل والمساواة والحرية والرحمة، فإذا بالدنيا تنعم مرة أخرى بالسلام الإسلامي.
وهذا ما بدأ بعض مفكّري الغرب في إدراكه، ومنهم المفكر الفرنسي المعروف فرانسوا بورجا الذي يرى أن مجتمعات الأمة الإسلامية باتت على وشك الخروج من عصور الاستبداد والتأخر، والدخول في عصر الحرية والازدهار. ويرى أن هناك خشية من أن الأمم الغربية باتت على وشك الخروج من عصر الحرية والتقدم والعودة إلى عصر الاستبداد والتأخر بفعل صعود قوى اليمين المتطرف الغشوم في قلب أوروبا وفي الولايات المتحدة على السواء.
وفي سياق تتبعنا لحركة التاريخ يلفت نظرنا ما يمكن تسميته «دور المفسدين في تخريب الحضارات». وقد نال هذا الدور اهتمام القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث نجد التأكيد الدائم على إدانة هؤلاء المفسدين من الظالمين والمستبدين، ومن الجهال وأدعياء العلم ومن المغالين.
ويمكن القول، بناءً على التصورات النظرية السابقة، أن قضية الانحطاط الحضاري يجب النظر إليها في إطار ارتباطها بسنن كونية صارمة، منها ما ورد النص عليه في القرآن الكريم، ومنها ما أكدته حوادث التاريخ، إلا أن ذلك لا يعني عدم بحث القضية من منظور اجتماعي سياسي لمعرفة كيف حدث الانحطاط من خلال الممارسات العلمية اجتماعياً وسياسياً حتى فقد المسلمون مركز السيادة، وانتقلت قيادة البشرية إلى الغرب، وذلك كمحصلة لمجموعة من عوامل الضعف والانهيار من داخل المجتمع ومن خارجه.
تشمل عوامل الانهيار الداخلي النواحي الاجتماعية والسياسية والفكرية، والمحصلة النهائية التي أدت إليها تلك العوامل قد تجسّدت في حقيقة واقع الانحطاط والاستبداد. وتلك الحقيقة تجسدت مرتين في حياة الأمة الإسلامية: كانت الأولى في القرن السادس الهجري، عندما تم تمزيق كيان الأمة، وقضي على الدولة الإسلامية المركزية بأيدي التتار، وكانت الثانية في القرن الرابع عشر الهجري عندما سقطت البلدان الإسلامية واحدة تلو الأخرى تحت هيمنة الاستعمار الأوروبي، وفي المرتين كانت عوامل التحلل والانحطاط قد تسللت إلى كيان الأمة وتركت وراءها، في كلتا المرتين، أمماً مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب إلى النهوض، ولكنها لا تقدر على ذلك بسبب الاستبداد والمنازعات والحروب الداخلية.