في أثناء ثورتيْ الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو المتتاليتين بمصر؛ كنت واحدا ممن انتظروا ظهور فنون جديدة تعبر عن الأحداث الساخنة الجارية على الأرض، صحيح كان الشعر حاضرا في الميادين والحكي والغناء والأشكال التمثيلية البسيطة والجرافيك والفوتوغرافيا، لكنها الفنون التقليدية المشهورة في النهاية، بينما كان المأمول فنا جديدا يخلقه فوران الحال وتعقيد الظرف وتوقع الخطر. وفي الحقيقة كنت أتمنى أن يكون ذلك الفن الجديد مصريا خالصا مستوحى من تراثنا الشعبي، وإن لم يكن فالفن الأقرب إلى وجداني وقتئذ كان فن الهوسة العراقية الذي أعرفه وأحبه وأتابعه على قنوات اليوتيوب.
العراق شقيق عربي غال، ولا بأس بتلاقح الثقافات في جميع الأحوال.. وربما كان مشروع «الفن ميدان» الذي أنتجته ثورة يناير 2011 – في نظري – صورة من الصور المبشرة بانبعاث فن كالذي أشير إليه بصرف النظر عن تحديد ملامحه. فقد كان المشروع يجوب الأقاليم ولا يقتصر على العاصمة وحدها، وضمن فقراته الأساسية السماح للموهوبين باستعراض مواهبهم، ولعل من بين هؤلاء في الصعيد أو الدلتا من كان لديه فن مختلف مدهش معناه عنده «الحالة الثورية»، ويريد إيصاله للعالم ، إلا أن المشروع نفسه اضمحل مع الوقت باضمحلال العوامل التي كان تأسس عليها وتغيُر الأجواء التي ساعدته على النهوض، ومضى وغالبا لن يعود.
الهوسة العراقية
لا يعرف المؤرخون للفن متى ظهرت الهوسة العراقية على وجه الدقة، لكنهم يشيرون إلى تجلياتها القوية في ثورة العشرين ببلاد الرافدين 1920، الثورة التي صنعها العراقيون الأشاوس ضد الاحتلال البريطاني الذي أراد ضم العراق إلى مستعمراته الشرقية، من خلال سياسة تهنيدها (أي جعلها كالهند التابعة لبريطانيا في ذلك الحين)، وباختصار هي الثورة التي فشلت ولم تنجح في آخر الأمر، فشلت لأسباب شتى لم يتفق عليها من راقبوها وقيموها، لكن بقيت تجلياتها في الذاكرة، كتأسيس روح القومية العربية من خلال جذوتها، والاتحاد بين طائفتي السنة والشيعة الذي لم يدم طويلا بعدها للأمانة، وبروز فن الهوسة العراقية الذي كان ضمن أكبر آليات المقاومة وقتها.
الهوسة فن شعبي لفظي وحركي، يجمع بين الأهازيج الشعرية التي يسمونها «الهَوْسَات» وبين الرقص ذي القواعد ويسمونه «الرَّدْسَة». الهوسات لها نظام صارم حيث لا تزيد أبيات الواحدة على ثلاثة وبيت الهوسة هو الرابع، ويكون على بحر الخبب مخالفا للأبيات التي تقدمته، والرقص ضربا بالأقدام على الأرض ورفعا للأيدي فوق الرؤوس، ولا يخلو أحيانا من هز الأكتاف والأرداف بما يوافق الإيقاع، وهو ما يقوم به الراغبون من الملتفين حول الشاعر إذا أتم معناه بينما يرددون الهوسة ويكررونها.
مجالات هذا الفن متعددة ،فهو صالح لمعظم المناسبات تقريبا سيما الشدائد، ولكل مقام مقاله طبعا. الشخص الذي يلقي الهوسة اسمه المهوال، ولا بد أن يكون عالما بقواعد الشعر، لكن كثيرا من المهاويل ليسوا متعلمين إلا أن آذانهم مستقيمة وذوقهم سليم.
تُمارَس الهوسات في الساحات الرحبة المفتوحة بين حشود بشرية تهواها وتنجذب إليها في كل آن.. وتقدر الهوسات على شحن الجماهير الحاضرة بالطاقة الإيجابية؛ فهي شاحذة الهمم في الكوارث والملمات ومضفية المرح في المناسبات السعيدة واللطيفة.. والعراق لا تنقطع عن أرضه الأحداث الجسام منذ ثورة العشرين إلى ساعتنا الراهنة؛ فالهوسات من ثم لا ينفض سامرها والمهاويل يتزايدون ويتكسبون منها.
https://youtu.be/eyJ_PgNcpnY
الأصول اللغوية للهوسة والمهوال
من لفظ «الهَوْسَة» ينفتح المعجم على «الهَوَس» وهو اسم يعني: الجنون، وخفة العقل. والمادة، بقضها وقضيضها، تعنيهما وتعني الاختلاط والفساد والحيرة والاضطراب، وفي هذه المعاني، من باب المجاز، شيء وافر من حماس الهوسة العظيم بتجلياتها اللفظية والحركية.
المِهْوَال: هوَّل الأمر تهويلاً: شنَّعه وعظَّمه وبالغ فيه حتى صار هائلا. فهو مهوِّل والمِهْوَال على وزن مفعال أي كثير التهويل صيغة مبالغة من مُهَوِّل (الجمع مهاويل على وزن مفاعيل من الجموع الممنوعة من الصرف). قالوا: كان في الجاهلية لكل قوم نار وعليها سَدَنَةٌ، فكان إذا وقع بين رجلين خصومة جاء إلى النار فيحلف عندها، وكان السدنةُ يطرحون فيها ملحاُ من حيث لا يشعر، يُهَوِّلونَ بها عليه. قال أوس: كما صَدَّ عن نارِ المُهَوِّلِ حالِفُ. واسم تلك النار الهُولَةُ بالضم. قال الكميت: كهُولَةِ مَا أَوْقَدَ المُحلِفونَ/ لدى الحالِفين وما هَوَّلوا.
هوستنا المصرية
ليس افتتانا بالهوسة العراقية فحسب، لكن لأن الفن جميل حقا ومؤثر حقا، والأهم أن له، فيما بين زجلنا المصري الساخر اللاذع ورقصاتنا الشعبية الحميمة الزاهية، وتحرر أرواحنا الأكيد، أصولا لو استطعنا قبضها، ثم ألَّفنا بين هذه العناصر كلها لصنعنا هوستنا الوطنية العبقرية مستفيدين من الفن العراقي الزاخر كما يستفيد هو من فنوننا وكما تستفيد الشعوب من الشعوب باستمرار الحياة.
خاتمة
لا يبقى من الشعوب في الآخر إلا ما كان صادقا، والفن الذي استعرضناه هنا بإيجاز يكفي لإيصاله للمتلقين يؤكد هذا الصدق، الصدق الذي كلفظ يخرق السمع خرقا وينفذ إلى الوجدان نفاذا والذي كدقة كعب قدم على الأرض بثقة كاملة في علاقة الموسيقى بالإنسان.
أنموذجان من الهوسات العراقية:
يـا شـَـعـب الـعـراق الـيـوم هـِـبْ او ثـور
ظـَـلام اطـفـيـه وارفـَـعـْـهـَـه مـشـاعـل نـور
نـكـفـر بـالـظـلـم وانـحـارب احـْـنـَـه الـجــور
هـا الـمتظاهرين هـا:-
هـذا اعـراقـي الـيـوم ايـنـادي- أهـلاً بـيـكـم يـا الـثـوار
هـذا اعـراقـي الـيـوم ايـنـادي…… (الهوسة المُردَّدة المُكرَّرة)
****
سـلـمـيـّـه او نـنـادي الـيـوم بـالإصلاح
عـراقـي اللـي يـشـارك.. عـامـل او فـَـلاّح
سـفـيـنـَـه هـالـشـَـعـَـب وايـدَوّر الـمـَـلاّح
هـا اخوتي هـا:-
شـَـعـب الـثـائـر مـا ظـن يـصبـر– يـزحـَـف والله اعـْـلـَـه الخـَـضراء
شـَـعـب الـثـائـر مـا ظـن يـصبـر…….. (الهوسة المُردَّدة المكرَّرة)