منوعات

عن تلك الغريزة الدموية التي لا تنتهي.. حكايات من دفتر «الثأر»

في ذلك اليوم القديم المبكر من عمر البشرية اهتز وجدان الكون في أول حرب عالمية حقيقية، حينما اندفع قابيل حانقاً ليقتل أخاه هابيل، وليلطخ أول دم وجه الأرض بالندم والرعب، وليهتز وجدان العالم المبكر، ذلك الذي بدأ دورته التاريخية الدامية، وليصبح الثأر الوجه الأحمق لحركة الإنسان على الأرض: فرداً وأسرة وقبيلة وأمة وتاريخاً.

الثأر العصرى!

لكن أكبر وهم عايشه الإنسان المعاصر هو أن الثأر سلوك دموي بدائي يتقهقر وينزوى تحت نور التمدن والتحضر، وأن التعليم بما يصاحبه من رقي العقل وتنزهه وسموه عن العنف، هو الذي يحول دون انزلاق الفرد أو الأسرة إلى هذه المستنقعات الدموية. فالعالم المعاصر- بكل إمكانيات العلم والفلسفة – ناقض هذا المفهوم التربوي، حيث قامت منظمات ذات تركيب عصري متطور، بمجازر ثأرية في قلب أكثر البلدان تعليما وتحضراً، وفي المدن بالذات (لا في البوادي أو القرى)، في شيكاغو ونيويورك، في برلين وميونخ، في مدريد ولندن وباريس، مستغلة إنجازات العقل الحديث من سلاح وتخطيط وحصار. وكان أكثر الثارات دموية وعنفا وكراهية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر بين فرنسا وانجلترا وكل الدول التي وقعت تحت استعمارهما.. لقد كان الأمر ثأرا بين دولتين تتصارعان بالسلاح والعلم، لتهون أمامه أيام ثارات العرب في الجاهلية: وأشهرها حرب البسوس بين بكر وتغلب، وحرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وغيرها من أيام ثارات العرب، تلك التي حجمها الإسلام، الذي حوي في جوهره نبذ الثأر الأعمى والأحمق، والذي يقودنا اليوم إلى قاعدة صادقة: إن الذين يقومون بالعمليات الثأرية الدموية، وفيهم كثيرون من أرقي المتعلمين، هم أبعد الناس عن الوعى بالدين وفهمه وإدراك مبادئه ومفاهيمه.

https://youtu.be/wXO1PRzdyIY

والثأر يصور في العادة إحدى مراحل تطور الجماعة عندما تكون الأسرة هي الرابطة الاجتماعية الوحيدة، وصاحبة السلطان، نافيا عن السلطة – أو الحكومة – أو الدولة – أن تنوب عن الفرد في القصاص، أو أن يخشى الفرد أن تنوب عنه الدولة في نيل شرف القصاص فيلتصق به عار الجبن وقصر اليد.

الحرب ثأرا

والثأر – على مستوي الفرد أو الجماعة – اتصفت به كل الشعوب دون استثناء، وفي كل المراحل التاريخية دون استثناء أيضا، ودون استبعاد قيام الحرب وخاصة الحروب العالمية بين الأمم بسبب فكرة الثأر والقصاص، والتي يكون الثأر واحداً من عناصر قيامها، ومن أخطر عناصر قيامها في الأساس، وحيث يبرز عنصر الثأر أيضا في التسويات ومعاهدات الهدنة في نهايتها.

فلا نتصور قيام الحرب العالمية الثانية بدون أن يكون قلب هتلر قد امتلأ  بالغل والكره والرغبة فى الانتقام وقرر الثأر لما حدث لألمانيا في الحرب العالمية الأولي وإذلالها في معاهدة فرساي، كما لا نتصور دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية بدون التفكير في الثأر لكرامتها بعد مهانة – بيرل هاربر- حتى وصلت بشاعة الثأر لإلقاء القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي.

حكايات من دفتر الثأر

وصاحب الثأر (حيث لا نستطيع أن نطلق عليه لفظ الثائر) هو فرد يقع في يقينه أن حياته تظل تفقد معناها دون النيل ممن أوقعه في موقف طلب الثأر، وهناك حالات تزخر بها صحائف الثأر لأناس حملوا هذا اليقين في كيانهم أكثر من ربع قرن، ولم ينفضوه عن أنفسهم إلا باكتمال تحقيق الهدف، وأذكر – هنا – صديقي الذي كان يتشاجر في مقهى وهو في سن الثامنة عشرة، وقد وقف رجل يُبعد المتشاجرين،  ولم يكن له دخل بالمشاجرة من الأساس، ولكن صديقي في ثورته طعن هذا الرجل في صدره ليموت فوراً، وليدخل صديقي  السجن لمدة خمس سنوات ب تهمة القتل الخطأ، وقد تصورنا أن الأمر قد انتهي بعد خروجه من السجن، ولكن – ذات يوم – وكان صديقي يقف في الشارع وسطنا، وإذا بسيدة تأتي وقد ارتدت النقاب واقتربت منه ثم أخرجت ساطوراً وانهالت على رأسه بضربتين كان فيهما الانتقام الكامل، ليموت صديقنا بين أيدينا وسط ذهولنا وصراخنا، ولتخلع السيدة – وهي أخت الرجل القتيل – النقاب في وسط الشارع، وتطلق زغاريدها، وقد كان المشهد مؤثراُ ولم أنسه حتى الآن.

 كذلك لا أنسي من حكايات والدي – الأديب محمد مستجاب – أثناء عمله في السد العالي، أن شخصا جاء للعمل في موقع صحراوي كان يمد عملية السد العالي بنوع من الكاولينا (الطمي القديم)، وعرف ملاحظ الموقع أن هذا الشخص (أ) جاء طالبا الثأر من الشخص (ب) الذي يعمل معهم منذ سنوات، وارتج الموقع الصحراوي المليء بعمال من بلاد متقاربة في الصعيد، وكل جماعة من العمال لها (ريس) أي رئيس له سطوته عليهم، واستقر الأمر على إقامة صلح أو هدنة بين (أ) – و – (ب) على الأقل في هذا الموقع، وبالفعل ظل (أ) يعمل بدءاً من عامل أتربة إلى مساعد سائق بلدوزر إلى سائق بلدوزر، ونسي الناس هذا الأمر سنوات، وبعد حرب 1967 ألغي العمل الليلي في الموقع، فتكدست الورديات في النهار دون عمل، وكانوا يتسكعون حول الخيام، حينئذ قام (أ) أمام كل المتسكعين بقتل (ب) بعد سبع سنوات من وصوله، ويبدو أن حياته كانت قد أخذت معني (آخر) خلال تدرجه في العمل، أو ما يسميه علماء النفس: تحقيق الذات، فلما انسحب عنه ذلك بالفراغ والتسكع عاد الأمر القديم ليطفو في إدراكه من جديد، كذلك هناك حادثة مشهورة لشاب صغير جاء إلى الإسكندرية من الصعيد بحثا عن قاتل أبيه، ولما عثر عليه شاءت الظروف أن يعملا معاً، ثم أراد المطلوب بالثأر أن يزوج الشاب لابنته، متوهما إنهاء رغبة الثأر من قلب الشاب غير أن الشاب – قبل زفافه بيومين – قتل صهره، وهرب إلى بلدتهم عائداً إلى الصعيد ليسلم نفسه لشرطة بلدتهم في زهو وافتخار.

قتلة مأجورون

 وكثيرا ما يعجز طالبوا الثأر عن النيل من غرمائهم، إما لقوة الغرماء، أو ما يفرضونه على أنفسهم من حراسة، أو لضعف طالب الثأر، ولذا يلجأ بعض هؤلاء قليلى الحيلة إلى القتلة المأجورين، وهم شريحة من الرجال معروفة في البلاد التي تنوء بكثرة  حوادث الثأر في الصعيد وشمال الدلتا (محافظة البحيرة) وشرق الدلتا (الشرقية)، ولم يتعرض أحد من علماء الاجتماع – أو النفس – ببحث أو دراسة عنهم، ربما لأن القاتل المأجور ينظر إليه من زاوية عقابية تجريمية فقط، ومع أن ثارات كثيرة ومتعددة تمت على أيدي هؤلاء المأجورين، الذين تحميهم مجموعة من التقاليد تجعلهم بمنأى عن العقاب إذ لا أحد من أهل القتيل يعترف أو يشير إلى القاتل المأجور، لأن ذلك خارج دائرة الفخر والاعتزاز، حيث يعد أداة ثأر لا يصح الثأر منها، ولأنه ليس طرفا في العملية كلها مع أنه منفذها وكثيراً ما يؤدي هذا التستر من الطرفين على القاتل الأجير أن يعطي لهذه الشريحة امتداد لنشاطهم يصل إلى حرق المحاصيل وتسميم البهائم وإغراق الأراضي لحساب مؤجريهم، بل إن حالات حدثت في هذا الأمر أن أدي القاتل الأجير خدمته للطرفين وقبض عنها أجره.

وتقضي قواعد القتلة المأجورين ألا يراوغ في التنفيذ فور الاتفاق وقبض (مقدم العملية)، غير أن حالات أخري قام فيها القاتل الأجير بإبلاغ الطرف المقصود بالثأر ربما تقربا أو بحثاً عن منفعة أكبر، وعندما يحدث ذلك فمن النادر أن توكل للقاتل الأجير عملية أخري، وهناك حالات قام بها قتلة مأجورون مجانا، وغالبا ما تكون لحساب امرأة فقيرة ثكلت زوجا أو شقيقاً، أو إبنا، وقد تتم في شكل تضامن مجاني يجعل القاتل الأجير طرفا أساسيا يجب النيل منه.

والمركب الاجتماعي للتجمعات السكانية يجعل لكل قرية قاتلا مأجوراً، تماماً كما أن لكل قرية شيخ بلد وعمدة وداية ( قابلة ) ومغني وفاتح مندل وغير ذلك من أصحاب المهن الفريدة، ساعد على ذلك انحسار الإحساس بالفروسية والنبل والمجد العظيم تحت وطأة الحياة المعاصرة المضطربة، ذلك أن القبائل في زهو فروسيتها ونبلها كانت تحقر من شأن القاتل الأجير ( الذي وكله في المهمة جبان خائف )، غير أن شريحة هذا النوع من القتلة انتشرت في العصور المتأخرة، وأصبح لكل واحد مجال عمل لا يصح لأقرانه أن ينافسوه فيها دون استئذان، وهم يعرفون بعضهم ويتصادقون ويتكلمون فيما بينهم عن عملياتهم الناجحة ووسائل تدبيرها، ونادراً ما يقع واحد منهم ضحية أو صريعاً للآخر إلا في ظروف بالغة الدقة، ويكون المال الوفير – في معظم الحالات – ثمنا ينزح بعدها هذا القاتل عن المنطقة كلها.

https://youtu.be/_5W3yC2XO6k

الثأر والأدب

وقد ظل الأدب هدفاً أساسيا لعملية الثأر- الأدب العالمي أو العربي، فلا ننسي – الكونت دي مونت كريستو – وهو ينتقم من أصدقائه الذين خانوه، وقد استهلكت السينما هذا الموضوع بشتى الطرق، كذلك فلا أحد يستطيع أن ينسي أنور وجدي وهو يعدد ضحاياه، انتقاما وثأراً على ما فعلوه به، الأول، الثاني في فيلم «أمير الانتقام»، كذلك زيارة السيدة العجوزلدورنيمات – وعودة تلك السيدة بجبروتها للثأر من حبيبها وقريتها التي طردتها هي ورضيعها من سنوات بعيدة، ولا يمكن أن نترك خالتي صفية وجبروتها وهي تثأر من حربي المسكين طوال حياته في رائعة بهاء طاهر «خالتي صفية والدير»، كي يكون الثأر حباً هو الموضوع الأشد اهتماماً، حيث يصبح القلب هدف الثأر.

أما عباس البوسطجي فقد قرر الثأر من إحدي قري الصعيد بطريقته بأن يدخل ويكتشف أسرار أهل تلك القرية البائسة، فحاول أن يثأر من كل التقاليد والجهل والتخلف الذي تنام فيها تلك القرية، ليجد نفسه متورطا في قضية قتل فتاة كان كل ذنبها أنها أحبت فقط، ليقتلها والدها في احد أعظم مشاهد السينما العربية حتى الآن، عن الرواية القصيرة – البوسطجي– للراحل العظيم يحي حقي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock