فن

المكان حينما يتواطا مع المقهورين: بين «حادث النصف متر» و«الحب فوق هضبة الهرم»

في هذه السطور محاولة لادراك خيط رفيع لا يري الا بالعين المدربة بين هذين العملين العميقين لعملاقين فى أدبنا العربي، “صبري موسي” صاحب الإنتاج القليل والمميز جدًا، وصاحب نوبل “نجيب محفوظ” المميز بكثرة إنتاجه وتنوعه. بين عامي 1962 وعامي 1978، خمسة عشر عامًا تقريبًا، هي الفارق بين العملين القصيرين.. الأول رواية قصيرة هي “حادث النصف متر” لموسى، والثاني قصة طويلة لمحفوظ، في مجموعة تحمل نفس العنوان “الحب فوق هضبة الهرم”.

نجيب محفوظ                                                         صبري موسى

 قراءة هذين العملين البديعين تظهر التشابه الكبير بين أبطالهما، ففي الأول حادث النصف متر.. نجد ذلك الشاب البطل الراوى الذى لم يختر له المؤلف اسما يبحث عن الجنس، كرغبة يريد أن يطفئها، فيصبح هو المحرك الاساسي له، سواء في أحلامه أو يقظته، وهو ما يحدث أيضًا مع “علي عبد الستار” بطل قصة “الحب فوق هضبة الهرم” فهو من أول سطر في القصة يعلن: أريد امرأة.. أيّة امرأة.

لكن الظروف الحياتية لا تجعل البطلين يستطيعان الوصول إلى تلك الأنثي التي يحلمان بها بطريق مشروع فخلف تلك الكلمة البسيطة “الزواج” كثير من المعوقات المادية كالأموال والشقة وتأثيثها، ومعوقات نفسية تلح عليهما وهي الشكل الاجتماعي بصفتهما شابين تخطيا مرحلة عمرية ولم يتزوجا، وبالتالي ينظر لهما المجتمع بنصف عين على عدم تحركهما لإتمام هذا المشروع.

وإذا كانت قوانين المجتمع ترمقهما بنصف عين، فلم يكن أمامهما إلا السخرية من تلك القوانين وذلك المجتمع وظروفه. لذا يلجأ كل منهما للتحايل على الواقع، بل والسخرية منه، ففي “حادث النصف متر” يقول الراوي وهو البطل أيضًا: كان طويلاً، فانحنى وهو يقدم لي نفسه، ثم طلب مني أن أبتعد عن حبيبتي لأنه سيتزوجها.. لنعرف بعد ذلك انه غريمه الطبيب الذى لجات اليه حبيبته فيقرر ان يصادرها لنفسه رغم علمه بعلاقتها بالبطل الراوى ثم في حديثه عن “الوكر”، وهو مكان اللقاء الجنسي مع أحدى الفتيات وهو صغير السن، وعندما ذهب لزيارته بعد فترة وجده وقد تحول إلى مسجد، حيث يؤكد البطل أنه لا شيء حقيقيا وثابتا ودائما، وهذه هي فلسفته التى يتحرك بها في مواجهة هذا العالم.

تلك السخرية يلقي لنا بها البطل طوال الرواية، بين فواصل الجمل، وبدايات الفصول وعناوينها، “التاريخ السري لرجل عادي”، “مفاتيح بيوت لا نملكها”، وهي نفس السخرية المرة التى يتعامل بها ” علي عبد الستار” في الحب فوق هضبة الهرم، خاصة في لقائه مع المفكر الكبير ” عاطف هلال” عندما لم يجد لديه  حلاً لمشكلته، وبالتالي فهو يسخر منه ومن كتاباته، حيث يمثل للبطل جيلا سابقا أخذ كل شيء ولم يترك شيئا إلا الشعارات.

الحب فوق هضبة الهرم

ورغم أن الجنس هو المحرك الاساسي، إلا أنه جنس عقيم لدي بطلى العملين، فلم يصل بهما إلى شيء، غير المتعة الوقتية أو النشوة اللحظية، وهذا ما نراه بوضوح في عقم المدينة حولهما، في الزحام وموت الاحلام والضجيج وعدم الوصول إلى أي هدف، كسل دواوين الحكومة ومكاتبها ومواصلاتها العامة ومقاهيها. فالاثنان موظفان عاطلان عن العمل، وبالتالي طاقة معطلة تبحث عن منفذ أو متنفس يحققان فيه رغبتهما.

والمكان هنا/ المدينة، يضغط بقسوة  فى كلا العملين، فالقاهرة هي ذلك البطل القاسي الذي تجري على ترابه أحداث القصتين، وخاصة منطقة وسط البلد، حيث يتم إختزالها فى شوارع ومقاهي وكازينوهات وسط البلد، وفنادق الدرجة الثالثة.. في “حادث النصف متر” يتم التعارف بين البطل والبطلة في أتوبيس نقل عام، بينما اللقاء فى “الحب فوق هضبة الهرم” يحدث في مكتب بمصلحة حكومية.

أربعة أقدام تتحرك على أرض المدينة، ولا تترك لها أثرًا، تنغرز فيها وتريد أن تتركها مما يجعل المكان يحوطها، ليصبح هذا المكان سجنا كبيرا لا يستطيعان غير التقافز في أرجائه، أو غرفه أو شوارعه. المكان هنا علاقات اجتماعية وفقر شديد ونظرات بشر لهذين الكائنين اللذين يريدان شيئا بسيطًا هو: الجنس.

حادث النصف متر

لكن تلك العقبات وهذا العقم، يجعلهما يلجأن إلى كل ما هو ضد الواقع، بل إنهما يدهشان، عندما يجدان هذا الواقع يساعدهما في طرق تحايلهما من أجل الوصول إلى هدفهما، وما كانا يفكران  فيه أنه “عيب” يصبح هو الحقيقة والاساس. يذهب البطل في “حادث النصف متر” إلى الفنادق وشقق الاصدقاء والغرباء أيضًا، بل يصبح له تاريخ محدد لزيارة تلك الأماكن مع حبيبته. تتحول المدينة إلى وكر وأهلها خادمون في هذا الوكر ومساهمون فيه ايضًا.

وهذا ما يحدث بالضبط مع بطلى قصة “الحب فوق هضبة الهرم”، عندما يفشلان في العثور على مسكن لاتمام الخطوبة، فلم يكن أمامهما إلا أن يتزوجا سرًا، ثم البحث عن أماكن لم تكن في بالهما ذات يوم في تلك المدينة، فيبدآن في التردد على أماكن مثيرة وفنادق رخيصة وشقق للأصدقاء حتي يتم اللقاء. وعندما يراهما أحد أصدقاء العمل يضطران إلى إعلان زواجهما، في تحد واضح لهذا المجتمع الكاسر، وكأنهما يقتنصان تلك الرغبة من بين فكيه، فلا ينفصلان بل يصران على استكمال مشروعهما وهو البحث عن مكان.، هذا المكان الذي يكرهما ويكره أفعالهما في الظاهر، يوافق في الحقيقة على هذا التحايل وتلك الحياة في الخفاء، وبالتالي يسهل لهما اللقاء، حتي ولو كان على أرض التاريخ أسفل سفح الهرم.، فالمجتمع هنا يغض الطرف عن فعلتهما تماما بل ويتواطا معها كما فعل السيد زينهم الذى كان يؤجر غرفته للبطل وحبيبته في حادث النصف متر. وكما وجد على عبد الستار وحبيبته مكانا فى سفح الهرم للقائهما.

مشهد من فيلم الحب فوق هضبة الهرم

هذا التواطؤ الذي تقدمه المدينة وأهلها من أجل أن يتم اللقاء للبطل وحبيبته طوال الأحداث هو نفسه التواطؤ والبساطة التى تغلف به المدينة أفعالها في ختام العملين، فلم تنفجر المدينة ولم تثر عليهم، بل كان الختام بسيطًا وواقعيًا وهو ما يدهشنا – نحن القراء- وهو أيضًا – أحد الخيوط القوية التي تربط العملين. ففي كليهما تصبح المدينة، غرفة ذات سقف وأربعة جدران، يذيب فيها البطلان توترهما اللا نهائي ومتعتهما العاطفية، بينما تصير الشوارع والمقاهي والفنادق والأركان المظلمة، عالمهما بأسره.

الأبطال في كلا العملين يعيشون عزلة نفسية، فلا يعنيهم شيء مما يحدث حولهم في العالم، وبالتالي إذا كان هذا العالم الكبير يسحقهم، فهم أيضا يسحقونه أو يتمردون عليه بطريقتهم، فهذا العالم وما يمثله من حضارة، لا يقدم لهم إلا قضبانا وقيودا. ويضاف إلى الخيط الرفيع بين العملين، هذا الراوي العليم، ذو النبرة الساخرة المرحة فى حادث النصف متر فهو يخبرنا منذ أول سطر عن الختام، وبنظرته الفلسفية في الحياة. وعلى نفس المنوال يسير بطل “محفوظ”، الذي يريد أن يفلسف الحياة والظروف حوله، حتى عندما يلتقي بالكاتب الكبير “عاطف هلال” مرة أخري، فلا يقتنع بفلسفته بل ويحتد عليه ويسخر منه ويسبه، لأنه استطاع أن يقفز من السفينة – الوطن – مثل الجرذان قبل أن تغرق، بينما يحاول أن يخفي ذلك في مقالاته البائسة.

مشهد من فيلم حادث النصف متر

وإذا كان “محفوظ” قد لجأ للحوار في معظم أجزاء القصة، وهذا أحد أسباب تفرده وافلاته من التماهي مع “حادث النصف متر”، فإنه مع ذلك لم يجد مفرًا من تلك الفلسفة التي يتحدث بها الراوي أو البطل الراوي، حيث لجأ محفوظ إلى تلك الفلسفة على لسان بطله، وخاصة في الحوار المتنامي طوال القصة.

نحن إذن أمام عملين متفردين، يربط بينهما أشخاص ومكان ورغبة واحدة، وكل منهما استخدم اساليبه ووضع بصمته، لكن تبقى في النهاية، إحدى متع الأدب الكبرى، هي أن تزرع في منطقة  “حادث النصف متر” ويتذوق آخر طعامك، فيهضمه ليخرجه عملا ابداعيًأ كبيرًا مثل “الحب فوق هضبة الهرم”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock