«قد آن ياكيخوت للقلب الجريح.. أن يستريح.. فاحفر هنا قبرا ونم.. وانقش على الصخر الأصم».. نجيب سرور
لم يكن جنون «أزرا باوند» هو الحالة الوحيدة المثبتة في دفاتر الأمراض النفسية والعصبية، فقد أمضى الرجل 13 عاما بمستشفى «سانت إليزابيث».
تشابهت رحلة أزرا باوند مع رحلة الكاتب والمفكر اليساري اسماعيل المهداوي، ,والمصير نفسه لقيه أيضا الشاعر والمسرحي نجيب سرور، لكن هل ثبت جنون أزرا باوند؟ هذا هو السؤال.. فقط الأوراق الرسمية، وتقارير عالم النفس الشهير أوفر هلسر تؤكد وصمه بالجنون.
لكن القصة الحقيقية بالطبع كانت غير ذلك.. فتقارير هلسر هي تقارير مُحبة أنقذت الشاعر الأمريكى الشهير من التهمة الموجهة إليه بالخيانة، وجاءت بمثابة طوق نجاة، وبعد وقت قصير من إيداع باوند بمستشفى سانت إليزابيت صارت أحد أشهر الأماكن التي يقطنها شاعر في تاريخ الإبداع العالمي.
يمكن أن نشير إلى أن ثمة تشابها وتقاطعا وتناصا بين سيرة أزرا باوند وسيرة صاحب «يس وبهية»، و«آه يا ليل يا قمر»، و«قولوا لعين الشمس، وصاحب أشهر ديوان شعري في الأدب المكشوف عرفه المشهد الثقافي باسم «الأميات» هو الشاعر والمسرحي الكبير «نجيب سرور»، أحد أبرز أيقونات الإبداع المصري والعربي.
فسرور كانت التهمة المثبتة عليه منحوتة في دفتر الذاكرة المصرية هي حب مصر، وجنونه لم يكن سوى حالة إبداعية مفرطة في محبة مصر.. هنا نتحدث عن نجيب سرور وعن ابنه شهدى الذى أخذ من أبيه الكثير وورث عنه الشعر والحزن والألم والغربة.
الحالة صفر
هو «الحالة صفر» كما وصفه الطبيب والباحث في التراث الفني «عصمت النمر» الذى يشير إلى أن حياة سرور كانت حالة إبداعية كاملة لم ينفصل فيها الواقع عن الخيال، فقد كان متوهجا لحد الجنون.
عصمت النمر
ويضيف «النمر»: لم يكن سرور يوما مريضا نفسيا فقد كان واعيا تماما لما يُقدِم عليه من أفعال في حياته اليومية، راصدا كل ما يجرى من حوله في المشهد الثقافي وإعادة طرح التساؤلات حول أحلامنا في الانتصار على عدونا التاريخى «إسرائيل» بعد نكسة 67.. انشغل سرور بطرح تساؤلاته حول الحرية والعدالة الاجتماعية التي كانت بمثابة الخطاب الملازم لليسار حينما كان هناك يسار حقيقي فى مصر، ما حدث معه يمكن وصفه بالحالة الصفرية، وهذه قمة الإبداع والنضج والتي يخرج أصحابها بما هو ليس مألوفا على جميع المستويات في الكتابة وفي الحياة وفي ردود الفعل.
ما جرى مع «سرور» كان جلدا للذات، ملفتا للنظر، بدءا بكسره لكل المحرمات، وليس غريبا أن يتم اتهامه بالجنون، فكل مبدع خرج بكتاباته عن المألوف وقفز بعيدا عما هو مطروح، وخلق عالما جديدا مختلفا واجهته نفس التهمة.
ويقول «النمر»: بحكم اقترابي من سرور، كنت أتابع ما يقدمه وجاء ديوان الأميات بمثابة شرارة في توصيف المشهد الثقافي وكشف زيف ما نسميهم المثقفين. جاء الديوان الذي يعد من أجمل ما كتب فيما نسميه بالشعر المكشوف، لوصف حالة التردي والسقوط والانتكاسة التي كنا نعيشها.
المتمرد
«لم يكن سوى جزء من شخصيته في إعلان تمرده على مايجري»، هذا ما أكدته الكاتبة الصحفية أمل سرور «ابنة أخيه» وأشارت إلى أن عبقرية سرور فى أنه كان واعيا تماما لما يقدم عليه، ساخطا ومتمردا على مايجرى، فقد خرج من مصر فى وقت مبكر الى روسيا للدراسة، إلا أنه تمرد وأعلن سخطه على النظام المصري «جمال عبد الناصر» ليحرمه من المنحة الدراسية ويتم اسقاط اسمه، ومن ثم يعلن سخطه على الشيوعية لتتم مطاردته فيهجر روسيا متجها الى المجر ومنها يعود إلى مصر، ليبدأ مشواره من جديد مع الإبداع والجنون.
أمل سرور
تروي أمل سرور، أن عمها كان يحمل مشاعر طفل كبير وحب للفن والإبداع بشكل غير مألوف. ففي إحدى ليالى الشتاء كان سرور يسير بجوار تمثال سيد درويش. وكان الجو شتويا ممطرا. فخلع البالطو الذي كان يرتديه ليغطي تمثال سيد درويش.
شهدي ابن أبيه
يقول الكاتب أشرف الصباغ: إن رحيل شهدي سرور كان مفاجأة من العيار الثقيل، ليس لأنه مات، ولكن لأنني كنت أعتقد أن الموت ليس بحاجة إليه، وأنه يجب أن يبقى بيننا لكي يكون مصدرا للنور والمحبة والتسامح، والطيبة بمعناها المصري الواسع والفضفاض. في كل الأحوال، رحيل شهدي، هو مجرد تحول في صورته، لأنه باق مع أصدقائه وأحبابه، باق في الذاكرة والضحكات التي كنا نضحكها معا في موسكو، وهمساتنا ونظراتنا، ونقاشاتنا عن الروح والجسد والتحول، وحول أحوالنا في مصر وفي روسيا وفي بلاد الله.
شهدي سرور
ويستطرد الصباغ: أنا لا أميل كثيرا لربط شهدي وحياته وأفكاره بنجيب سرور. أعرف أنه «شهدي نجيب سرور»، وأعرف أنه ابن لأب أفخر بأنني أنتمي إليهما كمصري. ولكن شهدي كان، وما زال، له عالمه المستمر والباقي، استطاع أن يحقق نفسه ويكون هو كما هو بدون أي ادعاءات أو مبالغات. لا أستطيع إلا أن أتذكر شهدي ونحن رجال، نلعب كالأطفال بالقرب من بيت جدته أمام ساحة مترو «كوروبوتكنسكايا»، وكانت معي ابنتي الصغيرة إيزيس، ثم لعبنا أيضا في الشارع بعد سنوات مع ابني والتقطنا الصور. والآن ابنتي وصلت إلى الثلاثين، وابنته تخطو خطواتها الأولى على طريق الحلم والحب والحياة.
أشرف الصباغ
إذا عرفتَ شهدي وتعرَّفت عليه جيدا، فهو لا يمكن أن يفارقك. إنه يترك جزءاً منه دائما في أرواح الآخرين: بأفكاره وجنونه ونظراته الجذَّابة وحبه للحياة وابتسامته الأقرب إلى ابتسامات الأنبياء والرسل والصديقين وأولياء الله الصالحين.
شهدي، ابن الحياة. وصاحبي الذي مات فجأة، وكل وصيته لي أن أنعم بالهدوء الروحي وأستمتع بحياتي بين كل كائنات الطبيعة. لقد ذهب كعادته، على دَرَّاجَتِه، مرتديا «شورت» و«تي شيرت» خفيفا بأكمام في درجة حرارة 17 تحت الصفر، رافعا يده بالتحية على أن نلتقي بعد سنة أو اثنتين أو ثلاث. سيتصل كعادته بعد غيبة طويلة، ويخبرني بأنه ينتظرني في الشارع: لا يهم إذا كان الوقت شتاء روسيا جليديا، أو صيفا روسيا ممطرا، فهو دوما يرتدي ملابسه الخفيفة وابتسامته التي لا تشبه ابتسامة أحد، وخصلة شعره الطويل، مثل باقة ورد، تتطاير إلى أعلى وكأنها تشده إلى السماء.
حين مات شهدى
يانابشا قبري حنانك.. هاهنا قلب ينام.. لافرق من عام ينام وألف عام.. هذي العظام حصاد أيامي فرفقا بالعظام… ليس هناك ادل من هذه الكلمات التى كتبها نجيب سرور عن الموت، الموت الذي أعاد صوته مرة أخرى بخطف شهدي ابن نجيب سرور.
يشير الكاتب سيد كراوية أنه بموت شهدى ابن نجيب سرور فتحت ذكريات أو جروح نجيب مرة أخرى، ولى واقعة خاصة، ودالة جدا. وبعد موته، طلب منى أحد الأصدقاء الذى كان يعد كتابا عن نجيب سرور ذكر تلك الواقعة، سأحاول هنا سردها كذكريات، كنت قد سمعت من أحد الأصدقاء فى المنصورة حكاية عن معركة دفن نجيب سرور فى قريته، ولما كانت الحكاية أقرب لقصص الصراعات الطبقية ذات الطابع الجوركوى (نسبة لمكسيم جوركى) وفكرتى عن راوى الحكاية بأنه غاوى حكايات فمصدقتش قوى، واعتبرتها نوعا من مبالغات خيال الأدباء.
الكاتب سيد كراوية
تصادف أنى تلاقيت فى عمل مع أحد رجال الأعمال، وابن برلمانى وفدى قديم: وكان ممثله وسكرتيره فى بورسعيد أحد أقاربه من عائلة هى من أصحاب إقطاعيات بهوت وطرف في حكاياتها التاريخية، وهم من قام الفلاحون بالثورة ضدهم في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، تلك الأحداث التي استلهمها نجيب سرور في مسرحيته «ياسين وبهية» وفي الحقيقة لم أكن أعلم عن خلفياتهم إلا التقدمة المختصرة، ولم أتصور أن لهم علاقة ببهوت من الأساس، فى يوم كنت قد عزمت الاثنين فى بيتي على الغداء، ومعهما محاميهما، والذي طلب مني كتب نجيب سرور حيث أنه كان زميلا له فى الجامعة وفى السكن لفترة… المهم دخلوا الصالون وكنت قد جهزت كتابين لسرور على طاولة الصالون، رآهما ذلك السكرتير فتوتر وانفعل وأخذ يرغى ويزبد ويسب ويشتم، فى البداية مكنتش فاهم، والجلسة توترت جدا، وبدأ يرتعش وتقع من يده السجاير، إلى أن قال: دا شيوعى واحنا رفضنا يندفن عندنا فى البلد ـ بدأت أفهم، وأسترجع حكايات أديب المنصورة، واستفهمت: أنتم مين؟ فقال لي اسم العائلة، ووضحت الصورة، وأنا فى بيتى، وجدتنى أغضب بشدة وانفعل انفعالا شديدا.. كأن فعلا الحكاية حصلت بجد؟ وبلغت بكم السفالة إلى هذا الحد؟ دا لو بلدكم دى لها شئ تفتخر بيه يبقى أنها أنجبت نجيب سرور، أنتم اللى زيكم العشرة بقرش لكن نجيب سرور هو واحد فقط…. وولعت الدنيا وتدخل المحامى للتهدئة.
توضح شهادة الكاتب والمناضل اليساري سيد كراوية مدى التطابق في رحلة الأب نجيب والابن شهدي الأول ظل مطاردا في حياته بتهمة الجنون ومن قبل هذه التهمة كانت تلاحقه تهم أخرى اقلها عداؤه لنظام عبد الناصر أو قل كل الأنظمة فظل مطاردا طوال حياته، تبعه شهدي ابنه والذي اختار الغربة منذ عام ٢٠٠٢، عندما واجه حكمًا بالحبس لمدة سنة، لإدانته ببث «مواد منافية للآداب» على موقع أنشأه لذلك خصيصا على شبكة الإنترنت، تمثل في القصيدة الشهيرة التى كتبها الشاعر الأب والمعروفة باسم «الأميات»، وكتبت للتعبير عن إحباط جيل الستينيات ويأسه إثر هزيمة 1967، سافر الابن بعدها إلى الهند ليعيش مع والدته الروسية ساشا كورساكوف، لم تكن الغربة وحدها التى طاردت نجيب سرور ومن ثم ابنه شهدي، الذي طارده مرض السرطان الذى رحل بعد معاناته منه بإحدي مستشفيات الهند، ليموت غريبا.
«يا بني بحق التراب وبحق نهر النيل، لو جعت زيي، ولو شنقوك ما تلعن مصر، اكره واكره واكره بس حب النيل، وحب مصر اللي فيها مبدأ الدنيا، دي مصر يا شهدي في الجغرافيا ما لها مثيل».
هذه هي الوصية الأخيرة شعرا ونثرا جاءت على لسان نجيب لابنه شهدي الذى لاقى نفس مصير ابيه من المطاردة، وكانه يوصينا جميعا بمحبة أم الدنيا.