طوال عمره جالس خلف مكتبه وأمامه الورقة البيضاء، فإن خلا المكان من الناس وصمت رنين الهاتف وضجيج الشارع، انحني على الأوراق والشخصيات والمعالجات وكتب التاريخ، يبحث عن شخصية تستحق أن تُعرض، أو ينشيء شخصية جديدة ويُلبسها ثوبا تاريخيا، أو يصنفر شخصية قائمة، أو يعدل مسار أخري، أو يخفي تاريخا سريا لها.
وعندما يشعر بالإرهاق، يجلس على مقعد آخر وينظر إلى السماء، ويبدأ في نسخ حكاية أخري أكثر قوة وأشد متانة، بعدها ينهض ويفرش الأوراق أمامه، لتصبح الحكاية ممددة على الأرض، يطل هنا وهناك باحثاً عن نقاط الضعف فيقوم بحذفها وإعادة صياغتها، وبين كل حركة وكلمة ونقطة يضعها، تضطرب الحكاية وتتحرك الشخصية، وبين كل اضطراب وآخر يتطلع إلى السماء طالباً عونها، فتمده بالصبر والشجاعة والأفكار.
بعدها – يزيح كل ذلك – ثم يبسمل ويوحد الله ويشكره على مدده، ثم يبدأ سرد حكايته وتحرك شخصياته. فتهتاج شواطئ السطور وترقص الأوراق، معلنة عن ميلاد قصة أو مسرحية أو مسلسل تليفزيوني أو إذاعي، أوفيلم سينمائي..
هكذا كان الكاتب الكبير الراحل محفوظ عبد الرحمن. ابن بلد وشهما وصابرا مثل جده أيوب. يحمل على كتفه الهم والألم العربي، يرى ما لا نراه، ويعرف أن التاريخ والتراث العربي هو مصدر طاقته وسنده، ويعلم أن من يقرأ يرى أكثر من الخاملين والجالسين في الغرف المكيفة، يسرقون الأفكار بكل بساطة ويسر.
صادق، حكيم، هادي، بسيط، يكره الخداع والخبث والنميمة، يعشق الجبال والمعارك والغزوات التاريخية، يحب التاريخ ويعيش بين ثناياه ويتابع معاركه، مصمم على أن يصل بشخصياته إلى أبسط الناس وفي كل مكان، مهموم بشخصية الإنسان العربي، وبمزاجها وعقليتها وتاريخها العظيم، وحزين ومهموم على ما وصلت إليه من اضمحلال وتفاهة وإتكال على الأمم والعقليات الأخري.
قادر بمسلسلاته على اختراق العقلية العربية لإعادة التوازن النفسي لها، وهذا دليل واضح على أنه فهم تاريخنا جيدًا وقرأه وأخرج ما به من دروس وعبر، لذا تظل في وجداناتنا وذاكراتنا تلك الأعمال الخالدة والتى لم تغادرنا مثل: مسلسلات (سليمان الحلبي) و (ليلة سقوط غرناطة) و (بوابة الحلواني)، وبالطبع مسلسل (أم كلثوم) الذي اقتحم المنازل العربية في كل مكان على أرض الوطن العربي الكبير.
أسطى الدراما
يظل محفوظ عبد الرحمن واحدًا من أمهر أسطوات الكتابة الدرامية، يعرف كيف يصنع خليطا متوازنا من المشاعر الإنسانية والتوتر الدرامي والحكاية التاريخية، وعناصر الجذب الفني، غير أنه يتميز أيضا بالحرص الشديد علي الأخلاق والقيم المصرية في كل ما يكتب.
وإذا كان – محفوظ – عاشقًا للدراما التليفزيونية، وأسطي كبيرا، ومُعلما له غزواته التليفزيونية الناجحة، فإنه ظل ضيفا عابرا على السينما، ولذلك لم يقدم طوال تاريخه إلا ثلاثة أفلام تظل علامات كبيرة في تاريخ السينما العربية، وهي (القادسية) من إخراج العظيم صلاح أبوسيف، و(ناصر 56) من إخراج محمد فاضل، و(حليم) من إخراج شريف عرفة، وأذكر أننى التقيت به أثناء العرض الخاص لـ «ناصر 56» في سينما التحرير في منتصف التسعينيات هو والمخرج محمد فاضل والراحل العبقري أحمد زكي، كانت قاعة السينما مكتظة، وعندما جاء المشهد الذي تقوم به الفنانة (أمينة رزق) بمقابلة ناصر وتقول له: إنه يوجد لديها ثأر قديم، ولم تأخذ هي وأجدادها العزاء فيه، وإنهم اليوم فقط سيأخذون العزاء احتفاء بقرار تأميم القناة، ضجت السينما بالتصفيق والبكاء الحار من أغلب من شاهدوا العرض.
فى رحاب القصة القصيرة
كانت القصة القصيرة هي العشق الأول لمحفوظ عبد الرحمن، وحبه القديم المختبيء في كهوف صدره، ولكن تركه لها كان مبرراً، وأستطيع أن أقول إنه لم يتركها نهائيًا، ولكن لو دققنا النظر في أعماله التليفزيونية والمسرحية، سنكتشف القصة القصيرة مباشرة، كنمط وشكل في الكتابة يساعده في إنجاز مشاهد مسلسله أو فصول مسرحياته، ويرجع حبه لها، أنه بدأ حياته الإبداعية بها، ولا يمكن أن ننسي مجموعته القصصية الأولى «البحث عن المجهول» 1967 والثانية «أربعة فصول شتاء» عام 1984، كما لا يمكن أن ننسي روايته الأولى «اليوم الثامن» التى نشرت 1972 بمجلة الإذاعة والتليفزيون، ورواية «نداء المعصومة» التى نشرت عام 2000 بجريدة الجمهورية.
وبنفس العشق والشغف لكتابه القصة القصيرة، يأتي حبه للإذاعة، فقد كتب لها كثيرًا، ولأنه يعي أن الكتابة الإذاعية تحتاج إلى عناية خاصة مثلها مثل القصة القصيرة، وقد كان عبد الرحمن مشغولا بالدراما التليفزيونية فقد تراجع الشغف للكتابة الإذاعية وانحسر بداخله.
لكنني أحب أن أتذكر هنا – وأنا تربيتي تربية إذاعية – أن زوجة الأستاذ الكبير محفوظ عبد الرحمن الفنانة القديرة سميرة عبد العزيز، هي إحدي نجمات الإذاعة المصرية، ولا يمكن لأحد أن ينسي نبرة وعمق صوتها وهي تتحدث في برنامج «قال الفيلسوف»، وكان محفوظ مثل زوجته يعشق الإذاعة، لكنها ظلت عشقا صامتا بالنسبة له، لا يستطيع أن يبوح به أمام جبروت شاشة التليفزيون.
الفنانة سميرة عبد العزيز والسيناريست محفوظ عبد الرحمن
عاشق التاريخ
ولأن محفوظ عبد الرحمن عاشق للتاريخ ومتعبد في محرابه وواحد من رهبانه، فقد افتتح مسيرته للدراما العربية، بتقديمه لرواية «العودة إلى المنفى» للأستاذ الكبير أبو المعاطي أبو النجا، والتى تعتبر من أفضل مائة رواية عربية، و تدور عن المناضل «عبد الله النديم».
ويعتبر عبد الرحمن من أوائل المؤسسين لكتابة المسلسل التاريخي في الدراما العربية، فقد كتب أول مسلسل تاريخي عن (سليمان الحلبي) عام 1975، وكان مسلسلاً مهماً، ثم تلاه بمسلسل عن (عنترة)، كما كتب المسلسل الهام جدا في تاريخ الدراما العربية (ليلة سقوط غرناطة) عام 1981،وتناول فيه الليلة الأخيرة في مدينة غرناطة قبل سقوطها أو قبل تسليمها إلى أيدي الأسبان، ويأتي مسلسله المميز (الكتابة على لحم يحترق) والذي تناول فيه موضوعا هاما جدا وهو: مواجهة العالم العربي للحلف المغولي، وبالطبع لا نستطيع أن ننسي مسلسله الذي جاء نقلة درامية بأجزائه وحلقاته (بوابة الحلواني) وهو أحد المسلسلات المحببة إلى الجمهور العربى فى كل بقعة على الأرض العربية.
والمدهش إنه في جميع أعمال محفوظ عبد الرحمن، تشعر إنه يصرخ فينا منبها ويقول: إن العقل العربي يتعرض لتجريف ثقافي. لذا كان يؤمن بمشروعه الذي كان يحلم به، كتابة أعمال درامية ومسلسلات عن الشخصيات العربية التاريخية التى أثّرت في تاريخنا وتكويننا كأمة، وهو هنا يريد أن يضغط على الكتاب المدرسي بمحدوديته كي يُخرج من بين سطوره العجفاء الباردة إلى عقل المشاهد العربي، شخصيات أثّرت وعاشت وناضلت من أجل حرية الأمة العربية وعروبتها وإسلامها وهويتها على امتداد تاريخها الطويل، ولن يتم ذلك إلا إذا قرأنا ووعينا وفهمنا تاريخنا.
وأجمل ما في مسلسلاته أنه يكتبها على لسان شخصياته، وكيف كانت تري عصرها وردود أفعالها، وبالتالي تأثيراتها في التاريخ، وليس على لسانه هو- ككاتب، أي أنه لم يقدم الشخصية من وجهة نظره هو، سواء أكان يحبها أويتعاطف معها أو يكرهها وينكر حقها التاريخي، وهذا أحد أسباب نجاحه ووصول أعماله لجميع الناس، فهو مؤرخ وليس حكما تاريخيا على الشخصية.
ومن المؤكد أن هناك أعمالا قد شعرنا فيها برأيه لأنه يحبها ويعشقها،وربما تكون الشخصية بكاريزمتها التاريخية هي التى فعلت فيه ذلك ولم يكن له من مفر. وإذا كان هذا في بعض الأحيان اتهاما له، فهنا يأتي دوره ككاتب، وما له من خيال يعوض به الفراغات الناقصة في سيرة الشخصية التاريخية، أوالتناقضات التى يجدها عندما يبحث في كتب التاريخ، وهو هنا له مطلق الحرية في استخدام خياله لإكمال الناقص ومعالجة المشوه منها، وقد كان يقول دائماً: «إن المسلسل هو في الحقيقة مزيج من وقائع تاريخية ووقائع خيالية، وهذه هي الوصفة للدراما التاريخية، والدراما التاريخية هي هكذا منذ بدأت وحتى الآن، وحتى المعلومات التاريخية أنت تعيد تخيلها وتكتبها بأسلوب جديد، فالدراما فن جاذب، والناس تحب مشاهدة الدراما لأنها غنية بالفواجع والمتناقضات والهبوطات التراجيدية، لذا فبهذا الحس جعل كل عمل يقدمه متفردا ومتميزا وله صوته الخاص».
تجارب ثرية
أما المسرح فهو لا يقل تميزاً عن الدراما في مسيرة محفوظ عبدالرحمن الإبداعية، ويشكل إغواءً للمخرجين في مصر والعالم العربي، ومن أعماله المسرحية التي لا يمكن أن تُنسى مسرحيات: ما أجملنا، وكوكب الفئران، و حفل على الخازوق، وبلقيس، وعريس لبنت السلطان، والسلطان يلهو، غير أن حظ هذه المسرحيات في التسجيل التليفزيوني كان عاثراً.
وتظل تجربة محفوظ الثرية في الكويت، علامة مهمة من علاماته، كونه صاحب أول مسرحية للطفل فى الكويت بعنوان «السندباد البحري» عام 1978، والتي شهدت تعاونه مع الراحل منصور المنصور والفنان عبدالرحمن العقل، والتى كانت احدي اغانيها تقول: بلادكم حلوة بس الوطن ماله مثيل..
وفي الختام- وفي ذكري رحيله الثانية التى وافقت التاسع عشر من أغسطس الجاري نضع تلك الكلمات كوردة على قبره، ونحن ندعو له بالمغفرة والرحمة، ونشكره على البهجة والمتعة التي ملأت قلوبنا بإمتداد وطننا العربي الكبير.