كان الحجاج المسلمون في بلاد الشام وهضبة الأناضول يلقون صعوبات كثيرة أثناء تأديتهم فريضة الحج لأسباب عدة من بينها طول المسافة، حيث كان طريق الحج العراقي يقترب من (1300) كم، وتستغرق الرحلة فيه شهرًا كاملاً، وطريق الحج الشامي يمتد (1302) كم، وتستغرق الرحلة فيه أربعين يوما. أما حجاج المناطق النائية من العالم الإسلامي فكانت رحلتهم تستغرق ستة عشر شهرًا وأكثر؛ وهو ما جعل كثيرين يتقاعسون عن أداء الحج، لطول المسافة ومشاق السفر، وندرة المياه، وغارات البدو وقتلهم لبعض الحجاج وسلب أموالهم، فنحو 20 % من الحجيج كانوا يلاقون حتفهم في الطريق.
في عام 1864 تم اقتراح مد خط سكة حديد من دمشق إلى الحجاز للتخفيف من معاناة الحجيج، إلا أن الفكرة لم تدخل حيز التنفيذ إلا في عام 1900 في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، ولأسباب أبعد من قضية الحج، منها ما كان يتيحه هذا الخط الجديد من سرعة نقل الجنود العثمانيين إلى قلب الأراضي العربية التي كانت تتعرض لمطامع القوى العظمي (انجلترا، وفرنسا) من ناحية، وتتعالى فيها صيحات ودعوات القومية العربية والانفصال الكلي عن الدولة العثمانية من ناحية أخرى.
فقد قدر المستشار العسكري الألماني الوقت الذي يستغرقه نقل الجنود الأتراك من القسطنطينية إلى مكة بنحو 120 ساعة فقط، وهو ما كان يعني نقلة نوعية في الصراع ما بين العثمانيين ومنافسيهم من البريطانيين والفرنسيين في الهيمنة على العالم العربي.
حملة تبرعات
كان السلطان العثماني حينها يهيمن على مساحة من الأرض تمتد من البوسنة والهرسك إلى البحر الأسود، ومن البصرة إلى بيروت، ويحلم بربط العالم الإسلامي بشبكة من السكك الحديدية، وإذا كان الإنشاء سيمتد من دمشق إلى المدينة المنورة، فقد كانت الخطة تقتضي أن يمتد في مرحلة ثانية شمالا إلى القسطنطينية وجنوبا إلى مكة ذاتها
مثلت عملية تمويل مشروع إنشاء سكة حديد الحجاز التحدي الأكبر الذي واجه العثمانيين، في وقت كانت فيه الدولة العثمانية مستنزفة من حروب القرم المتواصلة، لكن حملة تعبئة ودعاية للمشروع استفزت المشاعر الدينية للمسلمين حلت المشكلة، فعلى الرغم من الدوافع العسكرية والاقتصادية للمشروع العثماني، إلا أنه قُدم باعتباره مشروعًا إسلاميًا وحدويًا يربط أوصال العالم الإسلامي، وينهي مشكلات حجيج بيت الله الحرام.
بدأت التبرعات وافتتح السلطان العثماني حملة التبرعات بمبلغ 50 ألف قطعة ذهب عثماني من أمواله الخاصة، بالإضافة إلى 100 ألف قطعة ذهب عثماني من صندوق المنافع، تبعه بعد ذلك شاه العجم، الذي تبرع بـ50 ألف ليرة ذهبية بالاكتتاب، ثم خلفه خديوي مصر الذي تعهد بتقديم كل المستلزمات اللازمة لإقامة المشروع.
وطُبعت أوراق تذكارية من شهادات تكريم وطوابع، وكانت هناك أيضاً ميداليات للمتبرعين ونياشين وأوسمة وألقاب، واقتُطعت بضع ليرات من مرتبات الموظفين العاملين بالدولة العثمانية كمساهمة منهم في المشروع، وتوافدت الأموال من إيران والسودان والجزائر والهند، إلى جانب مصر، التي تشكلت بها لجنة الدعاية لمشروع سكة حديد الحجاز برئاسة أحمد باشا المنشاوي. كما أسهمت الصحف المصرية -مثل جريدتي «اللواء» و»المؤيد»- في عملية الدعاية.
أحمد باشا المنشاوي
نجحت الحملة في تحقيق أهدافها، وكُلف المهندس المدني الألماني (هاينرش أوگوست مايسنر پاشا) بالإشراف على الإنشاء، وحاز على دعم كبير من الامبراطورية الألمانية، الحليف التقليدي للعثمانيين.
منذ البداية لم يكن الانجليز بأقل وعيا بالهدف الذي يسعى العثمانيون من ورائه لإنشاء خط سكة حديد دمشق الحجاز، فنجاح المشروع يعني نجاح الأتراك في إحكام قبضتهم على ملكهم المترامي الأطراف ،ومن ثم فقد ظلت عملية الإنشاء عرضة لهجوم العديد من قبائل البادية المدعومة من الانجليز.
ورغم أنها لم تكن هجمات ناجحة، إلا أن الأتراك لم يكونوا قادرين على السيطرة على المناطق الواقعة بعيدا عن معسكراتهم ومناطق نفوذهم.
من دمشق إلى مكة
كانت تكلفة إنشاء خطوط السكة الحديد التى ربطت بين اسطنبول والحجاز باهظة حيث بلغت في الفترة من 1900 – 1908 نحو (3,919,696) ثلاثة ملايين وتسعمائة وتسعة عشر ألفًا، وستمائة وستة وتسعين ليرة عثمانية، وقد بلغت أطوال الخطوط نحو (1464) ألف وأربعمائة و أربعة وستين كيلومترا، ثم أنشئت خطوط فرعية امتدت بين بيروت ودمشق، وحمص، وحيفا، والقدس؛ بالإضافة إلى خطوط رياق وحلب، وبذلك تم الربط بين العاصمة إسطنبول وبين الحجاز، وبين ولايات الدولة العثمانية في منطقة الشام.
رغم التكلفة الضخمة إلا أن نجاح المشروع كان يحمل رمزية لبعث حيوية وقوة الخلافة العثمانية المريضة من جديد، وقد أثار ذلك فزع السياسيين الغربيين الذين باتوا يتحدثون عن حركة وصحوة للعالم الإسلامي في مواجهة الأطماع الاستعمارية للدول الأوروربية.
وفي الثاني والعشرين من أغسطس عام 1908 أطلقت الدولة العثمانية أول رحلة من دمشق إلى مكة المكرمة، واستمر قطار الحجاز يعمل بين دمشق والمدينة المنورة قرابة 9 سنوات، نقل خلالها الآلاف من الحجاج والتجار.
إلا أن صافرة ذلك القطار كانت كأنما تدوي إعلانا بسقوط الخلافة العثمانية ذاتها، ففي السابع والعشرين من أبريل من العام التالي 1909 أزيح السلطان عبدالحميد من كرسي الخلافة.
رمز لم يستمر
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى ازدادت أهمية قطار دمشق الحجاز بعدما بدأ الجيش التركي استخدامه لأغراض عسكرية، ثم جاءت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين أمير مكة ضد العثمانيين 1916، واعتبرت بريطانيا وحلفاؤها من العرب سكة حديد الحجاز هدفاً عسكرياً يعمل ضد مصالحهم؛ وأدى ذلك إلى مهاجمة الضابط الإنجليزي «تي إي لورانس» الشهير بـ «لورانس العرب» في عام 1917، خط السكة الحديدية جنبًاً إلى جنب مع جنود الثورة العربية الكبرى.
الشريف حسين
ومن جديد قطعت أوصال العالم العربي والإسلامي بعدما خٌدع الشريف حسين من قِبَل أصحاب اتفاقية سايكس- بيكو التي جرت سرا، وحيث تقاسمت فرنسا وبريطانيا بلاد الشام فيما بينهما، ومن حينها، توقفت صافرة قطار الحجاز عن الكلام.
وبعد مضي قرابة قرن لتوقف قطار دمشق الحجاز، ورغم ما أحيط به من دوافع دينية مؤثرة في الوجدان الإسلامي، الإ أنه لم يكن سوى مشروع اقتصادي وعسكري لتمكين السلطنة التركية من تعزيز نفوذها وسلطتها على المناطق التابعة لها في العالم العربي، وفي اطار صراعها مع القوى الغربية.
أحد الجسور الباقية لحظة عبور القطار.
إحدى القاطرات المستخدمة مع بدايات الخط الحجازي، حالياً محفوظة في محطة المدينة.
تم بناء مبنى محطة حيدر باشا القائم حالياً في إسطنبول سنة 1909م لتكون المحطة الرئيسية الغربية لكل من سكة حديد بغداد وسكة حديد الحجاز.
جانب من أعمال إنشاء خط سكة حديد الحجاز، حوالي سنة 1905م.
جسر المجامع على نهر اليرموك بعد تعرضه لهجوم منظمة البلماخ الصهيونية سنة 1946م.
خريطة تبين مسار سكة حديد بغداد ويتضح الربط بينها وبين سكة حديد الحجاز.
رصيف محطة سكة حديد الحجاز في حيفا سنة 1905م.
عربة قطار تقع خارج محطة مدائن صالح منذ تدمير الخط.
قاطرة سكة الحجاز بالمدينة المنورة في العشرينات الهجرية (1)
قطار لشحن الفوسفات بالقرب من معان يستخدم الخط الحجازي.
محطة الحجاز بدمشق
محطة عمّان.
محطة مدائن صالح سنة 1909م، ويظهر بها عدد من المسافرين.
من حفل افتتاح الخط سنة 1908م في محطة المدينة المنورة المعروفة كذلك بـ «الأستسيون» ويظهر مسجد العنبرية.
وسام خط حديد الحجاز الحميدي سنة 1318 هـ الموافق 1900م.
وسام آخر خاص بالمشروع تم في سنة 1322 هـ الموافق 1904م.