آلان كوبرمان – أستاذ السياسة الدولية -جامعة تكساس
ترجمة: أحمد بركات
كان قرار التدخل العسكري في ليبيا في عام 2011، الذي وافقت عليه الأمم المتحدة، وقادته الولايات المتحدة وبعض حلفائها في حلف الناتو، محل انتقاد لاذع لسببين رئيسيين؛ أولهما: أنه تم تبريره على أسس غير سليمة تتمثل في قيام الرئيس الليبي آنذاك، معمر القذافي، بقتل المدنيين، وثانيهما، أن الهدف الذي أعلنته القوات الدولية هو تغيير النظام ووقف المذابح التي ترتكبها قواته. ومن ثم، فقد فشلت هذه القوى في تنفيذ مهمتها الإنسانية المعلنة، حيث زادت حصيلة القتلى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل التدخل، على أقل تقدير، وتجذرت حالة الفوضى التي لا تزال تعاني منها ليبيا حتى يومنا هذا. أما السبب الأهم على الإطلاق، والذي ظل قيد الخفاء، فيتمثل في أن هذا التدخل قدم في واقع الأمر قبلة الحياة لحركة تمرد قادها مسلحو «تنظيم القاعدة»،وليس ليبراليون موالون للغرب كما أعلن في حينه.
سردية كاذبة
إن ما حدث يناقض بشكل كامل السردية التي رددها الإعلام الغربي في عام 2011، والتي زعمت أن الاضطرابات التي اجتاحت ليبيا قد بدأت باحتجاجات سلمية ضد اعتقال أحد المحامين الحقوقيين. زعمت الآلة الإعلامية أيضا أن النظام استخدم قوة قاتلة لقمع التظاهرات السلمية، مما دفع بالمتظاهرين إلى حمل السلاح دفاعا عن أنفسهم. وتمكن هؤلاء المحتجون ’الهواة‘ بعد ذلك من السيطرة على الجزء الشرقي من البلاد خلال أيام، مما دفع القذافي إلى نشر قواته وارتكاب مذابح لم يوقفها إلا هذا التدخل.
كان الجزء الغامض يتعلق بحقيقة مَن أطلق هذه الاحتجاجات في الجزء الشرقي من البلاد، أو – بعبارة أدق – بحقيقة المسلحين الذين أنقذتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها من الهزيمة ومكنتهم من الإطاحة بالقذافي. كانت الرواية الرسمية تؤكد أن محامين حقوقيين حاولوا التصدي بتلقائية لبطش النظام فقاموا بجمع الأسلحة على نحو ما وبسطوا سيطرتهم على نصف البلاد في أسبوع واحد. لكن الحقيقة كانت أكثر منطقية؛ فقد قام خبراء حرب محترفون يتمتعون بخبرات قتالية عالية اكتسبوها من المعارك التي خاضوها في أفغانستان والعراق وليبيا بقيادة هذا التمرد. ومن ثم، فقد ذهبت الولايات المتحدة وحلفاؤها، عن جهل بهذه الحقيقة في هذا الوقت، لدعم «تنظيم القاعدة».
على مدى ثماني سنوات بقيت هذه الرواية قيد التعتيم والحجب لأهداف تضليلية. كانت عملية الخداع موجهة في البداية من المعارضة الليبية غير الإسلاموية بغرض حث القوات الأجنبية على التدخل والإطاحة بنظام القذافي تحت ستار قيامه بارتكاب مذابح ضد المدنيين. أما الطرف المخدوع في هذه المرحلة الأولية فكان وسائل الإعلام الإخبارية العالمية، ثم لحقها السياسيون الغربيون الذين دفعوا باتجاه هذا التدخل. في هذه الأثناء، امتنع المسلحون الإسلاميون عن الكشف عن علاقتهم بتنظيم القاعدة للاستفادة من الدعم الجوي الذي تقدمه هذه القوات، إضافة إلى الأسلحة والتدريبات.
وبعد سنوات من البحث، تمكنت من كشف هذا الغموض، وكانت البداية بمصدر غير تقليدي، وهو ’فيديوهات اليوتيوب‘. ربما من غير المستغرب أن يقوم بعض المتمردين في عصر الهواتف الذكية بتصوير بعض مآثرهم في مقاطع فيديو ورفعها – في الغالب – بصورة متزامنة. تجاهل المحللون الغربيون هذا الدليل لأنه لم يكن تقليديا، فضلا عن عوائق اللغة وتناقضه مع الذوق العام المتعارف عليه في البحث العلمي. لكن هذه المقاطع المصورة قدمت تاريخا بديلا، وقد تمكنت من إثباته عن طريق المقابلات وبعض أجزاء التقارير التي نُشرت آنذاك، والتي ضاعت في سيل الرواية التقليدية.
تكشف هذه الأدلة أن الإسلاميين خططوا لانطلاق الثورة قبل اندلاع أي احتجاجات سلمية ثم استخدموا تكتيك ’كرة الثلج‘ مستهدفين بصورة متدرجة سلسلة من المنشآت الأمنية الهامة عن طريق الحصول على سلاح من منشأة صغيرة للاستفادة منه في السيطرة على المنشأة التالية. وفي كثير من هذه المنشآت جاءت الهزيمة بسبب انشقاقات في صفوف القوات الأمنية بدوافع الخوف أو التعاطف، وهو ما شكل دعما قويا للمتمردين في هجومهم التالي. بدأ المسلحون بمهاجمة أقسام الشرطة بالحجارة والقنابل الحارقة للحصول على أسلحة نارية، ثم استخدام هذه الأسلحة ضد قوات الأمن المحلية للحصول على أسلحة ذات عيار أعلى، ثم استخدامها لمهاجمة الثكنات العسكرية للحصول على أسلحة ثقيلة ومدرعات، قاموا بنشرها للسيطرة على أكبر موقع عسكري في شرق ليبيا وأربع قواعد جوية في غضون أسبوع واحد من 15 إلى 21 فبراير 2011.
ما بين بنغازي ودرنة
حدد الإسلاميون توقيت تمردهم ليتزامن مع احتجاجات «يوم الغضب» السلمية في 17 فبراير 2011، التي تم الترتيب لها على الإنترنت على مدى أسابيع عن طريق مغتربين ليبيين مقيمين في أوربا استلهموها من ثورات الربيع العربي في تونس ومصر. في هذه الأثناء، حاول نظام القذافي استباق الاحتجاجات السلمية بإلقاء القبض على أحد المنظمين (فتحي تربل) في بنغازي في 15 فبراير، وهو ما أدى إلى تأجيج الغضب الشعبي، وإشعال فتيل مناوشات استباقية في أوساط كل من السلميين والمسلحين في الليلة ذاتها.
فتحي تربل
في البداية، انصرف تركيز وسائل الإعلام العالمية إلى بنغازي، حيث وقعت أكبر احتجاجات سلمية. لكن الأحداث الأكثر أهمية كانت تجتاح في واقع الأمر مدينتين صغيرتين في شرق ليبيا، وهما درنة والبياضة، حيث تمثل كل منهما معقلا للإسلام المتشدد. في درنة، المركز التاريخي للجهاديين الليبيين، «كانت الخطط معدة مسبقا من 14 فبراير لمهاجمة المؤسسات الأمنية»، كما أعلن ياسر بن حليم، أحد الرموز الجهادية التي شاركت في التخطيط للتمرد في درنة قبل أن يقاتل منطلقا باتجاه العاصمة ليصبح في النهاية رئيس قوات حماية «المجلس العسكري بطرابلس» بعد انتهاء الحرب.
ياسر بن حليم
وحتى في بنغازي، لجأ بعض المحتجين إلى العنف من البداية، مما أثار تصعيدا مع القوات الحكومية صاحبه فشل في الحصول على ما يكفي من الأسلحة للسيطرة على القاعدة العسكرية بالمدينة، وهي «كتيبة الفضيل بو عمر»، التي تعد القاعدة العسكرية الأكبر في شرق البلاد. وفي ليلتي 15 و16 فبراير، أمطر هؤلاء المتظاهرون قوات النظام ومقر اللجنة الثورية في بنغازي بالقنابل الحارقة والحجارة، وأشعلوا النيران في السيارات.
كتيبة الفضيل بو عمر
وفي مواجهة هذا الشغب لجأت الشرطة في البداية إلى استخدام الرصاص المطاطي ومدافع الماء، وهو ما تسبب في وقوع أغلب الضحايا، (البالغ عددهم 38) من قوات الشرطة. ترجع سياسة ضبط النفس التي اتبعها نظام القذافى في بداية اشتعال الأحداث إلى توافق كبار قادته على «إننا نحتاج إلى التعامل مع الأحداث دون استخدام القوة»، كما صرح مصطفى عبد الجليل، وزير العدل الليبي آنذاك قبل انشقاقه لقيادة المعارضة السياسية. كما أكد قائد ليبي في وقت لاحق لمحققي الأمم المتحدة أنه «بعد حصول المتظاهرين على سلاح بدأت قوات النظام تستخدم الذخيرة الحية».
وفي 17 فبراير، هاجم المتظاهرون في بنغازي مزيدا من أقسام الشرطة والمنشآت الأمنية ومقار اللجنة الثورية، وقاموا بحرقها. كما قاموا بالاستيلاء على بنادق كلاشنكوف وبعض الأسلحة الثقيلة من قاعدة عسكرية في حي الرحبة في بنغازي، ثم دشنوا أول هجوم غير ناجح على قاعدة «الكتيبة» في وسط بنغازي. في مقابل ذلك، استخدمت القوات الحكومية في بنغازي في ذلك اليوم لأول مرة الذخيرة الحية بهدف إصابة، وليس قتل، المتظاهرين، وفقا لرواية أحد الأطباء الفرنسيين كان يعمل في مستشفى المدينة. وفي يوم 18 فبراير، قام المحتجون بحرق جميع أقسام الشرطة في بنغازي وأضرموا النيران في مبنيين للأمن الداخلي مما أدى إلى إطلاق سراح المسجونين والاستيلاء على مزيد من الأسلحة والذخيرة. ولجأ ضباط الشرطة إلى مقر قيادة الأمن العام في بنغازي للاحتماء بها، فقام المسلحون بمهاجمتهم مرة ثانية وأشعلوا النيران في المبنى.
في أعقاب ذلك، أرسل القذافي قوات إضافية لتعزيز موقع «الكتيبة» العسكري، واستخدمت تلك القوات القوة القاتلة ضد المهاجمين، وأصابت أيضا بعض المحتجين غير المسلحين. ووفقا لأحد الأطباء، فقد استخدم المسلحون معدات بناء في محاولاتهم لاختراق جدران القاعدة، و«وجعل الشباب من أنفسهم دروعا بشرية لسائقي ’البلدوزرات‘». وبرر الساعدي القذافي، الذي كان داخل القاعدة آنذاك، استخدام القوة من قبل النظام قائلا: «عندما رأينا هؤلاء الشباب مدججين بالسلاح، وعازمين على مهاجمة القاعدة العسكرية، وشرعوا في قتل الجنود، لم يكن أمام الجنود سوى الدفاع عن أنفسهم بأية وسيلة». وعلى النقيض، عندما قامت قوات الأمن بمواجهة محتجين غير مسلحين في المحكمة الرئيسية في يوم 18 فبراير، لم تستخدم سوى القنابل المسيلة للدموع. لم يستمر نظام القذافي بعد هذه الاحتجاجات العنيفة والسلمية في بنغازي سوى خمسة أيام كانت كافية لوصول إسلاميين أكثر تسليحا من الشرق.
معقل الإسلاميين
عُرفت مدينة درنة (شرق ليبيا) منذ زمن بعيد بأنها معقل الإسلاميين المسلحين. ففي منتصف تسعينيات القرن الماضي مثلت هذه المدينة عاصمة «الجماعة الليبية المقاتلة»، التي شكلت أكبر تهديد ضد نظام القذافي. وبعد ذلك بسنوات، تحولت إلى المصدر الأهم لتنظيم القاعدة لاستجلاب مقاتلين أجانب إلى العراق. لذا، فإنه ليس من المستغرب أن تكون درنة المصدر الأول في عام 2011 لتزويد المتمردين بالسلاح في مواجهة النظام.
في 16 فبراير – أي بعد أقل من يوم من اندلاع التظاهرات في بنغازي – «قام المسلحون الإسلاميون في درنة بمهاجمة مخزن سلاح تابع للجيش، حيث نجحوا في الاستيلاء على 250 قطعة سلاح، وقتل أربعة جنود، وجرح ستة عشر آخرين»، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية. وقد ساعد هؤلاء الجهاديين انشقاق أحد الضباط في الجيش الليبي، برتبة عقيد، الذي «انضم إليهم وأمدهم بقاذفة قنابل صاروخية وثلاثة مدافع مضادة للطائرات و70 بندقية كلاشنكوف»، وفقا لمسئول أمني ليبي.
وبعد يومين، وفي أعقاب صلاة الجمعة في يوم 18 فبراير، شن المسلحون الإسلاميون في درنة هجوما أكبر، حيث قاموا بمهاجمة الميناء واستولوا على 70 مركبة عسكرية، وأشعلوا النيران في مقر إدارة الأمن العام، وإدارة الأمن الداخلي، واللجنة الثورية. ومع فرار قوات الأمن، سيطر المسلحون على هذه المقار، والمدينة بأكملها. كما أسروا عددا من المسئولين، وحبسوهم في إحدى الزنازين قبل أن يضرموا النيران في المبنى. كان المهاجمون قد خططوا لهذا الهجوم في 14 فبراير، حتى قبل اندلاع احتجاجات بنغازي، بحسب بن حليم، الذي أضاف:
«كنا قد اتفقنا جميعا على أن ننطلق من المساجد، وهو ما قمنا بتنسيقه مع سكان الأحياء. لذلك، في يوم الجمعة [18 فبراير] انطلقنا بعد الصلاة مباشرة وتوجهنا إلى جميع إدارات الشرطة بالمدينة. وتمكنا من السيطرة عليها، وانضم إلينا عدد من أفراد الشرطة. استمر ذلك على مدى 4 ساعات، اتجهنا بعدها إلى البياضة، حيث يتمركز أحد الألوية العسكرية التابعة للقذافي الذي يحمل اسم «الجارح»، وتمكنا من هزيمته، وكانت هذه هي بداية المعركة الحقيقية».
أحد الرموز الجهادية الأخرى التي لعبت دورا فاعلا في ثورة درنة هو عبد الحكيم الحصادي. كان الحصادي – أحد أعضاء الجبهة الليبية المقاتلة – قد فر من تعقب الحكومة الليبية له في تسعينيات القرن الماضي، وانتهى به المطاف في أفغانستان في وقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ليهرب منها مجددا إلى باكستان قبل أن يعود أدراجه إلى ليبيا حيث ألقي القبض عليه. تم الإفراج عنه في عام 2007 كجزء من جهود المصالحة التي أطلقها سيف الإسلام القذافي، والتي أسفرت عن إطلاق سراح مئات من مقاتلي الجبهة في مقابل نبذ العنف، وهو ما لم يستمر طويلا. ففي 16 فبراير 2011، كما أكد أحد المراسلين الذي أجرى مقابلة مع الحصادي أن «تدريباته العسكرية كانت قد بدأت. وفي خلال اليومين التاليين، ساعد الحصادي المحتجين على تنظيم هجمات على منشآت عسكرية ومبان حكومية أخرى بالمدينة». وفي تقرير إخباري في يوم 20 فبراير، صرح مسئول حكومي أن هجمات درنة تتم تحت قيادة الإسلاميين الذين قاتلوا لحساب تنظيم القاعدة قبل إلقاء القبض عليهم ثم إطلاق سراحهم، والذين يطلقون على أنفسهم «إمارة برقة الإسلامية»، وهو الإسم الإسلامي التاريخي للجزء الشرقي من ليبيا.
(يتبع)