في مرحلة من مراحل حياته لجأ المسرحي والفيلسوف الوجودي الفرنسي الشهير «ألبير كامو» إلى الوعظ الديني، كان كل ما يشغله هو مساعدة البشر على تغيير أخلاقهم، وخصوصا أخلاقهم السياسية، لاقتناص حقوقهم وتغيير واقعهم. لكنه عاد ليعتمد على القواعد التاريخية والاجتماعية الثورية لتغيير الواقع، وبات يدعو إلى الأخلاق الثورية. فالبشر الذين لا يصنعون التاريخ هم في نهاية الأمر يتحملون أوزاره وعواقبه ونتائجه.
في هذا السياق تأتي مسرحيته «كاليجولا» والتي قدم فيها ألبير كامو سيرة الامبراطور الروماني المثير للجدل «كاليجولا»، وهو ثالث امبراطور روماني، وقد حكم في الفترة ما بين عامي 37 حتى اغتياله عام 41 ميلادية، وقد اشتهر بخليط من الجنون والسادية والوحشية والرغبة في الانتقام بسبب أو بدون إلى الحد الذي جعله أشهر نماذج الاستبداد السلطوي في التاريخ، وربما لم يضاهه في ذلك سوى نيرون الذي أحرق روما، والذي تربطه به صلات القربى.
لم تكن شخصية (كاليجولا) التي قدمها كامو محاولة لتخليد وتجسيد شخصية سادية، ولا لرصد لحظة دراماتيكية تختلط فيها الفكاهة والطرفة بالمأساة على نحو ما سيرد. وإنما كانت رصد حالة من حالات التردي الأخلاقي ما بين حاكم أصابه السأم والجنون، وطغمة من النخبة السياسية المنتفعة التي تمارس أبشع حالات النفاق السياسي في سبيل احتفاظها بامتيازاتها السياسية ومصالحهالاقتصادية. غير أن نفاقهم وخيانتهم لواجباتهم تجاه الامبراطورية سيودي بهم في النهاية للسقوط في براثن الحاكم الطاغية، والذي ستنتهي سطوته بأيدي عامة الشعب التي ستثور انتصارا لقيم الديمقراطية والقانون التى تأسست عليهما الامبراطورية الرومانية.
انحطاط فى بلاط القيصر
منذ بداية المسرحية يستعرض كامو التركيبة الأخلاقية لتلك الفئة التي تملأ بلاط القيصر الروماني في عدد من العبارات التي تكشف شخصياتهم.ففي تلك اللحظة التي يحتشد فيها النبلاء بحثا عن القيصر الشاب الحزين الهائم على وجهه في الحقول نتيجة فقدان أخته (دورزيلا)، التي كان يسعى للزواج منها على الرغم من مخالفة هذا لقوانين الامبراطورية، يرى أحدهم ضرورة أن يتوجهوا جميعا لتناول إفطارهم لأن في ذلك صالح الامبراطوية، حيث يقول:
«الامبراطورية الرومانية، هي نحن.. فإذا فقدنا ماء وجوهنا،تفقد الامبراطورية رأسها، والآن دعونا نتوجه لتناول طعام الافطار… وهذا سيكون لصالح الامبراطوية».
وفي السياق نفسه يعلق أحد هؤلاء النبلاء على علاقة القيصر غير الشرعية بأخته فيقول: «من أجل مصلحة الامبراطورية.. لا يجوز أن نترك سفاح القربى يتحول إلى مأساة، ليكن سفاح القربى محرما… لكن دعوه يعيش بيننا في الخفاء». هذه العبارة تكشف حجم الإنحطاط والعفن الذي أصاب الأخلاق السياسية لتلك النخبة التي باتت تميز في التشريع والأخلاق بين ما يخصها وما يخص الشعب، فالسرقة والاختلاس والسفاح والزنا أمور محرمة على عامة الشعب، لكنها مباحة لتلك النخبة فيما بينها، لأن ذلك سيصب في مصلحة الامبراطورية.
أصيب الحاكم الشاب الذي لم يتخط عقده الثالث –وهو نفس عمر الكاتب عند تأليفه للمسرحية تقريبا- بحالة من الجنون والسأم والضجر النفسي المصاحب لعبقرية فطرية- لم يعد معها يحتمل مزيدا من النفاق السياسي، وهو ما جعله يستشعر الرضا النفسي والمتعة الشخصية في إلحاق الأذى والإهانة لهؤلاء المنافقين الملتفين من حوله. فأشاع ذات مرة نبأ مرضه واحتضاره فبادرت نخبته – بالرغم من حقدهم وكراهيتهم له- بالاعلان عن تمنياتهم ودعائهم له بالشفاء واستعدادهم للتضحية من أجله. وبلغ التهور بأحدهم أن قال «فليأخذ بوسيدون- إله البحار عند اليونانين- روحي فداء لروحه»، بينما أعلن آخر عن هبته «مئة عملة ذهبية لخزانة الدولة إذا شفي القيصر كاليجولا». ليخرج كاليجولا بعدها من مخبئه ينبئهم ويبشرهم بأنه بخير ولم يمت، ويجبر من أعلن وعوده المتهورة علي الوفاء بما وعد، فأجبر أحدهم على دفع مئة عملة ذهبية، بينما سلب الآخر حياته معلنا عن إعجابه بهذا القدر من الوفاء والإخلاص.
كانت شخصية «كاليجولا» كما قدمها (كامو) شخصية فلسفية لم تكن تكرس للبقاء في السلطة، أو تحقيق مكاسب سياسية، بقدر ما هي محاولة للإجابة على سؤال متعلق بمفهوم الحرية وحدودها. فهذا الإمبراطور لم يدخر شيئا من السلطة التي خُولت له بفضل منصبه ـ إلا واستعمله ،حتى وصل به الأمر إلى محاولة تحدي قانون الطبيعة فيغضب لعدم قدرته على منح الحياة، وإن امتلك القدرة على سلبها من مواطنيه وكبار رجالاته، ويضجر لعدم قدرته على الإمساك بالقمر!
أدرك «كاليجولا» كما يقدمه «كامو»، أنه ليس إلها، ولأنه أدرك عجزه ومحدودية قدرته، فلم يخرق الأرض ولم يبلغ الجبال طولا، فقد قرر أن يضع النهاية وأن يختبر حدود قدرته في إذلال الشعب الذي يحكمه بإذلال هؤلاء الذين التفوا حوله لا يدخرون جهدا في نفاقه وممالئته.فنجده يقول: «كم أقاسي حينما أتصور تلك اللحظة التي تتحدث عنها، إلا أنني أحلم بها وأشاهدها في تلك الوجوه التي تنبثق من هذا الليل الكالح، وعلى هيئات الرجال التي تموج كراهية وإنذارا، وخلالها أرى صورة ذلك الإله الواحد الذي أخشع له على هذه الأرض».
ثم تأتي لحظة النهاية مع مؤامرة تجري في بلاطه يشترك فيها الشعراء والنبلاء، فيتناوب القتلة عليه بالطعنات من كل جانب، بينما هو ينظر إلى المرآة، بحسب المشهد الأخير من مسرحية ألبير كامو.
حصان كاليجولا
أما الأسطورة التاريخية التي جسدّت نهاية الطاغية «كاليجولا» فتقول إنه قرر ذات يوم أن يدخل مجلس الشيوخ ممتطيا صهوة جواده العزيز «تانتوس»، فلما أبدي أحد الأعضاء اعتراضه علي هذا السلوك قال له كاليجولا: «أنا لا أدري لما أبدي العضو المحترم ملاحظة علي دخول جوادي المحترم رغم أنه أكثر اهمية منه، فيكفي انه يحملني»!
وهتفت الحاشية تأييدا لأقوال القيصر فزاد في جنونه وأصدر قرارا بتعيين جواده العزيز عضوا في مجلس الشيوخ، ثم قرر إقامة احتفال بتعيين جواده المحترم عضوا في مجلس الشيوخ، وكان لابد علي أعضاء المجلس أن يحضروا الحفل بالملابس الرسمية، ويوم الحفل فوجئ الحاضرون بأن المأدبة لم يكن بها سوي التبن والشعير، فلما اندهشوا قال لهم «كاليجولا» إنه شرف عظيم لهم أن يأكلوا في صحائف ذهبية ما يأكله حصانه. وهكذا اذعن الحضور جميعا لرغبة الطاغية وأكلوا التبن والشعير، الا واحدا كان يدعي «براكوس» رفض فغضب عليه كاليجولا وقال له: «من أنت كي ترفض أن تأكل مما يأكل جوادي»، وأصدر قرارا بتنحيته من منصبه وتعيين حصانه بدلا منه، بالطبع هلل الحاضرون.
نهاية الطاغية
إلا أن «براكوس» ثار وصرخ في كاليجولا والأعضاء الحاضرين، معلنا الثأر لشرفه وصاح في اعضاء مجلس الشيوخ متسائلا: «إلي متى يا اشراف روما نظل خاضعين لجبروت كاليجولا »، ثم قذف حذاءه في وجه حصان كاليجولا صارخا: «يا اشراف روما افعلوا مثلي استردوا شرفكم المهان»، ليتحول الأمر إلى معركة بالأطباق وبكل شيء، وتجمع الأعضاء بما فيهم أعوان كاليجولا عليه حتى قتلوه. وعندما وصل الخبر الي عامة الشعب خرجوا إلى الشوارع في ثورة عارمة، لتنتهي بذلك أسطورة الحاكم الطاغية.