لورينزو زوكا – أستاذ القانون بجامعة كينجز كوليدج، لندن
عرض وترجمة: أحمد بركات
في 12 أبريل 1764، شهد مواطنو مدينة «ميلانو» الإيطالية عملية قتل وحشية بحق بارتولوميو لويسيتي على خلفية حكم بالإعدام صدر ضده جراء اتهامه باللواط. قُتل لويسيتي خنقا ثم حُرقت جثته على أحد الأعمدة بميدان عام أمام حشد من الناس.
في جميع أنحاء أوربا آنذاك، كان هناك اعتقاد سائد، روجت له دوائر النخبة الحاكمة بضرورة إنفاذ العدالة الجنائية على أعين الناس، وبأن العقاب الجنائي يجب أن يكون قاسيا لأن ذلك – في زعمهم – من شأنه أن يغرس مشاعر الخوف من الله في قلوب من يتابعون مشهد العقاب المريع.
تابع «سيزار بيكاريا» المشهد كسائر مواطنيه في هلع انخلع له قلبه، ولم يقنع بأن تكون هذه القسوة شكلا من أشكال العقاب الذي يجب أن يهدف إلى الإصلاح الأخلاقي والسلوكي. في هذا الوقت كان بيكاريا قد تجاوز بالكاد الخامسة والعشرين من عمره، لكنه كان قد كون العديد من الآراء الفلسفية والسياسية العميقة.
وُلد بيكاريا عام 1738 لأسرة أرستقراطية في مدينة ميلانو، وتلقى تعليمه في مناخ متشدد داخل مدرسة يسوعية في بارما، ثم تخصص في دراسة القانون في بافيا، حيث أتيحت له فرص الاطلاع على روائع الأدب العالمي، مثل كتاب Letters Persanes (رسائل فارسية) (1721)، وهي رواية رسائلية في نقد العادات والتقاليد الفارسية، للأديب الفرنسي مونتسكيو. دفعت هذه القراءات ببيكاريا إلى اقتحام عالم الفلسفة التنويرية دون أن يلوي على شيء، وكان المفكرون البريطانيون والفرنسيون هم النجوم الذين استرشد بهم في دروب عالمه الجديد، وانجذب بقوة نحو كتابات الفيلسوفين الفرنسيين كلود أدريان هلفتيوس ودينيس ديديرو، إضافة إلى الفلاسفة البريطانيين، مثل الاسكتلندي ديفيد هيوم والانجليزي جون لوك.
بيان بيكاريا
وفي عام 1759، صار بيكاريا عضوا فيما كان يطلق عليه «أكاديمية الاشتباك» (Academy of Fisticuffs) في ميلانو، والتي كانت تضم مجموعة من الشباب الأرستقراطي المتمرد ضد ظلم النخبة المحلية، بمن فيها عائلاتهم. حيث ارتأى هؤلاء الشباب أن مصالح الأقلية كانت تفوق بشكل منهجي مصالح الأكثرية، وأن القوانين يجري ’تفصيلها‘ لتضاعف من قوة وسلطة الطبقة الأرستقراطية.
تمخضت هذه ’الحركة‘ الإصلاحية الشابة عن ميلاد مجلة Il Caff (المقهى) التي عرض فيها أعضاء هذه الأكاديمية لأفكارهم الإصلاحية. وفي عام 1762، نشر الفيلسوف التنويري الفرنسي، جان جاك روسو سفره المهم The Social contract (العقد الاجتماعي)، الذي أمد بيكاريا بالإطار الأيديولوجي لأفكاره الإصلاحية؛ حيث قام بيكاريا بعد عامين فقط بنشر أطروحته On Crimes and Punishments (في الجريمة والعقاب) (1764). وقبل اندلاع الثورة الفرنسية بخمسة وعشرين عاما انتشر البيان الذي كتبه بيكاريا ضد العقوبات القاسية انتشارا واسعا وسريعا في جميع أنحاء أوربا، وهو ما أثار إصلاحات جذرية في المؤسسات القمعية في القارة.
جان جاك روسو
ضد الكهنوت الدينى
كان المجتمع الأوربي في هذا الوقت مجتمعا طبقيا تراتبيا بامتياز، تحكم فيه الأقلية المميزة الأغلبية عبر سلطات تعسفية متكلفة. نظر الفلاسفة التنويريون إلى هذا التفاوت الطبقي وما تمخض عنه من ظلم اجتماعي باعتباره الجرثومة التي تنخر في عظام المجتمع. في هذا السياق، راود بيكاريا حلم إصلاح المجتمع والمؤسسات والقانون، وهو الحلم الذي راود جميع المفكرين التنويريين في جمع أنحاء أوربا على اختلاف رؤاهم ووسائلهم الإصلاحية. كانت فرنسا قد اختارت لنفسها مسار الثورة، بينما انخرطت ميلانو في إصلاحات مطردة من الداخل، واضطلع بيكاريا وغيره من «المشتبكين»، سواء من داخل الأكاديمية أو من خارجها، بدور مهم في إدارة شئون المدينة / الدولة.
كان ثَم اتفاق بين المصلحين الأوربيين على أن الكنيسة تمثل واحدة من أهم قوى اللامساواة والاستعباد في أوربا. كما أن العقل السياسي الأوربي لم يتوقف للحظة واحدة – في واقع الأمر – عن استلهام الفكرة المركزية عند نيكولا مكيافيلي بأن المنظومة الأخلاقية المسيحية تتعارض على خط مستقيم مع المنظومة الأخلاقية في الجمهورية المدنية؛ حيث تقوم الأولى على الطاعة للسلطة القائمة، بينما تقوم الثانية على المشاركة في الإدارة السياسية للمدينة / الدولة. وعندما توضع المدينة على رأس القائمة فإن المؤسسات والقوانين سيعكسان بطبيعة الحال مصالح المجتمع بوجه عام، وليس مصالح النخبة الحاكمة على وجه الخصوص.
نيكولا مكيافيلي
وإدراكا منه لمصالح الأكثرية، صاغ بيكاريا شعارا مؤداه La massima felicitá divisa nel maggior mumero (السعادة الأكبر تتشاركها أعداد أكبر)، وهو الشعار الذي تبناه لاحقا المفكر الإنجليزي النفعي جيرمي بنثام. كانت هذه القاعدة تمثل – من وجهة نظر بيكاريا – عقيدة جوهرية للعلم الجديد الذي سيحمل اسم «The Science of Man» (علم الإنسان)، وسيتخذ من المجتمع الإنساني موضوعا له؛ بما يعكس المشروع الفكري للفيلسوف التنويري ديفيد هيوم. وسرعان ما تحول اهتمام بيكاريا العميق بالرياضيات والعلوم إلى اهتمام أكثر عمقا بتطوير علم الاقتصاد السياسي، وبعد ذلك بوقت قصير تم تعيين بيكاريا في أول منصب مدني كرئيس للاقتصاد السياسي في مدينة ميلانو.
ديفيد هيوم جيرمي بنثام
إصلاح القانون وأنسنة القوة
لم يكن الاقتصاد السياسي بالنسبة إلى بيكاريا مجرد أداة لإدارة المدينة / الدولة بفاعلية أكبر، وإنما كان بمثابة ثورة جذرية بينت مكان ومكانة الإنسان في المجتمع، وضرورة إعادة توجيه السياسة لخدمة مصالحه في المطلق. وتم العمل على الاقتصاد السياسي ليكون علم السعادة، ولإحلاله محل الدين في توجيه السلوك البشري. كان بيكاريا على يقين من أن التطورات الكبرى إنما تتحقق في الشأن العام من خلال الإصلاحات الجوهرية في الاقتصاد السياسي، حيث تحل التجارة محل الحروب، وتنشر الطباعة الأفكار الجديدة، وتعاد صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لكنه أيضا أشار إلى أن ما تم قوله وعمله بشأن شظف وتعسف القوانين الجنائية ليس سوى أقل القليل، وأن هذه القوانين ليست سوى استعراض وحشي للقوة الغاشمة التي لم تخضع بعد لأي غربلة تحليلية عقلانية. كان بيكاريا يعي تماما أنه كان شائعا في هذه الآونة أن يواجه الناس أحكاما جائرة بالموت، وأن يجري تنفيذ هذه الأحكام بوحشية يعافها الضمير الإنساني في ميدان عام على أعين الناس بهدف تعليمهم وتأديبهم.
بهذا الخصوص، شكلت دراسة بيكاريا التي حملت عنوان On Crimes and Punishments (في الجريمة والعقاب) (1764) أول محاولة لتطبيق مبادئ الاقتصاد السياسي على ممارسة العقاب، وذلك من أجل أنسنة وعقلنة استخدام القوة. فالعقوبة التعسفية القاسية – في التحليل النهائي – هي الأداة ’المثالية‘ التي يمكن أن تستخدمها الدولة من أجل إخضاع المجتمع، وتحاشي أي تمرد ضد هيكليته التراتبية المتعسفة. لكن المشكلة التي واجهها بيكاريا تمثلت في الهيمنة الكاملة للنخبة على جميع منافذ ’صناعة‘ القانون، التي تحولت على يديها إلى عمل فئوي ولغة نخبوية محصورة في طائفة بعينها لا يمكن أن تتجاوزها إلى غيرها. كان الطريق إلى الإصلاح القانوني يمر بالضرورة بإعادة الصياغة الفلسفية للدور الذي يجب أن يضطلع به القانون في المجتمع.
(يتبع)