رؤى

نهاية عقد مضطرب: الجهاديون والربيع العربي.. نبوءة خاطئة (2)

*تشارلز ليستر – زميل أول ومدير «برنامج مكافحة الإرهاب والتطرف» التابع «لمعهد الشرق الأوسط»

*عرض وترجمة: أحمد بركات

بينما لم تثبت تجربتا مالي واليمن نجاحا حقيقيا في اختبار الفكر الجديد لتنظيم القاعدة من أجل غرس جذور أكثر عمقا واستدامة للتنظيم داخل الأوساط الشعبية في بيئات الصراعات المحلية، فإن التجربة السورية أثبتت أنها الأكثر نجاحا على الإطلاق. فعلى الساحة السورية، بدأت «جماعة جبهة النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة في الانخراط عسكريا واجتماعيا وسياسيا ودينيا وسط الفصائل المحلية الفاعلة في الثورة السورية. وقدمت الجماعة نفسها كحركة محلية بامتياز، فهي – كما يوحي اسمها – مجرد حركة مكملة للجهد الثوري السابق عليها. ومنذ منتصف عام 2012، قادت «جبهة النصرة» عملية تشكيل تحالفات محلية وإقليمية مع جماعات المعارضة المسلحة وغيرها من الفصائل الجهادية، ونجحت في تجسير الهوة بين الجماعات المسلحة الأيديولوجية وغير الأيديولوجية. وبحلول نهاية عام 2012، شاركت «جبهة النصرة» أيضا في أنشطة الحكم، حيث أكسبتها حملتها ضد الفساد وجهودها في توفير المواد الغذائية والخدمات الأساسية – حتى برغم نظرتها الأيديولوجية المتشددة – دعما شعبيا طاغيا.

الواقعية المنضبطة

وعبر استراتيجية جمعت بين ما يمكن وصفه بـ «الواقعية المنضبطة» و«الصبر الاستراتيجي» و«المحلية» و«التدرج»، سعت جبهة النصرة إلى أن تكون جزءا لا يتجزأ من الثورة السورية. وقد كان الهدف النهائي للجماعة هو التوغل وبسط سيطرتها على جميع مكونات الثورة، وهو ما دفعها إلى بذل محاولات دؤوبة لترسيخ نفسها كقائد محتمل لدولة إسلامية تمثيلية شاملة. بهذا المعنى، أظهرت الجماعة تشبثا واضحا بالتوجه النخبوي التقليدي الذي يمثله تنظيم القاعدة، لكن آلياتها في تحقيق هذه الهيمنة كانت مختلفة بشكل لافت. لقد أكتسبت الجماعة عبر أنشطتها في الحكم واستعدادها للانخراط مع مجموعة كبيرة ومتنوعة من القوى الفاعلة محليا – حتى لو كانت ذات توجه أيديولوجي مغاير – بعض الدعم السياسي. رغم ذلك، يبقى إسهامها الأعظم متمثلا في تفوقها العسكري في جبهة القتال.

والحقيقة أن جميع الانتصارات الكبرى التي حققتها المعارضة على الساحة السورية، بدءا من شتاء عام 2012 حتى منتصف عام 2015، إنما يرجع الفضل فيها – ولو جزئيا – إلى الدور المحوري الذي اضطلعت به «جبهة النصرة». فقد عكفت جماعات المعارضة الكبرى على المشاركة بقوة في الحملات متعددة الفصائل التي كانت تضم جبهة النصرة، أو بالأحرى تتم تحت قيادتها، وذلك من أجل المحافظة على وزنها النسبي على الساحة السياسية وتحقيق نجاحاتها الخاصة. كما انتهى المطاف بالبرنامج السري لدعم فصائل المعارضة – الذي كانت تقوده المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، واشتهر بتقديمه أنظمة صاروخية موجهة مضادة للدبابات من طراز BGM-71 TOW – إلى لعب دور مهم للغاية تمثل في تقديم – سواء عن قصد، أو عن غير قصد – دعم مباشر وغير مباشر للعمليات العسكرية التي قادتها «جبهة النصرة».

وعبر قيادة المعارضة والدعم الأمريكي جميعا، ضمنت جبهة النصرة لنفسها مكانا ’سياديا‘ في المعادلة السورية في عامي 2014 و2015، واكتسبت قدرا غير قليل من الشعبية والمصداقية في أوساط المعارضة على اختلاف انتماءاتها. رغم ذلك، عجزت الجماعة عن تحقيق الهدف الأسمى لتنظيم القاعدة، وهو بسط هيمنتها كاملة على حركة المعارضة السورية بوجه عام. وبات واضحا أن التحول من «طليعة نخبوية» إلى «زعامة كتلة جهادية إسلاموية موحدة» يتطلب أكثر من مجرد نجاحات على المستوى الميداني، أو حتى التشبيك مع العديد من الفصائل السورية. وبرزت بجلاء حاجة جبهة النصرة لتأمين اندماج أيديولوجي وعملياتي واسع النطاق مع فصائل المعارضة السورية ذات التوجهات المتباينة، وهو ما يتطلب ’ترجمة‘ مصداقية الجماعة إلى شعبية، وشعبيتها إلى دعم، ودعمها إلى ولاء وتبعية.

ومع ذلك، فقد تمثل العائق الأساس أمام تدشين «مشروع وحدة» إسلاموي في سوريا بقيادة تنظيم القاعدة – كما خلصت إلى ذلك النقاشات المتعددة بين قيادات جبهة النصرة، وكما ارتأت أيضا مجموعة من العلماء المحافظين، والمستقلين في الوقت نفسه – في اسم ’القاعدة‘ نفسه، وعدم الثقة التي كان يتمخض عنها بصورة مستمرة لدى شركاء جبهة النصرة العسكريين من مختلف ألوان الطيف السياسي السوري.

من النصرة.. إلى فتح الشام

وبعد سجال مكثف وشائك داخل أوساط «جبهة النصرة»، تم اتخاذ قرار مصيري في يوليو 2016 بقطع «العلاقات الخارجية» في إشارة غير مباشرة إلى الظواهري وسائر قيادات تنظيم القاعدة خارج سوريا (لكن ليس بالضرورة قادة «القاعدة» في الداخل). كما تقرر تغيير اسم «جبهة النصرة» إلى «جبهة فتح الشام»، للتأكيد على محلية الجماعة. وبعد ذلك، بدأت ثلاث عمليات تفاوض متتالية بشأن ’الوحدة‘ مع الشركاء العسكريين القدامى في شمال سوريا، لكنها باءت جميعها بالفشل.

كانت النتيجة الحتمية هي أن القرار المثير للجدل، أو بالأحرى المقامرة التي أقدمت عليها الجماعة، بالتحول إلى «جبهة فتح الشام» قد تمخض عن نتائج عكسية وخيمة. في هذه الأثناء، شعرت الجماعة بوقوعها بين مطرقة الضغوط الشديدة من الداخل، وسندان التهميش المتزايد بسبب تراجع الاهتمام الدولي بالحراك المسلح ضد نظام الأسد، واستمرار المحادثات الأمريكية السورية بشأن مواجهة تنظيم القاعدة في سوريا، وزيادة إقبال الجماعات الرئيسة في المعارضة على المشاركة في مفاوضات وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سوريا. وفي معرض الرد، واصلت «جبهة فتح الشام» أعمالها العسكرية، وقامت في يناير 2017 بتنفيذ عدد من العمليات المنسقة ضد جماعات معارضة منافسة، بما في ذلك الحليف الإسلاموي القديم «أحرار الشام». وبالفعل، نجحت هذه الاستراتيجية في إجبار أربعة فصائل مسلحة على الدخول في تشكيل جديد مع جبهة فتح الشام،هو «هيئة تحرير الشام» (HTS).

كانت «هيئة تحرير الشام» تمثل بالنسبة إلى بعض الدوائر الإسلامية المحافظة داخل سوريا، ذلك المزيج الجهادي، أو «الوحدة الجهادية» التي كان تنظيم القاعدة يسعى إلى تشكيلها طوال الوقت.

في المقابل، مثلّت هذه الجماعة الجديدة بالنسبة لمعظم السوريين نموذجا صارخا للحماس الأيديولوجي المفرط على حساب تكوين «جبهة موحدة» تضم جميع ألوان الطيف السياسي السوري. كما كشفت أيضا عن الحدود الحقيقية للنزعة ’المحلية‘ داخل «جبهة النصرة».من ناحية أخرى، أثارت عدوانية الوليد الجديد (هيئة تحرير الشام) ضد جماعة إسلامية سورية أخرى خصومة سائر الجماعات الإسلامية، وهدمت جسور التواصل مع جميع جماعات المعارضة السورية غير الإسلاموية التي كانت جبهة النصرة قد شيدتها في سنوات غابرة. فمنذ نشأتها، نجحت «هيئة تحرير الشام» في حماية مصالحها بالقوة كلما دعتها إلى ذلك دواعي الضرورة، كما نجحت أيضا في تأمين وضعها كحاكم فعلي لشمال غرب سوريا، حيث تبنت ما أسمته مسار «البرجماتية المحكمة» عن طريق تمكين «حكومة إنقاذ» من التكنوقراط لإدارة الشئون المدنية وتوفير الخدمات، وتشكيل مكتب سياسي يسعى إلى الدخول في حوار مع حكومات أجنبية، والتعاون مع تركيا وبخاصة منظمة الاستخبارات الوطنية (MIT)، وعدم التقيد بالترتيبات الدولية لوقف إطلاق النار.

تمخضت التجربة السورية – إذن – عن حزمة معقدة من ’الدروس المستفادة‘ لتنظيم القاعدة. ربما كانت استراتيجية «المحلية» و«التدرج» التي تبنتها «جبهة النصرة» في سوريا متماشية مع تعليمات القيادة العليا لتنظيم القاعدة، لكن قرارها بتغيير اسمها إلى «جبهة فتح الشام» ثم «هيئة تحرير الشام» أثار جدلا شائكا في أوساط القادة الجهاديين. ففي الوقت الذي تشكلت فيه «جبهة فتح الشام»، قام قرابة نصف أعضاء مجلس شورى «جبهة النصرة»، إما بالانشقاق عن الجماعة، أو برفض تقلد أي مناصب قيادية فيها. كما رفض العشرات من مقاتلي تنظيم القاعدة في سوريا الانضمام إلى «جبهة فتح الشام»، ومن بعدها «هيئة تحرير الشام» كاحتجاج غاضب على ما ارتأوه «انسلاخا» عن المبادئ الإسلامية، وانخراطا في ممارسات قومية. والأسوأ من ذلك هو ما أبدته الجبهة من استعداد تام للتعاون مع الحكومة التركية، التي يناصبها تنظيم القاعدة العداء على خط مستقيم.

واليوم،لم يعد تنظيم القاعدة، والجماعات الموالية له في جميع أنحاء العالم، ينظرون إلى «هيئة تحرير الشام» باعتبارها جزءا من التنظيم العالمي، وتواصل القيادة العليا للتنظيم الانخراط في حملة شعبية تعبوية تنتقد بشدة خيانة «هيئة تحرير الشام» ومسارها غير الشرعي. أما الدرس الأكثرالأهمية على الإطلاق فيتعلق باستراتيجية «المحلية» داخل تنظيم القاعدة. فرغم نجاح التنظيم في تأسيس «جبهة النصرة» لقيادة المعارضة السورية ضد نظام الأسد، إلا أن هذه الاستراتيجية قد دفعت نحو مزيد من اللامركزية، تبعه انشقاق نهائي وحتمي بين القيادة العليا داخل التنظيم الأم من جانب وفرعه في سوريا من جانب آخر.

اقرأ أيضا:

(يتبع)

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية ومراجع الدراسة من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock