فهم البعض- استسهالا وكسلا- أن ابن تيمية- هو سلف وأصل الإرهاب والتطرف العنيف، ومن هنا نتساءل لماذا لم يؤسس هو نفسه جماعة دينية مسلحة؟ ولماذ يرتبط اسم ابن تيمية – وليس سيد قطب أو حسن البنا أو محمد بن سرور – بأيدولوجيا وخطاب جماعات التطرف العنيف على اختلافها؟
قد يبدو هذا العنوان كسؤال افتراضي لا فائدة من طرحه، لكننا نراه سؤالا تفسيريا وضروريا تماما لفهم العلاقة بين ابن تيمية وجماعات الإرهاب المعاصر، المعولم والقُطْري على السواء، وفهم حقيقة ابن تيمية «المتوفي عام 728 هجرية»، ومدى علاقته بفكر الجماعات الإرهابية في القرن العشرين. وهل هو مسؤول بالفعل عما يفعله هؤلاء؟
ربما لم يخطئ محمد عبدالسلام فرج، أحد قادة جماعة الجهاد وصاحب كتاب «الفريضة الغائبة»، حين شبَّه عصر السادات بعصر ابن تيمية، لكنه أخطأ بالتأكيد في استدعاء فتواه في أهل ماردين.. أخطأ حين نقلها ،واكتفى بهامش عليها دون أن يُجري بحثا أصيلا في المسألة، من أجل الوصول لهدفه السياسي المتمثل في إباحة قتل الحاكم، ولهذا تفصيل في مقال آخر.
ما سبق يجعل السؤال وجيها: لماذا لم يؤسس ابن تيمية جماعة اسلامية مسلحة في الفضاء السني كهؤلاء، ولم يكن يعوزه التلاميذ والأنصار والخطاب والتأثير؟ خاصة وأنه امتحن وعرف الظلم والسجن بسبب آرائه الفقهية وبعض فتاويه ومواقفه العملية؟، لماذا لم يؤسس هذه الجماعة الدينية العنيفة كي يحقق «الحاكمية» شأن هؤلاء، رغم أنه لم يذكر هذه المفردة مرة واحدة في أي من كتاباته التي تجاوزت الألف مجلد، كما يقول مترجموه، ولم تظهر إلا مع الإرهاب المعاصر؟
كما يزيد من وجاهة السؤال كون الظروف التي عايشها ابن تيمية وتلك التي عاشتها جماعات التطرف العنيف المعاصرة متشابهة بل ومتطابقة.. خلافة سقطت وأمة منهارة ومطلوب استئناف حياتها باستئناف هذه الخلافة وإعادتها فقد سقطت الخلافة العباسية سنة 656 هجرية، أى قبل مولد ابن تيمية سنة 661 هجرية بخمسة أعوام فقط، لكن الرجل لم يؤسس جماعة كي تستعيدها، كما تحاول جماعات العنف حاليا، بل عاش حكم المماليك واقترب منهم خلال فترتي حكم الناصر بن قلاوون( 684- 741 هجرية) قبل أن يُمتحن ويسجن في عصر الخارجين عليه.
نماذج سابقة لابن تيمية
ومما يزيد من شرعية السؤال أن فكرة إنشاء جماعة دينية مسلحة تستهدف الحكم والحاكمية والسلطة وإقامة دولة وفق تصورها ومبادئها ومرجعياتها، كانت سابقة لابن تيمية، ولم تكن وليدة القرن العشرين، فقدعرفته كل الفرق الإسلامية كالخوارج والإمامية والإسماعيلية في السابق خروجا على حكم أهل السنة والجماعة، بل وسعت للخروج وتأسيس حكمها الخاص. فالعديد من الجماعات المسلحة ذات المرجعية الدينية أقامت دولا وسلطنات وإمارات خاصة بها، استقرت لها ولأسرها قبل ظهور ابن تيمية بقرون، وكان الرجل عارفا بها، كما كان الحال مع يوسف بن تاشفين الصنهاجي الذي أقام دولة المرابطين سنة 462 هجرية واستمرت دولته حتى سقطت على يد داعية وشيخ آخرهو المهدي بن تومرت المصمودي المتوفى سنة 524 هجرية، صاحب دعوة الموحدين وصاحب أول بناء تنظيمي حركي لتغيير نظام الحكم كما نظن،ومعه تلميذه وخليفته عبد المؤمن بن على الكومي الذي أقام دولة الموحدين سنة 541.
عصر أزمة مشابه
كان عصر ابن تيمية عصر أزمة يشبه تماما الفترة التي بزغت ونشأت فيها جماعات الإسلام السياسي وجماعات التطرف العنيف التي تناسلت منها منذ عشرينيات القرن الماضي حتى الآن. تجسدت الأزمة في تحفظات ابن تيمية على الحكم المملوكي، وهو حكم أشعري حنفي صوفي التوجه غالبا، كما أنه حكم كان يفتقد شروط الإمامة السائدة وقتها، وفي مقدمتها شرط الحرية، إذ كانوا عبيدا تحرروا، وشرط القرشية وكثير منهم ممن لا أصل له.
أما التشابه الثاني فيتمثل في ملامح الغزو والتحدي الخارجي- المغولي والصليبي في عصره – وتمثل التشابه الثالث في الخوف على الهوية التى كان يهددها الآخر الطائفي الشيعي والإمامي، فضلا عن الصراع على فكرة الإسلام الصحيح أو النقي التي طرح ابن تيمية بلورة خاصة لها في شكل «الحنبلية الجديدة» التي تتشدد فقهيا وعقديا ولكنها تتسم بالمرونة في التطبيق العملي.
الإمامة والحاكمية لم تكن من أولوياته
على العكس من جماعات العنف السياسي المعاصرة المنسوبة للإسلام، لم تكن مسألة الإمامة والحاكمية على رأس أولويات ابن تيمية، بل كانت الأولوية للتحدي العقدي والسياسي الأبرز، وكذلك التحدي الباطني وغلبة الإمامية سياسيا وعسكريا. فقد انتقد ابن تيمية من جعلوا مسألة الإمامة والحكم مركز العقيدة والدين، واستفاض في الرد على هذا النهج في كتابه «منهاج السنة» بالخصوص، وهو الكتاب الذي وضعه للرد على كتاب «منهاج الكرامة» للعلامة الشيعي ابن المطهر الحلي الذي انتشر في زمانه.
يقول ابن تيمية: «إن قول القائل إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين كذب بإجماع المسلمين سنيهم وشيعيهم، بل هذا كفر فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فالكافر لا يصير مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله».
في المقابل، يعيد ابن تيمية الاعتبار لأولوية الإيمان والتوحيد والعقيدة الصحيحة على مسائل الحكم والسلطة والإمامة، فيقول في منهاج السنة أيضا: «فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين وأهم المطالب في الدين ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله أعظم من غيرها، وبيان الرسول لها أولى من بيان غيرها والقرآن مملوء بذكر توحيد الله وذكر أسمائه وصفاته وآياته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقصص والأمر والنهي والحدود والفرائض بخلاف الإمامة فكيف يكون القرآن مملوءا بغير الأهم الأشرف وأيضا فإن الله تعالى قد علق السعادة بما لا ذكر فيه للإمامة فقال «ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا» (سورة النساء)».
ابن تيمية كان يؤمن بشرعية الدولة وعدم الخروج عليها
يكثر استدلال المتطرفين بمشاركة ابن تيمية في مواجهة التتار في إحدى المعارك داعيا ومثبتا للجنود ومتفاوضا مع قازان المغولي على أوضاع الأسرى وكذلك في مواجهة بعض الغلاة في جبل كسروان وغير هذا على أن الرجل كان جهاديا. والصحيح أن الرجل لم يكن يتحرك خارج شرعية الدولة والسلطة القائمة، ولم يكن رافضا لها أو خارجا عليها بل ملتزما بقانونها ومعتبرا لها ومأمورا بأمرها أغلب الأحيان، كما قبل بحكم قضائها حين سجن ثلاث مرات إحداها كانت بسبب التعدي على مسيحي غاضب سب النبي محمد-صلى الله عليه وسلم – علنا في دمشق.
ورغم تحفظات ابن تيمية على فقه واعتقاد السلطة وجداله لعلمائها وشيوخ صوفيتها وسجنه بسبب ذلك مرتين، إلا أنه لم يكن ممن يتحرك خارج إطار الشرعية أو الحكم القائم أو متعاليا على الواقع وإيمانه الرئيس بأن الحكم والإمامة ليس شأنا دينيا محضا بل خاضع للاجتهاد والتقدير وشرطه الشوكة والقدرة كما فصل في آرائه السياسية في «السياسة الشرعية» وغيره بل دعى الناس في رسالته «المظالم المشتركة» للتشارك في الظلم الذي يقع عليهم من الحاكم المملوكي الظالم أو من ينوب عنه.
كان دفاع ابن تيمية عن العقيدة وما يتصوره الدين الصحيح اعتقادا وفقها وتصورا، وكانت له اجتهاداته الذكية مثل نقده للمنطق الأرسطي وغيره كتفريقه بين القاعدة والتطبيق أو الحكم والفتوى، ولم يكن يرى الخروج على الحكام وإشاعة الفوضى من قضاياه، فقد كان يقوم بدور العالم كما يتصوره وليس دور القائد السياسي الديني الذي يستهدف تغيير الحكم.
كانت أولوية ابن تيمية هي العقيدة والفقه الصحيح على منهج السلف كما رآه، وكان في هذا شديدا يملك حجته وأدلته العلمية كما شهد مخالفوه قبل موافقيه، ولكنه لم يكن يقول بتكفير المعين ولا تكفير الحكومات ولا حتى تكفير أحد من أهل القبلة وهذه قواعده التي ترد إليها شوارده
لهذه الأٍسباب وغيرها يمكننا أن نفهم الفارق بين العالم والداعية المتجرد لقضيته العلمية ،وبين الداعية السياسي الذي يستهدف إثارة الناس دينا ،واتخاذهم مطية نحو السلطة، ونفهم لماذا يبدو الربط هشا بين ابن تيمية والتطرف العنيف المعاصر، ولماذا لم يؤسس ابن تيمية جماعة دينية مسلحة أو سياسية على غرار حسن البنا الذي لم يقرأه أو ابن لادن الذي أساء فهمه(1).
هامش:
لمزيد من التفاصيل حول تصورات ابن تيمية ورؤيته المختلفة عن الجهاديين والإرهاب المعاصر تمكن مراجعة كتابي: متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية» ط1 مركز دراسات الوحدة العربية سنة 2015.