إدوارد ألدين – زميل أول في أستاذية برنارد ل. شوارتز للاقتصاد السياسي
عرض وترجمة: أحمد بركات
دخلت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين مرحلة خطيرة، حيث انتقلت الدولتان من استخدام التعريفات الجمركية وغيرها من العقوبات التجارية بطريقة استراتيجية معقولة من أجل محاولة تعزيز مواقفهما التفاوضية، إلى سلسلة من الإجراءات العقابية التي تهدف إلى إلحاق أضرار اقتصادية جسيمة بالطرف الآخر.
وكما أظهرت مؤشرات الأسواق في منتصف أغسطس الماضي (2019)، فإنه مع الانخفاض الحاد في أسعار الأسهم، وتراجع عائدات السندات، تزداد بقوة احتمالات إندلاع صراع اقتصادي مفتوح ومحموم.
فعلى غرار جميع الحروب، تبدأ الحروب التجارية بسهولة، لكنها لا تضع أوزارها إلا بصعوبة بالغة وبعد خسائر فادحة، إذ عادة ما تبدأ بأهداف محددة ومعقولة، لكن في حالة عدم تحققها، فإن القادة دائما ما يتجهون إلى التصعيد، بدلا من أي تراجع يرونه مهينا، ومن ثم يتحول النزاع إلى صراع مكلف ودام، لم تقصده أي بلد ولم تسع إليه.
ترامب ورؤيته الجديدة للصين
تعلّم قادة العالم هذا الدرس، أول ما تعلموه، إبان الصراعات الاقتصادية التي قامت على أسس سياسة «إفقار الجار» (Beggar Thy Neighbour) في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي بسببها تم إنشاء مؤسسات في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية لمنع الحروب التجارية. وتوجت تلك الرؤية بإنشاء «منظمة التجارة العالمية» عام 1955 والتزام جميع الدول الأعضاء بحل خلافاتها من خلال تسويات ملزمة.
لكن الرؤية الاقتصادية للرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب لا تتلاقى مع هذه الرؤية. لقد شعرت الإدارات الأمريكية السابقة بخيبة أمل بسبب ما اعتبرته ممارسات تجارية صينية جامحة لا يمكن كبحها عن طريق قواعد منظمة التجارة العالمية، لكن ترمب – الذي تركز اهتمامه على العجز التجاري المزمن – اختار التخلص من هذه القيود جملة واحدة. وبعد استهداف الحلفاء أولا عن طريق فرض قيود على واردات الحديد والألومنيوم، فرضت إدارة ترامب في العام الماضي تعريفة على الواردات الصينية – بما يخالف قواعد منظمة التجارة العالمية – لمحاولة فرض بعض التغييرات على السلوك الصيني.
وقد نجحت العقوبات الأمريكية بالفعل في دفع بكين إلى مائدة المفاوضات، لكن المحادثات توقفت في شهر مايو الماضي بعد أن رفضت الصين بعض المطالب الأمريكية الأكثر شمولا. وبدلا من الاستمرار في التفاوض لبحث إمكانية رأب الصدع وتقريب وجهات النظر، أوقف ترامب المحادثات، وفرض تعريفة جديدة ستغطي قريبا معظم صادرات الصين إلى الولايات المتحدة ،والتي تتجاوز قيمتها 500 مليار دولار.
صراع طويل الأمد
حاليا يندفع الطرفان بقوة باتجاه صراع طويل الأمد، ففي اليوم الذي تراجعت فيه الأسهم الأمريكية إلى أسوأ أداء لها في عام 2019 (في منتصف الشهر الماضي «أغسطس 2019»)، راح ترمب يتفاخر بأنه «كلما طال أمد الحرب التجارية، سيزداد ضعف الصين وستزداد قوتنا». وفي معرض الرد، أعلنت بكين أنها ستفرض «تدابير جديدة ضد الولايات المتحدة في الشهر المقبل (سبتمبر 2019)»؛ إذ لم يكن بوسع الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي يواجه موجة احتجاجات عنيفة في هونج كونج بخلاف تحديات أخرى، أن يبدي أي أمارات ضعف أو تراجع. كما غرد هو تشيجين، رئيس تحرير صحيفة «جلوبال تايمز» الصينية التابعة للدولة مؤكدا أن «المجتمع الصيني يتمتع بالثقة الكاملة التي تدفعه إلى خوض معركة طويلة الأمد ضد الولايات المتحدة».
في المقابل، حذر الرئيس ترامب من أن واشنطن ستواجه بحزم أي عقوبات جديدة تفرضها بكين، وأكد للصحفيين «يجب أن تفهموا أنني كنت معتدلا جدا بهذا الشأن.. معتدلا لأقصى درجة. لكنني قادرعلى أن أمضي إلى أبعد من ذلك بكثير».
لسوء الحظ، يمكن للطرفين أن يمضيا إلى أبعد من ذلك بكثير فعلا. فالتعريفات الجمركية المفروضة حتى الآن يمكن وصفها بالمعتدلة نسبيا حيث تتراوح بين 10% إلى 25%. لكن في ظل عدم الاكتراث بقواعد منظمة التجارة العالمية – على غرار ما يجري الآن – فإنه ليس ثمة قيود يمكن أن تمنع أيا من الطرفين من المضي قدما في فرض تعريفات باهظة.
حرب العملات
إضافة إلى ذلك، فإن بوادر حرب عملات بين الجانبين بدأت تلوح بقوة في الأفق. فقد سمحت الصين بانخفاض قيمة الرنمينبي (العملة المستخدمة في الصين منذ عام 1948) لخفض تكاليف الصادرات الصينية، وتعويض الأضرار الناجمة عن التعريفات الجمركية التي فرضتها واشنطن، حيث هبطت قيمة العملة الصينية في بداية شهر أغسطس إلى ما دون المستوى الرمزي، وهو 7 رنمينبي مقابل الدولار. ورد ترمب بالضغط مرة أخرى على «مجلس الاحتياطي الفيدرالي» المستقل لإجراء تخفيضات أكثر عدوانية في أسعار الفائدة الأمريكية، بحجة أن ضعف الدولار «سيمكن شركاتنا من تحقيق الانتصار على أي منافسة». إزاء ذلك لن يكون أمام الاقتصادات الأخرى التي وقعت في مرمى نيران هذه التخفيضات التنافسية – بما في ذلك دول الاتحاد الأوربي واليابان – أي خيارات سوى الرد بالمثل.
إذا لم يكن هذا مثيرا للقلق بما يكفي، فإن طبول حرب تكنولوجية شرسة تُقرع بقوة هي الأخرى. فقد قامت الولايات المتحدة بالفعل بفرض قيود على الصادرات إلى «هاواوي»، الشركة الصينية العملاقة المتخصصة في تصنيع أجهزة الاتصال، لكنها لم تصل إلى حد منع المدخلات الهامة، مثل رقائق كوالكوم ونظام تشغيل أندرويد من جوجل. ولو فعلت، فقد كان بإمكان الصين أن ترد بفرض قيود من جانبها على صادرات المعادن الأرضية النادرة، التي تعد مدخلا حيويا للإلكترونيات الاستهلاكية وبطاريات السيارات الكهربائية وغيرها من منتجات التكنولوجيا العالمية.
قد يؤدي أي من هذه الإجراءات إلى تفاقم الأضرار المباشرة التي بدأت اقتصادات أخرى في جميع أنحاء العالم تعاني منها فعليا، بينما لم تتوقف بعد إدارة ترامب عن التهديد بزيادة الرسوم الجمركية حتى على الحلفاء المقربين. وقريبا ستجد الولايات المتحدة نفسها في وضع يمكنها من فرض تعريفة جديدة على الاتحاد الأوربي، وستكون هذه التعريفة قانونية بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية – على عكس القيود التجارية الأخرى التي فرضتها إدارة ترمب – لأنها تنبع من نزاع تجاري طويل الأمد بشأن الإعانات المقدمة لشركة إيرباص الأوربية لصناعة الطائرات.
لا يزال ترامب أيضا يملك الفرصة حتى شهر نوفمبر القادم ليقرر ما إذا كان سيفرض تعريفات على السيارات المستوردة من أوربا واليابان وغيرهما ،بعد أن وجدت وزارة التجارة الأمريكية أن هذه الواردات «تشكل خطرا على الأمن القومي الأمريكي». وقد حذر الاتحاد الأوربي من أنه سيرد بقوة على أي تعريفات تفرضها واشنطن.
الشيء الوحيد الذي يردع الولايات المتحدة والصين في هذه المرحلة هو القلق من الضرر الذي يمكن أن يلحق باقتصاداتهما. ففي نهاية أغسطس الماضي قرر الرئيس ترمب تأجيل فرض تعريفات جمركية على البضائع الاستهلاكية مثل لعب الأطفال والهواتف الذكية إلى نهاية هذا العام بعد أن أعربت الشركات الأمريكية عن مخاوفها من أن يتسبب ذلك في الإضرار بموسم التسوق في فترة الاحتفالات بأعياد الميلاد. وإذا بدأ الاقتصاد الأمريكي في التباطؤ، فمن المرجح أن يحجم الرئيس ترمب عن مزيد من التصعيد في الحرب التجارية، خاصة مع اقتراب السباق الانتخابي في نوفمبر 2020. في المقابل، تواجه الصين أضعف معدلات نمو منذ عقود في الوقت الذي تشهد فيه هروب الاستثمارات إلى فيتنام وغيرها لتجنب التعريفات الأمريكية. وقد تكون بكين مترددة بشأن فرض عقوبات من شأنها أن تزيد من حالة عدم اليقين وتسًرع من وتيرة هذا التدفق نحو الخارج.
لكن الشيء المؤكد بشأن هذه الحروب هو أن الزعماء غالبا ما يضرون ببلادهم للحفاظ على ’مصداقيتهم‘، أو لحفظ ماء وجوههم. ففي عشية الحرب العالمية الأولى أشار الكاتب البريطاني نورمان أنجيل إلى أن العلاقات الاقتصادية بين دول القارة الأوربية جعلت الحرب شيئا من الماضي لأن كلفتها الاقتصادية تكون دائما فادحة.
لكن، قلما كانت المصلحة الذاتية الاقتصادية وحدها كافية لكبح جماح الدول؛ وهو ما دفع بالقادة الحكماء إلى بناء مؤسسات من شاكلة منظمة التجارة العالمية لتشجيع ضبط النفس المتبادل والتوصل إلى طرق سلمية لحل النزاعات الاقتصادية. وبدون تفعيل هذه القواعد، يصبح الضابط الوحيد هو الذكاء الفطري والذوق العام لدى الجيل الحالي من الزعماء السياسيين؛ ومن ثم، فإنه من غير المستغرب أن تتحول الأسواق إلى مكان مخيف ومصدر للتوجس والرعب.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?