أخذت تجربة الاقتراب من الموت أو العودة من الموت (كما يسمونها كثيرا ) مساحات كبيرة من الجدل العلمي والحوار الفلسفي والتصورات الدينية وغير الدينية. ومع ذلك لم يتم حسمها حتى الساعة؛ فلا ثبتت صحتها ثبوثا قطعيا ولا انتهت ظاهرتها، بل ما زالت تجري هنا وهناك.. والناس يتناقلون أخبارها بشغف هائل ربما لتعلقها بعالم آخر، لا العالم الذي بين أيدينا.
هذه التجربة تسمى بالإنجليزية Near death experience ويلخصون الكلمات الثلاث، إشارة إلى الظاهرة المحيرة العجيبة، بثلاثة أحرف تمثل الكلمات الثلاث Nde. التجربة ليست بالشيء العابر ولا الهين؛ ففضلا عن جانبها المثير بالغ التشويق والجاذبية، اهتمت بها دول متقدمة علميا كأمريكا وبريطانيا، وتفرغ لها علماء معتبرون وباحثون أفذاذ، ولم يخل الأمر من اجتهادات كتاب ومفكرين كبار حاولوا أن يتفهموها أو في الأدنى يبسِّطوها للعوام.
ما الذي يحدث بالضبط؟
يدخل الإنسان تجربته الفريدة في المستشفيات بالذات، على الأسرة بالغرف وأحيانا في أثناء إجراء العمليات الجراحية، يدخلها بفعل الموت الإكلينيكي، والسكتة القلبية، والإغماء، والنزيف الدماغي، والاختناق، ونوبات الأمراض الخطرة..
وفي خارج المستشفيات مع التعرض لحوادث السير الصعبة، والغرق، والاحتراق، والسقوط من المرتفعات.. هكذا مثالا لا حصرا.
هي دقائق معدودات، يغيب الشخص فيها عن الواقع الذي يعيشه منطلقا إلى واقع آخر لا يعرفه، بينما يتصور الجميع في هذه الأثناء (الأهل، الأصدقاء، والأطباء أنفسهم) أنه فارق الحياة ولن يعود مرة أخرى أبدا، لكنه يعود بحكاية مدهشة لا تمت للقوانين التي يعرفها العالم بصلة!
الأكثر دهشة أن جميع من مروا بالتجربة كانت حكاياتهم متقاربة في العمق، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة والمعتقدات، فبعضهم يعود شاعرا بارتياح ولذة وسرور وبعضهم برهبة بالغة، وجميعهم يدخلون نفقا ما وصولا إلى نور زاه باهر، ثم تتناثر في الحكايات تفاصيل عن رؤية كائنات كالأسود والنمور وحدائق وبساتين وبشر راحلين ليسوا بغرباء عن الشخص المار بالتجربة.. ومن المشهور أن تكرار تجربة ما يمنحها مصداقية علمية.
أشهر تجربة عربية
تعد تجربة السيد «صائب عريقات» هي الأشهر عربيا على الإطلاق في موضوع الاقتراب من الموت؛ فهو شخصية سياسية كبيرة لها ثقلها وحيثيتها وتقديرها لدى ملايين من العرب (أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وكان شغل منصب كبير المفاوضين الفلسطينيين قبل انهيار عملية التفاوض).. وعلى كل حال فالتجربة بعيدة كل البعد عن الإطار السياسي الذي تكثر فيه التكهنات ويكذبه كثيرون ويتشكك فيه كثيرون. روى السيد عريقات تجربته في مسألة الاقتراب من الموت أو العودة منه لعدد كبير من الصحف والمواقع، وبرامج الفضائيات ومن أشهرها برنامج «أول مرة» للإعلامي اللبناني الشهير «طوني خليفة».. بدا فيما رواه مواريا جانبا من جوانب الحكاية أو عددا من الجوانب لأسباب تخصه في الصميم، وملخص ما قاله أنه مر بأزمة صحية شديدة اضطرته إلى الخضوع لجراحة دقيقة لزرع رئة في خريف 2018 بمستشفى «إنوفا فيرفاكس» بولاية فيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ولما أفاق أنبأه الأطباء أنه مات لمدة ثلاث دقائق وعشرين ثانية، وهي بالضبط المدة التي انفصل فيها عن جسده ووجد نفسه سابحا في فضاء مهيب لا لون له ولا ملامح، وضمن ما رآه هناك أشخاصا كان ساعدهم (موتى بالطبع) وكانوا يشيرون إليه ولا يدري سر إشاراتهم، نافيا رؤيته للرئيس الفلسطيني «ياسر عرفات» وقائلا : إنه كان منفصلا عن كل شيء في العالم سوى التفكير في الخانة الصعبة التي وجد نفسه فيها.. وإن الحقيقة الأكيدة التي وصل إليها: هناك حياة بعد الموت لا ريب.
صراع الإيمان والإلحاد
تختلف التفسيرات باختلاف نوعية المفسرين وخلفياتهم ومرجعياتهم؛ فرجال الدين يرون الأمر بمثابة حقيقة واضحة تجيء في صورة إشارات قطعية من الله للعباد الذين يختارهم من كل أنحاء الدنيا لإيصال رسائل للآخرين بيقينية العالم الآخر، وليذكروا العالم اللاهي بالنهاية الحتمية وصدق فكرة الثواب والعقاب، ويرون أن في الأمر ما فيه من البشرى للمؤمنين الصالحين والإنذار العالي للمنكرين والعصاة والفاسقين والظالمين بأن موجد الوجود تعالى جهز لكل إنسان ما يستحقه في الغيوب بدار الخلود، وأن المرئيات المروية هي صور حصرية من نعيم الجنة وعذاب النار ولا يماري في هذا إلا المرجفون الجاحدون.
لكن يرى الملحدون أن المسألة لا تعدو أن تكون انفصالا بين الجسم المادي (الفيزيقي) والجسم الأثيري (النجمي) ذي القدرة على السفر إلى مستوى علوي، ويرون المسألة أقرب ما تكون لخيالات مدمني المخدرات وتصوراتهم المشوشة، ويشيرون إلى المرضى بمتلازمة كوتار (متلازمة الجثة المتحركة) فهم أيضا يعتقدون بأنهم أموات وليسوا بأموات لكنه الوهم القاتل، ويشيرون إلى ظاهرة شلل النوم التي تسبق الاستيقاظ أو النوم مباشرة وتعني حدوث شعور بالشلل في حين أن الإنسان يدرك كل ما يحيط به، كما يشيرون إلى المصابين بمرض باركنسون الذين يرون وحوشا وأشباحا لكن الحقيقة أنهم يعانون خللا في وظائف الدوبامين- الناقل العصبي القادر على إثارة الهلوسات..
وفي النهاية يقولون إنهم ليسوا معنيين بتصديق الخرافات والخزعبلات الدينية!
التجربة والعلم
علميا ما زالت التجربة خاضعة لتفسيرات شتى، ولم تصل بعد لنتائج محددة، لكن الفرق البحثية المكونة من أطباء وعلماء نفس واجتماع، وتخصصات أخرى عديدة متباينة تثابر وتجتهد وتضيف لأدواتها البحثية جديدا في كل حين مما تراه ضروريا لاستكناه هذا الشيء المريب العميق المحفز على التفكير والدراسة، قد تصل مع السنين إلى ما يضع العالم في نطاق جديد يقدمه ولا يؤخره، وقد لا تصل إلى شيء ذي بال؛ فتكفي عندئذ قيمة البحث العلمي بحد ذاتها ويكفي غنى العقول بالمناقشة وثراء الوجدان العام.
الخلاصة..تبقى ظاهرة كالظاهرة التي عرضناها باستفاضة محط أنظار العالم بكل درجاته وتنوعاته؛ فهي متعلقة بالموت الحتمي نقيض الحياة، وكاشفة بعض تجلياته المشهدية لأول مرة، ويبقى الأمل لفك شفراتها في العلم المجرد من الهوى والوعي الإنساني الخالص الحر مع أخذ قضية الروحانيات في الاعتبار لكن بصوفية ألمعية وبلا أدنى شعوذة ولا دجل.. ويجب أن يكون للعرب نصيب من المشاركة الفعالة في محاولة فهم ما يدور،على الأقل لنفي صفة اللاعلمية التي التصقت بهم مدى الأجيال.