منوعات

مداواة الجنون بالإنسانية.. تجربة بنديك الرائعة

في أحيان كثيرة قد تأخذنا الدهشة من سلوك أو أفعال غريبة تصدر عن هذا الشخص أو ذاك فنسارع إلى اتهامه بالجنون؟ لكن هل فكرنا يوما أن الجنون قد يكون فينا نحن وليس العكس؟

عندما نرى مريضا عقليا لا نتوانى عن وصفه بالجنون، لكن الحقيقة أنه لا معنى علمي للجنون، فالجنون كما تعرفه قواميس اللغة – كما في المعجم الوجيز (جن جنونا يعني زال عقله، والجنون الذاهب للعقل أو فاسده). لا شىء متعين (عضوي) في الجسد يسمى عقل، فالعقل هو عمل المخ الذي يستحيل فساده فسادا كليا، قد تضطرب وظائفه لكن فساده فسادا كليا مؤكدا يعني القضاء على الحياة ذاتها.

رفض الواقع

الجنون في بعض حالاته قد لا يتعدى محاولة لتجاوز شروط الواقع وصناعة عالم خاص يتجاوب مع الاحتياج النفسي والعقلي للمريض، هو رفض لمنظومة من القيم والعادات والمواقف والسلوكيات ابتدعتها واتفقت عليها مجموعة من العقليات البشرية التي يكون من الأحرى وصفها بالجنون، في نظر من نتهمهم بذلك.

في علم النفس لا تزال الأسئلة مطروحة حول ما إذا كانت أسباب المرض وراثية أم نفسية أم راجعة للتنشئة وصدمات الطفولة؟ لكن السؤال الأهم يبقى حول إنسانية هؤلاء المرضى..هل فقد هؤلاء إنسانيتهم أم يمكن تصنيفهم ضمن إطار من الإنسانية المشروطة؟

في ستينات القرن الماضي انتبه أحد الأطباء النفسيين ويدعى(اشتيفان بنديك) إلى خطورة هذا التساؤل، ما دفعه لإجراء تجربة علمية في علاج مجموعة من نزلاء إحدى المصحات العقلية، هي مصحة (جرانج). استغرقت تجارب بنديك نحو ثلاث سنوات، كان خلالها يحارب على كافة الجبهات في الداخل والخارج معا، ضد الرياء الاجتماعي وضد البيروقراطية، وضد القسوة والجهل لدى القائمين بالتمريض، على حسب وصفه.

من خلال مشاهداته الطبية طوال فترة عمله في مصحة (جرانج) توصل بنديك إلى حقيقة هامة، هي أن المرضى أصحاب الحالات المستعصية على اختلاف وتنوع حالاتهم يشتركون في أمر واحد، هو فقدان صلتهم بالمجتمع، لم يعد لهم انتماء على الإطلاق في مجتمع هم عاجزون عن الانصياع والموءامة معه، بنفس درجة عجز المجتمع عن استيعابهم وتقبلهم.

مجتمع مواز

كان أفضل ما يمكن أن تقدمه مصحة (جرانج) وفقا لبنديك هو خلق مجتمع مواز حقيقي، عالم يوائم نفسه لهم، يفرضون عليه هم شروطهم لا العكس، عالم حقيقي ملىء بالنقاش والأحلام والثرثرة والحرية، يجد فيه المريض عوضا عن العالم الذي غادره مضطرا أو بإرداته، عالم مصنوع وفق لاحتياجات المرضى ليكون بمثابة بيئة علاجية لكن في الوقت ذاته يجب أن يكون عالما حقيقيا.

المهمة كانت تتطلب أن يعاد تأهيل جميع العاملين بالمصحة حتى تتوفر لهم درجة الوعي بالبرنامج النفسي الذي يعدون له، وهو ما عمل عليه د. بنديك خلال ستة أشهر، فالغرض هو أن ينقل لهم الروح التي يتعاملون بها مع هؤلاء المرضى باعتبارهم بشر لم يفقدوا إنسانيتهم، دون تعريفهم بالنظرية العلمية التي يسعى لاختبار مدى صحتها.

كان دكتور بنديك على وعي بخطورة ترك مرضاه للفراغ والملل، فثمة علاج بالعمل يعيد الرغبة في الحياة إذ يصبح لها قيمة، ملأ أوقاتهم ببرامج من الترفية والأنشطة الرياضية وحتى الندوات الثقافية، وكانت المفاجأة حجم التفاعل من المرضى مع تلك البرامج والندوات إلى الحد الذي جعل دكتور بنديك يقول: من الخطأ الظن بأن البلهاء ليس في مقدورهم الاهتمام بهاملت وجار تودو وعصر النهضة، ومخطىء من يظن أن هذه الأحاديث لا يفهمها إلا الصفوة، فقط يتعين علينا أن نتعلم كيف نقوم بتوصيلها بحيث يتقبلها أي فرد.

ميلاد جديد

أهم ما توصل إليه دكتور بنديك أن توفير بيئة علاجية تراعي إنسانية هؤلاء المرضى وتتجاوب مع عالمهم الخاص هو ما يتيح لهم فرص أكبر للتداوي والاستجابة لبرامج التأهيل النفسي.

وعلى الرغم من استعماله الوسائل العلاجية الفيزيائية المعتادة كالأدوية والصدمات الكهربائية، إلا أن استعمالها بوسائل أكثر أخلاقية وأكثر إنسانية سيضمن لها فرص أكبر من تحقيق الفاعلية، فحالة الرعب والخوف اللذان يسبقان تعرض المريض لجلسات الصدمات الكهربائية يحدثان تأثيرا أكثر سلبية من إيجابيات الخضوع للجلسة ذاتها، لذلك كان يلجأ إلى إخضاع المريض للعلاج بالصدمات الكهربائية أثناء فترات نومه واسترخائه، ليستيقظ المريض ليجد في إنتظاره وجه أكثر أريحية يباشره في لحظة الميلاد الجديد.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock