تنطلق أهمية كتاب «رسائل من مصر»، لصاحبته الليدي «لوسي دوف جوردون»، والذي ترجمه مؤخرًا الكاتب الكبير «إبراهيم عبد المجيد»، من أنه حصيلة معايشة محايدة تمامًا، لمدة خمس سنوات قضتها مؤلفة الكتاب في مصر، وبالتحديد في مدينة الأقصر، نقلت خلالها بعين وقلم وقلب الأديبة ما حدث معها ولها، وسجلت فيها ملاحظاتها البديعة التي لا تخلو من الدراما الواقعية.
فعبر رسائلها، التي بلغت 131 رسالة، وبما حملته ألم موجع تصف الكاتبة البريطانية ما كانت عليه أحوال أهل الصعيد في فترة حكم الخديوي إسماعيل، عاكسة للظلم والقهر والحزن والفرح والجهل والمرض، بالإضافة إلى جذور النسيان التاريخية للصعيد وأهله.
في احتفالية أقامها أتيليه القاهرة، مساء الخميس الماضي، لتوقيع كتاب «رسائل من مصر»، كشف الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد، كواليس ترجمته للكتاب، مؤكدًا أن الكتاب أرهقه كثيرًا، وأنه تأثر بما تضمنته رسائل الكاتبة من معان وقيم وتفاصيل مؤلمة.
وكشف عبد المجيد عن وجود شخصيات كثيرة في الكتاب غير معروفة مثل الشيخ أبو الحجاج الأقصري، والذي وصفه بأنه كان يتحدث بأسلوب أفضل من رفاعة الطهطاوي، وأيضًا وجد ظلمًا واقعًا على الشعب المصري في الأقصر.
فمن خلال الكتاب تروي «الليدي جوردون» كيف أنها كانت تقوم باستخدام الأعشاب الطبيعية في علاج بعض الأمراض بين أهالي الأقصر، فتحولت لقديسة في أعينهم، وأخذ ناس الأقصر يدعون لها في المقامات المختلفة للأولياء كما هو حال أهل الصعيد. محبة المصريين لدوف جوردون – كما يقول عبد المجيد -بلغت عنان السماء، لدرجة أنهم كانوا يبتهلون من أجلها في مولد سيدي أبو الحجاج في الأقصر، ومولد سيدي عبد الرحيم القناوي في قنا.
الليدي «لوسي دوف جوردون»
ويضيف عبد المجيد أن المصريين وجدوا في هذه السيدة ملاذا لهم في الحياة، ولم يعترفوا بغيرها مبعوثا للإنسانية في أعظم صورها، «كم كانت عظيمة هذه السيدة، جديرة بما خلعه عليها المصريون البسطاء من ألقاب، وهو ما وضح ليّ جليا أثناء ترجمتي للكتاب».
كانت الليدي جوردن تتلقى الهدايا مثل الجبن الذي يحمله أهل الأقصر على الحمير، وغيرها، وكان وزوجها أستاذ قانون في بلده الأصلي، وهي نشأت في بيت مثقف حقيقي يستضيف علية القوم في انجلترا، وكان من ضيوف بيتهم تشارلز ديكنز وغيره، في المجمل كانت هذه السيدة إنسانة جميلة.
ويشير عبد المجيد إلى أن رسائل السيدة التي أحبها المصريون وأحبتهم، تحكي تاريخ الناس العادية، لدرجة أن أطلقوا عليها لقب الست، وآخرين البشوشة، أو نور على نور كما أسموها.
الروائي الكبير «إبراهيم عبد المجيد»
ويقول عبد المجيد إن الكتاب أبكاه وأبهجه كثيرا وهو يقوم بترجمته، «فالمصريون البسطاء وغير البسطاء منهم والحياة في عصر إسماعيل باشا، الحياة التي لايتوقف عندها المؤرخون إلا نادرًا، فالتاريخ لدينا لايزال تاريخ القادة والزعماء».
ويضيف :«حين كنت أترجم الكتاب كنت أبكي تاثرًا، كانت الحياة صعبة جدًا، وهناك أشياء لا يعرفها أحد، وأظهرت الرسائل أعظم مظاهر الحب لمصر والمصريين، أبكاني الكتاب أكثر من مرة، وأمتعني غاية المتعة، وأنا أرى الحياة البسيطة للمصريين خالية من كل تعصب بين الأديان، حافلة بالتسامح، وأرى الغائب في كثير من كتب التاريخ عن الظلم الذي عاناه الشعب المصري، تحت حكم الخديوي إسماعيل، والمشاعر المتدفقة من الخدم الأطفال والكبار، العبيد والأحرار وتعلقهم بتلك السيدة العظيمة».
من ناحيته أعرب الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الأداب جامعة القاهرة، عن سعادته بترجمة إبراهيم عبد المجيد لكتاب «رسائل من مصر»، لمؤلفته ليدي دوف جوردون، مشيرًا إلى أنها المرة الأولى التي تخرج فيها الرسائل كاملة. وقال إن أهمية الكتاب تكمن في أنه ألقى الضوء على صعيد مصر بشكل عام، ومدينة الأقصر بشكل خاص، مؤكدًا أن تاريخ الصعيد لم يكتب حتى الآن.
الدكتور محمد عفيفي
وأضاف «عفيفي»، خلال الاحتفالية، أن أهمية الرسائل لا تعود فقط إلى أن الكاتبة «ليدي دوف جوردون» تعد من أهم الكاتبات فى الأدب الإنجليزى فى القرن التاسع عشر، لكن لأنها تغطي فترة مهمة من تاريخ مصر من عام ١٨٦٢ إلى ١٨٦٩، أى فترة حكم الخديوي إسماعيل.
وأشار عفيفي إلى أن الرسائل احتوت على وصف ثرى ومثير عن الموالد فى صعيد مصر، لا سيما مولد سيدى أبو الحجاج ومولد سيدى عبدالرحيم القناوى، وربطت بين العبادات المصرية القديمة، والتبرك بالقديسيين المسيحيين والأولياء المسلمين فى صعيد مصر. كما تطرقت إلى البعثات الأثرية الأجنبية لاكتشاف الآثار فى صعيد مصر، ورصدت عمليات كثيرة لسرقة ونهب الآثار المصرية القديمة لصالح أوروبا.
هكذا عاشت المؤلفة فى أقصى صعيد مصر وسط البسطاء من الناس، وقامت بعلاجهم، فأحبوها حتى أطلقوا عليها «الشيخة الست نور على نور»، وهو ما يدل على تسامح المصريين وقبولهم الآخر طالما بادلهم الحب بالحب. وقد ماتت ودُفنت في مصر أيضا.
يذكر أن الأديبة البريطانية لوسي دوف جوردون، التي جاءت للشفاء من مرض السل عام 1862، توفيت فى القاهرة فى ١٤ يوليو ١٨٦٩ ودفنت في مصر.