رؤى

«خراب مصر».. كتاب يروي كيف خرّبت السياسات الاستعمارية الاقتصاد المصري (2-2)

استعرضنا فى الحلقة الماضية تلك الجوانب الخاصة بصدور كتاب «خراب مصر» لمؤلفه الروسى «تيودور روزشتين» الذى صدر لأول مرة عام 1911 وبتناول فيه الخراب الذى أحدثته السياسات الاستعمارية في الاقتصاد المصري، سواء قبل  الإحتلال الإنجليزى أو بعده، وذلك  على مدار الفترة الزمنية منذ الاحتلال وحتى  تأليف الكتاب والتى بلغت 28 عاما.

وفى هذا الجزء الثاني والأخير من المقال نعرض لتفاصيل ما جاء بالكتاب – الذي اعيدت طباعته عشر مرات بمسميات مختلفة – من شرح واف، ومقارنة كاشفة لأوضاع مصر الإقتصادية قبل وبعد الاحتلال الإنجليزى.

نهضة اقتصادية

يمر الكتاب مرورا مهما على أوضاع وأحوال مصر الاقتصادية قبل الاحتلال الانجليزى و منذ منتصف القرن التاسع عشر حيث «كانت مصر من أكثر بلاد الشرق رخاء بلا جدال، إذ كانت نفقات المعيشة فيها منخفضة إلى درجة لا تكاد تصدق، حيث كان «قرش صاغ» واحد كافياً لسد حاجات أسرة بأكملها في اليوم على سبيل المثال، هذا في الوقت نفسه الذي ازدادت فيه العناية بالمشروعات العامة كالسكك الحديدية، والقناطر الخيرية، وترع الري الجديدة، فضلاً عن بدء إدخال التلغراف والطلمبات البخارية، كل ذلك في ظل ارتفاع عوائد صادرات مصر من القطن إلى ثلاثة أضعاف بسبب ظروف الحرب الأهلية الأمريكية التي أوقفت صادرات القطن من مزارع الجنوب الأمريكي».

 وفى الفصل الثالث تحت عنوان «المالية العليا» يلقي «روزشتين» نظرة عامة على حال مصر الاقتصادية وينقل جزءا من تقرير مراسل جريدة التايمز البريطانية في 6 يناير سنة 1876، والذي يقول فيه: «إن مصر مثال للرقى عجيب، لقد أدركت من التقدم في سبعين عاماً – ويقصد مراسل التايمز تلك المساحة الزمنية الممتدة من بداية حكم محمد علي عام 1805، إلى وقت كتابة تقريره فى أوائل يناير 1876- ما لم تدركه أمم كثيرة أخرى في خمسمائة عام».

ومن الثابت أنه في عهد إسماعيل، وفى الفترة ما بين عامي 1863 و1875، أنشئت قناة السويس، وحفرت 112 ترعة بلغ إجمالي أطوالها 8400 ميل، وزاد طول السكك الحديدية من 275 ميلاً إلى 1185 ميلاً، ومُد ما يزيد على 5000 ميل من خطوط التلغراف، وتمت إقامة 430 جسراً، منها جسر الجيزة الذي ظل زمناً طويلاً من أحسن جسور العالم، وأنشئ مرفأ الإسكندرية، وبُنيت أحواض السويس، ونُصبت 15 منارة واقيم 64 مصنعا للسكر، وجرى تطوير شوارع القاهرة وغيرها من المدن. واستنفدت هذه الأشغال وحدها بأكثر من 46 مليوناً من الجنيهات، وبفضلها أستصلح من الصحراء أكثر من مليون وربع المليون فدان، وزاد عدد السكان بنحو 685 ألف نسمة، وتضاعفت التجارة الخارجية، حيث ارتفعت قيمة الواردات بنحو 270%، وزادت قيمة الصادرات بنحو 310 %

خطايا اسماعيل.. والجشع الغربى

ويسوق «روزشتين» الكثير من الشهادات والتقارير التي تؤكد أن الخديوي إسماعيل «لو اقتصر على الإصلاحات المذكورة وغيرها بتأن وروية، لما وقع في عسر مالي شديد، لأن هذه الإصلاحات التي أقدم عليها كانت تحتاج إلى زمن طويل لتؤتي ثمارها المنشودة». ويوضح «السير صمويل بيكر»، الذي قاد حملة مصرية في عهد إسماعيل لاكتشاف منابع النيل بسطت نفوذ مصر عليها، أن إسماعيل  أخذ على عاتقه – أن ينجز في وقت قصير ما يقتضي إنجازه سنين طويلة. وفي تقرير «مستر كيف» الذي أوفدته بريطانيا لدراسة وضع مصر المالي وقدرتها على سداد ديونها، يسجّل أن مصر تكابد النفقات التي تدعو إليها «العجلة والاعتساف» في اتباع المدنية الغربية، لكنه أعترف بأن موارد مصر، إذا أحسنت إدارتها تكفي لأداء الديون المصرية متى كانت ذات فائدة معقولة، ويسجل أيضا أن النفقات كانت باهظة، لكنها لم تكن لتؤدي وحدها للأزمة، التي ترجع كلها تقريبا لشروط القروض.

وقد أكد السير «جورج اليوت»، الذي دعاه إسماعيل قبل «مستر كيف» لفحص المالية المصرية فحصاً دقيقاً، في عام 1876: «أن مصر تستطيع أداء جميع الفوائد وأقساط الاستهلاك التي تحررها من ديونها، ويتبقى لها بعد ذلك فضل سنوي يكفي لسد جميع حاجاتها الضرورية».

ويرى «روزشتين» أن آفة مجهودات إسماعيل في الإصلاح هي «العجلة والاعتساف»، ولكن تلك العجلة وهذا الاعتساف لا يؤديان وحدهما إلى الخراب المالي التام الذي حمل إسماعيل على إعلان إفلاسه. ويحمّل «روزشتين» ما أسماه بالجشع الغربي، إضافة إلى مخابث الماليين الأوربيين، المسئولية التضامنية عما حلَّ في مصر من خراب. ويشير إلى أن مصر حُمِّلت في آخر عام 1875 بدين ثابت يزيد على 68 مليون جنيه، لم يدخل خزانتها منه إلا أقل من 34 مليون جنيه، وذهب الفرق إلى جيوب الدائنين ووكلائهم على هيئة سمسرة وخصم وعدة تكاليف أخرى ما أنزل الله بها من سلطان

 يُضاف إلى ذلك أن المصارف الانجليزية والفرنسية عمدت إلى إغراء «الخديوي اسماعيل» بعقد قروض فاحشة الربا، آخرها قرض عام 1873، لأداء الديون السائرة التي بلغ مجموعها 28 مليون جنيه، وبلغت قيمة القرض الإسمية 32 مليون جنيه، بفائدة 7%، ولكن الشركة التي أقرضت اسماعيل هذا القرض لم تدفع إليه غير 20.7 مليون جنيه، واحتفظت لنفسها بالباقي الذي يبلغ 12 مليون جنيه، تفاديا لما تستهدف له من أخطار المجازفة.

ويضرب «روزشتين» الكثير من الأمثلة على تلك الأساليب، التي عزا إليها البؤس الذي أصبحت عليه مصر في عام 1876، على الرغم من التقدم العظيم الذي بلغته في الثلاث عشرة سنة السابقة على ذلك العهد، ويذكر منها أن مقاولي إنشاء ميناء الاسكندرية أخذوا نحو 80 % فوق ما يستحقون، وأخذ من كانوا يمدون السكك الحديدية أكثر من أربعة أمثال ما يستحقونه، وكذلك فعل من أقاموا مصانع السكر وآلات جلب المياه وغيرها، وهي الأساليب الملتوية التي أضيفت إلى أسباب أخرى كثيرة، أدت كلها مجتمعة في النهاية إلى «عوز مصر المالي»، الذي استخدم من بعد ذلك كمبرر للتدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية

تفنيد ذرائع الإحتلال

لقد قدم «تيودور روزشتين» فى كتابه بحثاً دقيقاً فنًّد عبر سطوره كل ذرائع الاحتلال الإنجليزي بمصر، وهو ،وإن لم يركز على قضية الاحتلال باعتبارها عدواناً على استقلال وسيادة الدولة المصرية، إلا أن قضيته الرئيسية تركزت حول تفنيد الادعاء البريطاني بأن إنجلترا لم تكن مسئولة عما تورطت فيه مصر من الدين، والزعم بأنها هي التي أنقذتها من الإفلاس، فاستنقذتها من الخراب، وأنها نجحت في إدارة المالية المصرية، لينتهي إلى أنه على عكس المزاعم البريطانية. فقد كانت «السياسات الاستعمارية التى سبقت الاحتلال وتلته أيضا هي السبب الأكبر في خراب مصر».

..وأخيرا

«لعل قراءة التاريخ وفهمه، ووعي دروسه وخبراته، هي أقرب وأسلم السبل إلى فهم الحاضر، والوعي به، ومن ثم التسلح لمواجهة تحدياته، خاصة إذا كان «الماضي» الذي نقرؤه تاريخاً متصل الأسباب، ممتد التأثيرات في «الحاضر» الذي نعيشه، وبالتالي مؤثراً  في نضالاتنا من أجل «المستقبل»، الذي نتطلع إلى صنعه بأنفسنا، لا أن ندع صنعه إلى «نفس القوى» التي خربت ماضينا، وأثقلت كاهل حاضرنا، وإن اختلفت أسماء الذين غزوا أوطاننا بالأمس عن أسماء من يغزونها اليوم، وإن تنوعت واختلفت أساليب أولئك عن أساليب هؤلاء، فالجوهر واحد دائماً لم يختلف، والهدف ثابت دائماً لايزال.. إنه تخريب أوطاننا، ونهب ثرواتنا، وتقويض كياننا، والحيلولة دون نهضة أمتنا، وامتلاكها لمقدراتها»

هكذا قدمت «دار الوحدة» طبعتها لكتاب «خراب مصر» إلى قرائها، وهو نفس ما أومن به، وأوافق عليه، ولا أزيد عليه حرفاً، ولا أنقص منه نقطة.

اقرأ أيضا:

وعن كتاب "خراب مصر" يقول المستر ولفريد سكاون بلنت، السفير والشاعر والكاتب الارستقراطي الرحالة: "هذا الكتاب وضعه رجل ليس…

Posted by Aswat Online on Thursday, November 21, 2019

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock