قبل أيام مرت الذكرى ال 138 لإندلاع الثورة العرابية التي قادها الزعيم الوطني أحمد عرابي ضد الخديوى توفيق وضد التدخل الأجنبي في شؤون مصر.ورغم مرور كل تلك السنوات لاتزال أحداث هذه الثورة وما أعقبها من تداعيات كبرى،تثير الجدل والنقاش بين محبي عرابي وخصومه.
في هذا المقال نسلط الضوء على صفحة مهمة من صفحات تلك الفترة ،وتتعلق بخطة القائد العسكري أحمد عرابي للتصدي للقوات الإنجليزية ومنعها من إحتلال مصر عبر قناة السويس، وما إذا كان عرابي قد أخطأ حين رفض نصيحة بعض اصدقائه المخلصين بردم مدخل القناة لمنع تقدم القوات الغازية؟.
في واقع الأمر لم يكن الزعيم أحمد عرابي يجهل أهمية ردم مدخل قناة السويس لصد القوات البريطانية التي نفذت إلى مصر عبر بوابتها الشرقية كما زعم خصومه.فقد نصحه أصدقاؤه المخلصون بضرورة ردم القناة، لكن الرجل كان له رأي آخر، فالإقدام على خطوة كتلك كان سيعمل على تعزيز الصورة التي أراد الخديوي توفيق تصديرها عن عرابي ورفاقه منذ بداية الثورة،باعتبارهم حفنة من العصاة والمتمردين الطامعين في السلطة.
ربما لو أدرك عرابي مبكرا أن ردم مدخل القناة كان سيقطع الطريق أمام دخول القوات الإنجليزية بقيادة الجنرال جارنيت ولسلي، لتمكن الجيش المصري من صد القوات الغازية للمرة الثانية بعد أن نجح في إرغامهم على الانسحاب من كفر الدوار، ولتغيرت وفقا لتلك الفرضية وقائع التاريخ، ولأُعلنت الجمهورية المصرية على أنقاض حكم أسرة محمد علي قبل أن يعلنها عبد الناصر ورفاقه بعد 70 عاما من هزيمة العرابيين، ولتطورت الحياة النيابية التي كانت في طور التكوين آنذاك، ولزينت العواصم العربية بتماثيل أحمد عرابي أول مؤسس لنظام الحكم الجمهوري في الشرق الأوسط، لكن التاريخ كان له رأي آخر.
تردد عرابي في ردم القناة، وعندما استقر الرأي على ردمها كانت الواقعة قد وقعت، فدخلت القوات الغازية إلى مدينة السويس وهُزم العرابيون في التل الكبير وحُكم على زعماء الثورة بالإعدام ثم خففت الأحكام إلى النفي، وتم إحتلال مصر لنحو 70 عاما، واستمرت أسرة محمد علي في حكمها تحت الاحتلال البريطاني، حتى خرج أحفاد عرابي في 23 يوليو من عام 1952 ليحققوا حلم الثورة ويؤسسوا الجمهورية الأولى.
ماذا جرى؟.. ولماذا رفض عرابي في البداية ردم قناة السويس؟، ولماذا عدل عن موقفه بعد فوات الأوان؟.
نصيحة نينيه
جون نينيه عميد الجالية السويسرية الذي أقام في مصر منذ حكم محمد علي وعاصر أحداث الثورة العربية واقترب من قادتها يقول في كتابه «عرابي باشا» أنه نصح زعيم الثورة أكثر من مرة ومازالت المعركة مشتعلة في كفر الدوار بردم القناة، لكن عرابي أحجم عن سدها في حينه وتمسك برأيه على الرغم مما كانت تقضي به الخطط الحربية الفنية، «على الرغم مما ذهب إليه زملاؤه وما ذهبت إليه أنا وكررته له عشر مرات، تارة بشديد الكلام، وتارة بالكتابة، على الرغم من ذلك كله ظل عرابي على رأيه فمهد للجنرال ولسلي نصرًا من أسهل ما عُرف في تاريخ الحروب».
ويضيف نينيه أنه حذر العرابيين من الإنجليز واستخفافهم بالقوانين والمعاهدات الدولية، “لن يجد الإنجليز صعوبة في احتلال القناة فهم لا يبالون بالمعاهدات والقوانين ولا يعنيهم إلا مصالحهم، وإذا بلغوا الإسماعيلية فمعنى ذلك أن الحملة بلغت النهاية”.
كان عرابي قد عبر عن احترامه والتزامه بالقوانين وتعهد بعدم المس بقناة السويس في بداية هجوم القوات البريطانية على مصر، وصرح لمراسل إحدى الصحف بالإسكندرية قبل أن يضربها الإنجليز قائلًا: «سوف نحترم القناة ما دام العدو يحترم استقلالنا، ولكن إذا نشبت الحرب فإننا سنهدم القناة مؤقتًا عند أول طلقة من مدفع، وسأفعل ذلك آسفًا؛ لأن القناة من طرق التجارة المحايدة».
في كتابه «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» يرى الدكتور محمود الخفيف أن أكبر أخطاء عرابي وأركان حربه، أنهم أهملوا هذا المنفذ الشرقي إلى مصر إهمالًا قل أن نجد له نظيرًا، وصُرف همهم كله إلى كفر الدوار، «لعل مرد ذلك فيما أفهم من حوادث هذه الحرب إلى خطأ آخر لا يقل خطره عن هذا الخطأ الأول ألا وهو اطمئنان عرابي وأصحابه إلى حيدة قناة السويس وحرصهم على إرضاء الدول بالمحافظة عليها».
ديلسبس وحياد القناة
كان عرابي يظن أن للقناة حرمتها الدولية، ووثق زعيم الثورة في وعد ديلسبس رئيس شركة قناة السويس الذي أقسم له بشرفه أن القناة منطقة حياد وبقعة تحرم فيها العمليات الحربية، «لن يجرؤ بريطاني واحد على النزول إلى البر، وأنا مسئول عن ذلك.. إن القناة في عهدتي، ولن تمر فيها أية سفينة حربية حسب نصوص المعاهدات الدولية».
اقرأ أيضا:
عرابي المفترى عليه: الأميرال الذي طالب بالدستور، ورفض اغتيال الخديوي via @aswatonline https://t.co/m5Tx8TWjgL
— أصوات Aswat (@aswatonline) September 12, 2019
ويحمل المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي أحمد عرابي مسئولية إهمال تحصين الجبهة الشرقية وعدم ردم القناة وذلك لانخداعه بتعهدات دليسبس، في حين يرى الإمام محمد عبده أن عرابي لم يقدم على تلك الخطوة حتى لا يهيج عليه الدول المستفيدة من القناة وهو في هذه الظروف الصعبة، «كان يظن أن مس القنال يهيج عليه جميع الأمم لهذا ترك هذه الناحية عوراء».
ويرد عرابي على هذه المسألة في مذكراته قائلا: «التلغرافات التي تداولتها مع المسيو ديلسبس تؤكد احترام قنال السويس مادام على الحياد، ولم تتخذ فيه أعمال حربية، فلغاية دخول المراكب الحربية الإنجليزية في قنال السويس وحصول الضرب منها في نفس الإسماعيلية على العساكر التي كانت بجهة نفيشة كان احترام القنال واقعا».
أحسن عرابي الظن بالفرنسيين، واعتقد أنهم لن يسمحوا باحتلال القناة وذلك دفاعا عن مصالحهم وعن سمعة إدارتهم لهذا الممر المائي الدولي، والذي يعتبر مشروعا فرنسيا لا علاقة لأي جهة أوربية به، إضافة إلى ذلك وضع عرابي في حسبانه ردود فعل الدول الأوربية التي أقنعها الإنجليز بأن الأخطار تحيط بمصالحها في المنطقة، بسبب حركة العرابيين.
فبعد ضرب الإنجليز للإسكندرية، وخلال مؤتمر الإستانة الذي عقد في يونيو من عام 1882 بدعوة من فرنسا للنظر في المسألة المصرية، أثار الإنجليز مخاوف الدول الحاضرة، وحاولوا إقناعهم بأن الظرف القاهر الذي يستلزم التدخل الحربي في شؤون مصر لا يزال قائمًا، وأنه لابد من حماية قناة السويس.
القناة واحتلال مصر
قبل وصول الإنجليز بنحو 5 أيام وبعدما اتضحت الرؤية لعرابي ورفاقه أصدر القرار بردم مدخل قناة السويس وإغلاقها أمام دخول السفن الإنجليزية، وتحركت قوات بالفعل نحو الشرق لتنفيذ القرار، وشرعت في تدشين تحصينات، تمهيدا لبدء عملية الردم، ألا أن القوات الغازية التي تحركت من باب المندب جنوب البحر الأحمر كانت قد وصلت وتمركزت وبادرت بالهجوم.
في 22 يوليو 1982وبدعوى تدشين قوات عرابي تحصينات على الساحل غربي بورسعيد في طابية الجميل على مدخل بحيرة المنزلة، أصدرت الحكومة الإنجليزية أمرها إلى الأدميرال بوشامب سيمور باحتلال بورسعيد والإسماعيلية، وفي السادس والعشرين من نفس الشهر اخترق الإنجليز قناة السويس بحجة الدفاع عنها مما يحدق بها من خطر لينقذوا التجارة الدولية من كارثة محققة، وتوالى دخول القوات الإنجليزية حتى تمكنت في الثاني من أغسطس من احتلال السويس بغير مقاومة، وأصدر عرابي أوامره بإخلاء المدينة وترحيل أهلها بالقطارات.
تهديد إنجليزى لفرنسا
ردا على مزاعم بعض من اتهموا عرابي بالجهل وعدم قراءة المشهد مبكرا وتردده في ردم القناة، وعلى الرواية التي اعتمدتها كتب التاريخ باعتبارها من الحقائق المقررة بأن مسيو دي ليسبس رئيس شركة قناة السويس «ضحك على عرابي» وأقنعه بأن الحكومة الفرنسية لن تسمح باستخدام القناة في استخدام حربية، يقول محمود الخفيف: «نخالف هؤلاء في أن ديلسبس كان يخدع عرابي وأن عرابي جازت عليه الخدعة ونخالفهم في أن عرابي لم يفطن بسبب جهله إلى أهمية ردم القناة كوسيلة من وسائل الدفاع، ونخالفهم في أن عدم ردم القناة كان السبب الأساسي للهزيمة، ونخالفهم في أن عرابي أحجم بسبب جبنه عن ردم القناة، ونخالفهم في أن العمل كان من السهولة كما يصفون».
وقد عرض الخفيف عددا من المراسلات بين نائب القنصل البريطاني في الإسكندرية مستر كارتريت واللورد جرانفل وزير خارجية بريطانيا والتي تثبت أن ديلسبس والفرنسيين لم يبيتوا النية لخداع عرابي، وأنهم كانوا صادقين عندما وعدوه بحيدة شركة قناة السويس، لكن تغير الظروف واستقالة حكومة فرنسا، وتهديدات انجلترا المباشرة، جعلت ديلسبس يخضع للأمر الواقع، فلم يكن يملك أن يعاند بريطانيا العظمى دون دعم من حكومة بلاده الجديدة التي أعطت ظهرها للمسألة المصرية.
مسيو دي ليسبس
ونقف عند إحدى الرسائل الكاشفة التي بعث بها جرانفل إلى سفير انجلترا في باريس، والتي قال فيها: «أرغب أن تبسط للحكومة الفرنسية أن حكومة جلالة الملكة وصل إلى علمها أن المسيو ديلسبس يعارض معارضة قوية أعمال حكومة جلالة الملكة في مصر، وذلك بتهديده بتعطيل القناة إذا أنزلت جنود بريطانيا في أي مكان في القناة أو على مقربة منها، وحكومة جلالة الملكة لا ترغب الآن أن تتخذ شيئًا لقاء ما حدث منه، نظرًا لأنه من رجال فرنسا ذوي المكانة، ولأنه رئيس مجلس إدارة الشركة، إلا إذا ألجأتها الضرورة الملحة إلى ذلك، وأن الحكومة لتأمل أن تتجنب هذه الضرورة وذلك بما تبسطه الحكومة الفرنسية للمسيو ديلسبس مما يصرفه عن مسلكه، وأن حكومة جلالة الملكة لواثقة من أن لها أن تتوقع هذا من الحكومة الفرنسية؛ نظرًا لما بين الدولتين من علاقات الصداقة ولاتفاق مصالحهما في القناة وفي شؤون مصر بوجه عام».
نجحت انجلترا بما تملك من أدوات في هذا الوقت، في إقناع الرأي العام الدولي بأنها تتعامل في مصر مع عصاة ومخربين، وكان عرابي ورفاقه يدركون ذلك ويتحسبون له، وبالتالي ظلت مسألة ردم مدخل قناة السويس معلقة، خوفا من تثبيت الصورة التي رسمها الإنجليز للعرابيين، وحرصا على أن يظهر عرابي للعالم أنه خرج للحصول على حقوق الشعب ومطالبه العادلة دون عدوان أو تدمير.
النبل وحده لا يكفي
في كتابه «التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر» يرى مستر الفريد سكاون بلنت الذي عايش أحداث الثورة أن عرابي وضع مبدأ في بداية الحرب وهو أنه لن يقترب من القناة وسيحترم حيدتها إلا إذا ارتكب الإنجليز أعمالا عدوانية في الإسماعيلية وبورسعيد، «هنا نجد المبدأ قد وضع وضعًا طيبًا في وضوح ولكن موضع الضعف فيه يرى في أنه يدع للعدو أن يقترف أول خطوة عدائية بدل أن يحول بينه وبين ذلك من قبل ويمنعه».
تسبب تردد عرابي في اتخاذ قرار ردم مدخل قناة السويس، في دخول القوات الإنجليزية، ورغم ذلك أبدت قواته بسالة منقطعة النظير في مقاومة الغزاة في معركة القصاصين الثانية، لكن الخيانة التي تعرض لها جيش عرابي من البدو وانقلاب بعض العمد وكبار القبائل عليه بعد أن أصدر السلطان العثماني فرمانا بعصيانه، أدى إلى هزيمة العرابيين في معركة التل الكبير في 13 سبتمبر من عام 1882.
لا شك أن الزعيم أحمد عرابي من أنبل وأصدق الشخصيات التي مرت على تاريخ مصر الحديثة، لكن النبل وحده لا يكفي، وحركة التغيير لا يحركها إلا أصحاب المبادرة واغتنام الفرص.
رفض الزعيم الاستماع إلى نصيحة صديقه المخلص البكباشي محمد عبيد بالتخلص من الخديوي توفيق وأسرة محمد علي وإعلان الجمهورية المصرية، وتردد في تنفيذ نصيحة أصدقائه بردم مدخل قناة السويس، ووثق في عدد من المؤتلفة قلوبهم من الباشوات والعمد وزعماء قبائل البدو فخانوه وباعوه إلى أعدائه، والنتيجة سقطت مصر تحت حكم الاحتلال الإنجليزي ولاحقته الهزيمة حتى بعد عودته من المنفى، ولم يسترد اعتباره إلى بعد أن سمح للمؤرخين بالبحث والتقصي في تفاصيل الثورة العرابية وأحداثها عقب قيام ثورة يوليو 1952.
اقرأ أيضا:
البكباشي محمد عبيد.. البطل المنسي عظيم الجاه via @aswatonline https://t.co/oL2HIpREgG
— أصوات Aswat (@aswatonline) September 12, 2019