منوعات

«السُمارة» مدينة دروايش موريتانيا… حاملة لواء المقاومة

في القرن الخامس عشر بدت أنظار الأوربيين تتجه إلى الساحل الإفريقي.. وكان البرتغاليون أول الحضور بعدما أغرتهم تجارة الذهب والصمغ العربي والرق فاستقروا على الساحل وأسسوا لهم موانىء ومراكز تجارية نجحوا في السيطرة عليها قرابة القرنين من الزمان، ثم جاء بعدهم الأسبان، والهولنديون وأخيرا الفرنسيون، وقد ظلت المنافسة على خيرات افريقيا بينهم تشتد حتى مُنحت فرنسا بلاد السنغال عام 1815م بموجب الاتفاق الذي أُجري في أعقاب توقف الحروب النابليونية، وعلى مدار القرن التاسع عشر كانت فرنسا تسعى لتأمين مصالحها وتجارتها في بلاد السنغال فسعت لإقامة اتفاقات مع العديد من الأمراء المحليين في بلاد شنقيط التابعة للمغرب العربي، والتي كانت مصدرا للعديد من الهجمات على المراكز التجارية الفرنسية على طول نهر السنغال.

ثعالب الاستعمار

 فى ذلك الوقت كانت بلاد شنقيط (موريتانيا) تمثل أهمية كبرى للقوى الإستعمارية، وتربط بين عالمين مختلفين في اللغة والجنس بين شمال افريقيا العربي والإسلامي في الشمال، وجنوب افريقيا السمراء في الجنوب، وكان التواجد هناك ضروريا للاستعمار الذي يسعى للاستئثار بخيرات وموارد الجنوب وعزلها عن الشمال الذي يتسرب إليها دينا ولغة ونفوذا، ومن ثم عمدت فرنسا في البداية إلى عقد اتفاقات تجارية مع الأمراء المحليين لضمان الاستئثار بثروات موريتانيا من الصمغ العربي، ومنع تسلل مقاتلي الصحراء إلى الضفة اليمنى من نهر السنغال.

في الوقت نفسه كانت أسبانيا الزاحفة من شواطىء الأطلنطي تسعى لاختلاق موضع قدم لها في صحراء المغرب الجنوبية، حاولت ذلك من خلال بعض الحيل الاستعمارية كتأسيس الجمعية الملكية الاسبانية للجغرافيا وإرسال بعثات إلى الصحاري المغربية، وإقناع المغرب بضرورة التنازل لها عن مناطق للصيد، وفي نوفمبر من عام 1884 أرسلت بعثة غامضة الملامح والأهداف بقيادة شخص يدعى (بونيللي) و نجحت في إقامة ثلاثة أكواخ لها في بلاد شنقيط اتخذتها مركزا لعقد اتفاقات تجارية، وجمع المعلومات تمهيدا لحملة موسعة.

ماء العينين

على الرغم من ضعف الحكومة المركزية في الشمال المغربي، وتوزع الحكم في الجنوب ما بين القبائل في صحراء مترامية الأطراف إلا أن شيخا صوفيا زاهدا تنبه لهذا الخطر الداهم الذي يحيق ببلاد شنقيط شرقا من الفرنسيين وغربا وشمالا من الأسبان، وعلى الرغم من عدم امتلاكه لسلطان فعلي، وإنما كانت سلطته روحية قائمة على المحبة والاتباع إلا أن الشيخ  (ماء العينين) – وهذا هو اسمه- أصدر أوامره بمنع التعامل مع حملة بونيللي نهائيا بل ومهاجمته.

الشيخ ماء العينين

كان ماء العينين هو أحد أبناء الشيخ محمد فاضل القلقمي، ولد في الحوض شرقي موريتانيا يوم الثلاثاء 27 شعبان 1246هـ/ 1831 م، وفق الروايات فإن والده لقبه بـ(ماء العينين) لحبه لماء الآبار فماء العين أو البئر هو الذى يبقى بعد أن تجف مياه الغدران -جمع غدير- كما أن ماء العين ينهل منه كل من يمر عليه.. وهو ما أعده له والده الذي أولاه عنايته الخاصة، فتعلم على يديه القرآن الكريم والعلوم الشرعية واللغوية، وبث فيه علومه الذوقية في التصوف.

 قرأ ماء العينين على أبيه أمهات كتب الفقه وأصوله، والحديث والتفسير والتصوف والفلسفة، من بينها جمع الجوامع في علم أصول الفقه للإمام ابن السبكي مع شرحه… وقرأ عليه أيضا موطأ مالك… كتاب «تيسير الوصول إلى جامع الأصول»… و«مراقي السعود»… «الميزان» للشعراني و«رحمة الأمة للصفدي» و«بداية المجتهد» لابن رشد و«قوانين» ابن جزي و«كشف الغمة»، وغيرها عشرات بل مئات الكتب والمصنفات، وقد تصدر للتعليم والإفتاء في مدرسة والده بعدما أجازه، وفي السابعة والعشرين من عمره قرر السفر إلى بلاد الحجاز للمرة الأولى لأداء فريضة الحج.

 

رحلة طويلة

في عام 1858 انطلق ماء العينين في رحلته، وكانت رحلة بلا نهاية ولا مستقر استغرقت عشرات السنوات انتقل فيها من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى أخرى ما بين المغرب والجزائر ومصر والسودان، انفتحت عيناه على واقع العالم الإسلامي وتكالب القوى الاستعمارية على بلدانه وأوطانه، و فى سفره الطويل سمع عن الحركة المهدية في السودان، وعن ثورة العرابيين في مصر، وتوطدت علاقاته بالعديد من أمراء وسلاطين المغرب العربي الذين أكرموا وفادته للتبرك به، واستثمار شعبيته الجارفة، وتعلق الناس به مريدين ومحبين حتى صارت قافلته تضم ما يزيد عن العشرة آلاف مريد بينهم الوجهاء والعبيد والصعاليك.

على الرغم من زهده وورعه بات ماء العينين بجحافله الجرارة واتباعه ومريديه يمثل خطرا داهما على كل أرض يحل بها في تجمعات قبلية صحراوية بسيطة، ومن ثم كان عليه أن يؤسس مجتمعه ومدينته الخاصة، فشرع في بناء نواة حضرية لمجتمعه الكبير أسماها (مدينة السمارة) والتي ستصير قلعة للجهاد ورباطا للعلم، أرسل له السلطان مولاي عبدالعزيز في المغرب عشرات من البنائين والصناع المهرة لمساندته في بناء المدينة الجديدة.

مجتمع جديد

أسس ماء العينين مجتمعه الخاص، آلاف الخيام تتوسطها خيمته، وآلاف من المريدين الذين قيل عنهم ليس فيهم من لم تظهر عليه علامات التقى والصلاح، ومسجد كبير يتدارس فيه مع خلصائه من المعلمين والمريدين صحيح البخاري وموطأ مالك، مجمعات وحظائر لرعاية الخيل وتربية الأغنام والماعز، ينحر فيأكل الجميع، وكثيرا ما شوهد الإمام ماء العينين على رأس خيمته يوزع الثياب والطعام على صفوف من المريدين الذين صاروا مواطنين لمجتمعه الخاص، كان الشيخ ماء العينيين يعلمهم أوراد مختلف الطرق الصوفية، ويترك لهم حرية اختيار طريقهم الخاص فلا يحتكرهم مريدين لطريقته (فالطريق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق)، قال الشيخ إني مؤاخ لجميع الطـــرق.. أخوة الإيمــان عند المتقـــي، ولا أفــــــرق للأولــــيـــاء.. كمـــن يفـــــرق للأنـــبيـــاء).

كان الشيخ ماء العينين متعلق الخاطر بالكتب، باحثا عنها ساعيا في جمعها، حتى أنشأ مكتبة كبيرة، يقول عنها أحد أبنائه  «وقد كنت أظن أن ليس عند أحد ما عند أبي وشيخي الشيخ ماء العينين، من مشاهير الكتب وغوامضها، وشواردها وغرائبها….»

فارس المقاومة

وما أن أطل رأس الاستعمار من بوابة الجنوب، حتى بعث الشيخ ماء العينين رسائل التحريض لمختلف القبائل في بلاد شنقيط يحثها على الجهاد ومواجهة المستعمر، وصار حلقة وصل بين المجاهدين في الجنوب وبين إمارة المؤمنين في الشمال، فراسل السلطان في فاس ليدعم المجاهدين بالسلاح والعتاد، وهو الدور الذي وصفه أحد العسكريين الفرنسيين في رسائله بقوله: «إن الرجل الذي سيكون أخطر عدو لنا في موريتانيا هو شيخ السمارة، فقد برز جليا للعيان بعد مقتل كوبولاني.- وهو واحد من أعضاء البعثات الفرنسية فى منطقة الساحل- فإنه هو الذي من زاويته ينظم المقاومة ضدنا، فقد كتب إلى كل مشايخ موريتانيا يستحثهم على حمل السلاح، لمقاومة تقدمنا…»

على مدار سنوات ظل ماء العينين يمثل المحرك والداعم الرئيسي لكل حركات المقاومة للاستعمار في صحراء المغرب العربي، وقد سافر في سبيل هذا الغرض لجمع الإمدادات والسلاح – سرا وعلانية إلى سلاطين المغرب العربي سبع مرات، مما جعل محاولة اصطياده أثناء رحلاته هدفا رئيسا لقوات المستعمر الأسباني والفرنسي، إلا أن عدم استجابة ملك المغرب  لمطالب الشيخ ماء العينين تحت ضغط الفرنسيين دفع به إلى الاستقرار بتزنيت بجنوب المغرب فأقام بها سنوات وضع فيها عددا من رسائله ومؤلفاته العلمية تجاوزت الثلاثمائة مصنف قبل أن يتوفى في ليلة الجمعة 17 شوال عام 1328هـ الموافق 25 أكتوبر 1910 بتزنيت وسط المغرب والتي دفن بها، مخلفا ثروة هائلة من المؤلفات، بينما وَرِثَ دعوته الجهادية والصوفية ابنه أحمد الهيبة الذي عرف في بلاد المغرب بـ «السلطان الأزرق» والذي زحف بجيشه إلى مراكش بعد عامين فقط من وفاة والده، وكان يرفع مسبحته قائلا لمريديه اتبعوني فبهذه نصل إلى القاهرة.

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم
    شكرا على التفاتتكم الكريمة و تسليطكم الضوء على شخصية الشيخ ماءالعينين و تاريخ الجنوب المغربي، هناك بعض الملاحظات، من قبيل الصورة الموضوعة ليست للشيخ ماءالعينين و إنما لأحد أقاربه، علاوة على بعض المعلومات التي تحتاج مراجع….
    يمكنكم الاطلاع على السيرة المقدمة على بوابة موقع الشيخ ماءالعينين:
    http://www.cheikh-maelainin.com/?page_id=63

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock