فن

خالد صالح.. ابن «الموت» الذى لم يكف عن الحياة

حري بصناع الفن السابع أن يصنعوا فيلما عن حياة فتى صغير أحب السينما وعشق الفن والحياة، وحلم – رغم ظروفه الصعبة القاهرة – بأن يصبح نجما، فكان.. مر بعقبات ودروب وعرة وواجهته ظروف قاسية، حتى حقق حلمه، هكذا بالضبط تصلح حياة خالد صالح قصة لفيلم مثير تتوالى فيه محطات الحلم والحزن والأمل والصبر ثم الموت بعد رحلة حياة خاطفة.

https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/372339003646969/?t=2

أحلام صغيرة

بمقياس الزمن كانت حياة خالد صالح قصيرة، وبمقاييس التحقق كانت طويلة وحافلة ومفعمة بطعم النجاح.. ولد خالد صالح فى العشرين من يناير عام 1964 لأسرة متوسطة الحال فى قرية أبو النمرس بالجيزة.. واجه فى بداية حياته صدمتين كبيرتين.. إذ توفى والداه فى تاريخين متقاربين جدا، ليجد الطفل الصغير نفسه يتيما فى مرحلة مبكرة من حياته.

ورغم أن أخاه الأكبر «إنسان» تولى دور الوالد بالنسبة له، فإن الطفل الصغير خالدا وجد نفسه مسئولا عن حياته فى سن السابعة، فعمل فى فرن بلدى تملكه الأسرة، وكان يعمل ساعتين يوميا ويحمل على كتفيه طاولات الخبز النىء قبل أن تدخل الفرن ليصبح خبزا طازجا.. أعطى هذا العمل المرهق الشاق الطفل خالدا خبرة، وأدخله فى نار التجربة فى سن مبكرة، ومنحه عمرا أكبر من عمره بكثير. وكما قال هو فى لقاء له فى أحد البرامج التليفزيونية إنه اكتسب من عمله المبكر خبرات حياتية جبارة أفادته كثيرا بعد ذلك حينما قرر احتراف التمثيل.

فى المرحلة الإعدادية أدرك أحد المعلمين بالمدرسة أن الصبى خالدا يتمتع بموهبة جيدة فى التمثيل وأنه يمتلك كثيرا من أدوات الممثل الموهوب فى تلك السن المبكرة من حياته، فحاول أن يتبنى موهبته و أن يقدم  مسرحية من بطولته، لكن هذا المشروع الفنى البرىء لم يكتمل، غير أنه أوقد جمرة الحلم فى قلب الطفل الصغير، فملك هذا الحلم عليه كل حياته، في أن يصبح فنانا، وأن يكون نجما يعرفه الناس ويتحدثون عن بطولاته فى السينما.

 وكبر الحلم مع خالد صالح، فحاول كثيرا أن يحافظ عليه فى المرحلة الثانوية وأن يتشبث به وأن يقف على خشبة المسرح، لكنها أيضا كانت مجرد محاولات.

أقوى من الأحلام

فى المرحلة الجامعية وبالتحديد فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة التى التحق بها عام 83، ظهرت ملامح واضحة للحلم، وبات التمثيل جزءا لا يتجزأ من حياة خالد، وهناك فى الكلية التقى خالد صالح، بشركائه فى الحلم محمد هنيدى وخالد الصاوى ومحمد سعد.. كان كل منهم يشق لنفسه طريقا فى سكة الفن الوعرة، وعلى خشبة مسرح جامعة القاهرة توهج خالد صالح مع رفاقه، وأبدع فنا مسرحيا حقيقيا ينبىء عن طاقة فنية جبارة، واقترب على المستوى الفنى والإنسانى كثيرا من خالد الصاوى، وظهرت بوادر كثيرة على ان هذا الرباعى هنيدى ومحمد سعد وخالد صالح وخالد الصاوى سيكون لهم شأن كبير فى الفن المصرى. غير أن تصاريف القدر، وظروف الحياة كان لها كلمة أخرى بالنسبة لخالد صالح.انطلق الثلاثى هنيدى وسعد وخالد الصاوى وتعطل خالد صالح  وتوقف مشواره الفنى فى بدايته، إنها الظروف التى أحيانا ما تكون أكبر من قدرة البشر على التحدى.

https://youtu.be/MN5-ezqiCTM?t=14

 بعد التخرج في كلية الحقوق، وجد خالد صالح نفسه مطالبا بتدبير أمور حياته، والبحث عن زوجة ومحاولة تكوين أسرة، فعمل في مهن كثيرة، بائع فى محل للملابس، وسائق تاكسى، ثم سافر إلى الخليج ليعمل هناك حتى يستطيع تدبير تكاليف زواجه،وحين عاد إلى مصر شارك شقيقه الأكبر الذى كان بمثابة والده «الحاج إنسان صالح» فى محل للحلويات الشرقية، وكما قال خالد صالح نفسه: بدأت الحكاية بكيلو دقيق وكيلو سكر.. عملنا بها صينية كيكة قمت ببيعها، ثم قمنا فى نفس اليوم بعمل حوالى 15 صينية بعناها جميعها، ويوما وراء يوم وشهرا وراء شهر وبمرور الوقت كبر المشرع وأصبح مصنعا للحلويات الشرقية يمتلك سيارات لنقل الحلويات إلى الزبائن. كانت تلك تجربة ثرية استفاد منها خالد صالح كثيرا.

فى تلك الأثناء تزوج خالد صالح من الطبيبة هالة التى آمنت بموهبته ووقفت بجانبه مساندة ومؤازرة، ورضيت أن تدخل إلى عش الزوجية دون أن يكون فى جهازها غرفة نوم تأخرت عاما كاملا بعد الزواج إلى أن استطاع خالد أن يشتريها. ولهذه الزوجة المصرية المكافحة كان خالد صالح يدين بالكثير من نجاحاته.

https://youtu.be/xbz3zGnlMtQ

أصعب قرار

رأى خالد نجاحات زملائه ونجوميتهم، لم يسخط ولم يحنق بل فرح كثيرا، لأنه أدرك أن بإمكانه هو الآخر أن يبدأ الرحلة من جديد، وأن يقطع خطوات كان لابد أن يقطعها، شجعه نجاح زملائه على أن يقرر المغامرة إلى أبعد مدى، ليعود الحلم بعد رحلة المعاناة إلى الحياة من جديد. كان خالد فى تلك الفترة يعمل بمسارح الهواة مثل مسرح الهناجر الذى عمل به كثيرا، بالإضافة إلى عمله الخاص فى صنع الحلويات الشرقية، ومنحه صديقه المخلص خالد الصاوى دورا فى فيلم «جمال عبد الناصر» عام 1999، وهو ما زاد لديه جرعة الأمل والتفاؤل.. و أخيرا وفى عام 2000 اتخذ خالد أصعب قرار، أن يترك عمله الخاص وأن يتفرغ للسينما والفن مهما كانت النتائج، ومهما كانت خطورة المغامرة، واقنع خالد زوجته وأسرته بالقرار الصعب الذى كان يرى أنه جاء فى وقته تماما.

وفي عام 2002 لفت خالد صالح  الأنظار اليه بقوة خلال دوره القصير في فيلم «محامي خلع» مع هاني رمزي وداليا البحيري، والذي قام فيه بدور قاض يحكم في قضية خلع. كانت اللقطات القليلة التى ظهر فيها خالد صالح خلال هذا الفيلم بمثابة  فرصة الانطلاق بسرعة الصاروخ ليعمل بعدها فى عدد من أهم وأقوى أفلام السينما المصرية فى الألفية الجديدة.

شارك خالد صالح فى أفلام أحلى الأوقات وتيتو والنعامة والطاووس وخالى من الكوليسترول وحرب أطاليا وملاكى اسكندرية وهى فوضى وعمارة يعقوبيان وفبراير الأسود وغيرها، وتميز بشكل أكبر فى أدوار الشر، وتميز بقدرته على امتلاك عناصر وملامح فنية تتماهى مع اثنين من أبرز نجوم السينما المصرية في قدراتهما الخاصة فى أدوار الشر وهما محمود المليجى وزكى رستم، وإن بشكل وأداء وطرائق تعبير مختلفة تناسب عصرنا الراهن.

 لكن خالدا لم يقف عند أدوار الشر فقط، فقد أبدع أيضا فى الأدوار ذات الطابع الكوميدى والاجتماعى، ففى أحلى الأوقات مثلا يقوم خالد صالح بدور إبراهيم زوج يسرية الذى يفضل الأكل على الحب وتطالبه زوجته بالرومانسية فيطالبها بالكباب.. تقول له زوجته: الورد يا ابراهيم فيرد عليها: الكباب احسن من الورد يا يسرية. وفى فتح عينيك يقوم بدور سيد موظف الأرشيف الغلبان، وفى كف القمر يقوم بدور الشقيق الأكبر الذى يحاول أن يجمع أشقاءه على قلب رجل واحد فيصدمونه بتخاذلهم وجشعهم، وفى أحلام حقيقية نراه فى دور الزوج المحبط اليائس على أن أدواره فى الشر كان لها  قوتها وتأثيرها الكبيرين ففى هى فوضى نحن أمام أحد أهم ا لأدوار التي قام بها خالد صالح في تاريخه السينمائي، دور أمين الشرطة حاتم صاحب النفوذ الذى لا يتناسب مع وظيفته، وهو عنوان للفساد الكامل فى عصر مبارك، يمارس فساده وبلطجته ونفوذه حتى ضد وكيل النيابة، ويعتبر نفسه رمزا وعنوانا لمصر لتظل جملته الشهيرة فى الفيلم «اللى ما لوش خير فى حاتم ما لوش خير فى مصر» عالقة فى أذهان الجميع. وقد تنبأ هذا  الفيلم بثورة 25 يناير فى مشاهد النهاية من خلال ثورة المواطنين ضد حاتم.

 وفى عمارة يعقوبيان قام خالد بدور كمال المسئول الحزبى الفاسد، الذى ربط النقاد والجمهور أيضا بينه وبين أحد مسئولى الحزب الوطنى المنحل فى عصر مبارك لتصبح كلماته فى الفيلم مثل «الترشيح ده أمره سهل بس ينجح ازاى دى لعبتنا بقى» مثلا على ما وصل إليه الفساد السياسى فى عصر مبارك. وفى فيلم تيتو يؤدى خالد دور رفعت السكرى الضابط الفاسد الذى يستغل نفوذه أسوأ استغلال، أما فى حرب أطاليا فيبدع فى دور بكر رجل الاعمال الفاسد المحتال.

غير أن المشهد الأكثر شهرة وأهمية، والذي يعتبره كثيرون أشهر مشهد فى تاريخ السينما المصرية ويتداوله نشطاء التواصل الاجتماعى بكثافة حتى وقتنا الراهن، فهو ذلك المشهد الخطير الذى أداه خالد صالح فى فيلم فبراير الأسود بعد ثورة يناير، ويتحدث فيه بصفته كعالم إلى مجموعة من العلماء ويُشرّح فيه بكل جرأة خريطة الأوضاع الإجتماعية فى مصر ويكشف ذلك الخلل الرهيب الذى يعيشه المجتمع المصرى، وهو مشهد يمكن أن نطلق عليه بكل ثقة: ماستر سين السينما المصرية..

 أما على مستوى الدراما التليفزيونية فقد كان لخالد صالح حضور مؤثر بمجموعة مسلسلات رمضانية متميزة مثل: أحلام عادية مع يسرا، وسلطان الغرام مع لوسى وتاجر السعادة والريان و9 جامعة الدول وأخيرا حلاوة روح الذى قام ببطولته قبل رحيله مباشرة.

وداع حزين

فى كل أفلامه ومسلسلاته كان خالد يحمل همه الخاص ووجعه الكبير على كتفه، فقد كان مريضا بالقلب، وأجرى عدة عمليات جراحية ولأنه كان يبذل مجهودا مضاعفا فقد اشتد عليه المرض، ونصحه كثيرون بالسفر للعلاج فى أوربا، لكنه قرر أن يعالج فى بلده وذهب إلى مركز د مجدى يعقوب للقلب بأسوان، وكان أستاذ القلب الشهير يدرك خطورة حالة خالد صالح وقرر أن يمكث مريضه بالعناية المركزة لأسابيع قبل إجراء الجراحة. غير أنه وعقب إحراء الجراحة فاضت روح خالد صالح إلى بارئها فى الخامس والعشرين من سبتمبر عام  2014، بعد مسيرة فنية قصيرة بمقاييس الزمن، طويلة وثرية وعظيمة بحكم الفن والإبداع والعطاء.

الفيديو جراف

نص: Belal Momen
جرافيكس: Abdalah Mohamed

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock