بعد قرن ونصف من احتلال الهكسوس أرض مصر، اعتزم «كامس» ملك مصر وقتها، الكفاح من أجل الحرية ضد الغزاة البرابرة، الذين دخلوا مصر فأفسدوها، وقلبوا أحوالها رأسا على عقب، وأحرقوا المدن، وهدموا معابد الآلهة حتى استوت بالأرض، وعاملوا كل السكان بقوة غاشمة.
استدعى الملك كامس أعيان الصعيد من طبقة النبلاء إلى قصره في طيبة وخاطبهم قائلا: «إنني أنوي أن أهاجم الهكسوس وأبقر بطونهم، ورغبتي هي أن أنقذ مصر».
فماذا كان رد الأعيان؟
امتنع النبلاء عن دعم الملك، وقال أحدهم: «إن أحسن الحقول تُحرث من أجلنا، ومواشينا ترعى في حقول البردي، والعلف يُرسل لمواشينا، ولا تُطرد من أماكنها».
بعد هذا الرد القاطع، سأقف معكم وقفة طويلة، فالرد ينم عن أن الحرث والزرع وحقول البردي وتوافر الإمدادات من العلف للمواشي كانت جوهر حياة النبلاء فى مصرنا القديمة، وبالطبع الملك نفسه، وبالضرورة الفلاحين المصريين، كما سنرى بعد قليل في السطور التالية..
سأمضى معكم في رحلة تكشف جوانب هامة من مصر الزراعية.. كيف عاش المصريون وقتها؟ وماذا زرعوا؟ وكيف وجهت الدولة جهودها لترويض النيل؟ وكيف عاش الفلاحون حياتهم اليومية مع الأرض والنهر؟
مصر المستقرة
يقول المؤرخ سيرج سونيون إن «مصر بلد مستقر، خطوطه دائما متشابهة، ثم هو ذو شمس لا تحجب أبدا، نهر يفيض كل عام على جانبيه ليهب للأراضي الزراعية الحياة. هذا هو الإطار الذي يشكل روح المصري وخلق فيه ميوله الأصيلة».
لهذا، اعتبر معظم المؤرخين أن انتظام الإنتاج الزراعي كان أهم عناصر الاقتصاد المصري القديم، فوقت الفيضان معروف، وكميته يمكن التنبؤ بها، وبالتالي يمكن التنبؤ بالناتج من الزراعة، أما المحصول نفسه فجيد يؤكد لهم «رضا الآلهة عن هذا البلد الطيب». وعلى مر العصور أصبح النمط النموذجي للحياة المصرية هو النمط الفلاحي.
وكان الملك نفسه يملك أراض شاسعة يقوم بزراعتها رقيق عليهم أن يقدموا إنتاجهم إلى البلاط الملكي، بالإضافة إلى استخدامهم في أعمال السخرة لإنشاء الجسور والقنوات والمعابد والأهرامات، وكان الأمراء وحكام الأقاليم يملكون بدورهم نصيبا من الأراضي والأرقاء المربوطين بها، ولكنهم مع ذلك كانوا يعتمدون على الولاء للبلاط والملك.
ويظهر من أقدم الآثار الملكية من الألف الثالثة قبل الميلاد، الفرعون وهو يزاول نشاطه الحربي والعمراني معا، فنراه حاملا في يده فأسا يضرب بها في الأرض، ثم يضع الأوتاد لإقامة الحدود. وإذا صادفك الحظ السعيد وزرت قاعات معبد إسنا أو كوم إمبو ستجد هذه المناظر تتكرر مرارا في لوحات عديدة.
حياة الفلاحين
الملك والفلاحون وأهل مصر إذن كانوا يدينون بالولاء للأرض بصورة ملفتة للنظر.. فبعد الموت، كان المصري يتصور أنه سيعيش حياته الأبدية السعيدة في حقول البوص والعشب، في مصر أخرى يرويها نيل ثان وتجري فيها الأنشطة الزراعية العادية من حرث إلى حصاد كما كان الحال في الدنيا، وهذا التصور غريب حقا ويعكس أن المصري القديم كان يشعر أنه بحياته العادية في الزراعة وسط الأرض والخضرة والحرث والمحاصيل يعيش في جنة أرضية ليس بعدها إلا جنة تشبه تماما الأرض التي يعيش فيها.
في نسخة من كتاب الموتى، عثر عليها في مقبرة «آني» تصور هذا الوضع، حيث نرى المصري منهمكا في أداء أعمال الزراعة، فيذكر الكتاب في أحد فصوله: «بداية التعاويذ الخاصة بحقل العطايا، تُقرأ عند الخروج صباحا، وعند دخول الجبانة والخروج منها، وتتلى في حقل البوص الذي يوجد في حقل العطايا، بمدينة الواحد الأعظم، ومدينة ربة الرياح، حيث يصبح المرء هناك روحا تحرث وتحصد، وتأكل وتشرب، وفي الحقيقة تقوم بكل ما كانت تقوم به على الأرض».
لكن، هل يعني ذلك أن الفلاح المصري لم يشعر بأي منغصات في حياته؟
يدلنا على بعض المشاكل التي عانى منها الفلاح نص غريب حقا، عبارة عن تدريب للصغار على الكتابة.. يستعرض هذا النص أوامر للصغار بأن يعملوا في مهنة الكتابة وليس الزراعة لأسباب كثيرة: «أنها تنقذك من العمل المضني، وتبعدك عن كل أنواع العمل اليدوي، وتحميك من حمل المعزقة والمعول وتعفيك من حمل السلال».
ويصف المخطوط حياة الفلاح كأنه يعيش عمره في متاهات لا نهاية لها فيقول: «دعني أريك حال الفلاح، الحرفة الأخرى الشاقة، عندما يفيض الماء يقوم بالري، مستخدما آلاته. ويظل يومه يشحذ أدواته لزراعة الشعير، ويظل ليله يبرم الحبال، وحتى وقت الظهيرة يظل يعمل في فلاحة الأرض، وقد عود نفسه على هذه المشقة مثل الجندي. ويمتد الحقل العطشان (قبل ريه) أمامه، فيسرع لجمع قطيعه، وبعد أيام من تفقد أثر الراعي يستعيد قطيعه، ويسوقه أمامه ويشق له طريقا في الحقل، وفي الفجر يخرج ليبدأ العمل مبكرا، فلا يجد القطيع في مكانه، فيظل يبحث ثلاثة أيام حتى يجده ملتصقا بالوحل، لكنه يجد أفراده منزوعة الجلد لأن أبناء أوى قد اعتدت عليها».
ثم يقارن المخطوط بين مهنة الكتابة والفلاحة فيقول: «الكاتب يرسو على النهر، ثم يشرع في تقرير الضريبة على المحصول، يحيط به الحشم بالهراوات والنوبيون بالأسواط، ويقول أتباعه للفلاحين: سلّم الشعير، لكن لا شعير. فيضربون الفلاح ضربا مبرحا، ثم يقيدونه ويلقونه في الماء، فيغطس حتى يشرف على الهلاك، أما زوجته فيوثقونها أمامه، ويضعون أولاده في الغلال، فإذا كنت عاقلا، كن كاتبا».
حسنا، إلى أي مدى كانت الصورة بهذه القتامة والبؤس؟
يقول ت. ج. جيميز. صاحب الكتاب العبقري «الحياة أيام الفراعنة» إن هذه الصورة لا تمت للواقع بصورة كبيرة، فصاحب الأرض في بحبوحة من أمره، والفلاح وعامل الحقل كان حالهما أفضل من ذلك بكثير، والذي نستقرؤه من مشاهد الحياة الزراعية في مقابر الدولة الحديثة أن الوضع كان لا بأس به بالمرة.
وإن كان كاتب السطور يرى أن الصورة الحقيقية كانت في منطقة رمادية بين الحياة الرغدة والحالكة الكئيبة، فمؤكد أن الفلاح الأجير أو المسخر للعمل لقاء أكله وشربه ذاق المرار، كما يتضح أيضا أن المزارع المستأجر أو مالك الأرض عاش سعيدا، أضف إلى ذلك أن مصر شهدت كغيرها من البلدان مواسم جفاف كثيرة أهلكت الأراضي والبشر.
الدورة الزراعية
والآن، دعونا نقيم ظهورنا ونتعرف على الدورة الزراعية آنذاك، والتي كانت تنقسم إلى ثلاثة مواسم كل منها أربعة أشهر: موسم الصيف وهو موسم الفيضان ويدعى «آخت» وفيه تكون الأرض مغمورة بالماء، ويتعطل فيه عمل الفلاح والأرض، ثم يأتي موسم الزراعة «يريت» بعد الفيضان بخروج الأرض صالحة، وأخيرا يجف الماء وتنضج المحاصيل فيهل موسم الحصاد ويدعى «شيمو».
يبدأ موسم الزراعة من منتصف أكتوبر وينتهي في منتصف فبراير حسب التقويم الحديث، والنصف الأول من موسم الزراعة كان الأكثر ازدحاما بالعمل، ففيه الحرث والتسوية والبذر وزراعة المحصول وقبل هذا تخطيط الأراضي حيث يكون الفيضان قد طمس معالمها.
وكانت الإدارة الجيدة للأراضي والمياه هي إحدى منجزات المصريين القدماء العظيمة، التي يتفاخرون بها، وتوجد شواهد نستدل منها على أنه منذ العصور السحيقة كانت هناك كوادر إدارية في مصر مخصصة لأعمال صيانة شاطئ النيل والقنوات والمراوي والإشراف المنظم على قسمة المياه. ومع الزمن استقرت الأوضاع أكثر وأصبح جانبا مهما من جوانب العمل الإداري يتوجه إلى تنظيم الأراضي والسيطرة على الموارد المائية، عبر وزارة الزراعة وتدعى «بر حري وجب».
وكان نجاح المحافظ في إنجاز تلك الأعمال كافيا له كي يتفاخر خاصة إذا ساءت أحوال المحافظات الأخرى. في النص التالي مثلا يعدد «أمنمحات» حاكم إقليم الغزال بمصر الوسطى سنة 1971 قبل الميلاد بعض إنجازاته في تقرير مطول فيقول: «عندما حدث القحط، زرعت كل حقول الغزال حتى الحدود الشمالية والجنوبية منها، فأحييت السكان ووفرت لهم الطعام، ولم يشعر أحد في الإقليم بالجوع، وأعطيت الأرملة قدر ما أعطيت المتزوجة، ولم أفرق في العطاء بين غني وفقير، بعدها جاءت الفيضانات عالية معها الخير والمحصول الوفير، لكني لم أكن قاسيا على أحد في تحصيل المتأخرات (ضرائب الأطيان المؤجلة)».
وخلال هذا العصر تحديدا، يكتب أيضا فلاح بسيط إلى عائلته خطابا يؤنبهم فيه على الشكوى من نقص المؤن فيقول: «انظروا.. مصر كلها في مجاعة وأنتم لستم جياعا، عندما رحلت للجنوب رتبت لكم أمر المؤن جيدا، أصبروا أيها الناس، انظروا إنني حتى اليوم بعيد عن داري لأطعمكم».
«عنخ توي» كان أحد حكام الأقاليم في الصعيد، يُظهر في نقوشه كيف أنه أحسن إدارة شئون الري والأشغال الجديدة، بل إنه صنع معجزات للأرض والناس، فيقول: «أنشأت قناة قطعتها من الأرض المحروثة، وسويت مصبها جيدا. جعلت العامل البسيط يأكل الشعير، وجعلت لعابه يسيل في عز الحر.. أنشأت خندقا للمدينة كانت مصر العليا حالها سيئة لا يُرى فيها الماء، قمت بتثبيت حدود وبصمتها بخاتمي، حولت الأراضي العالية إلى مستنقعات للصيد. أوصلت الفيضان للأماكن العالية القديمة. وفرت الري للأراضي الزراعية، ووصل الماء إلى الجيران، وكان كل فرد عطوفا على الآخرين».
استثناءات من السخرة
نأتي لجانب آخر مهم لفهم الحياة فى مصر القديمة، وهو العمل في الأرض بالسخرة، نظرا لاتساع نطاق العمليات والتعامل مع الفيضان وترويض النيل، كانت مشكلة توفير العمالة المطلوبة تتم بتعبئة العمال عن طريق السخرة.
كان كل مصري – مهما كان مركزه – يقع تحت طائلة السخرة، إلا الفئات المستثناة بالقانون: الموظفون والجنود والكهنة وخدم المعبد وغيرهم. ووسيلة حشد عمال السخرة غير معروفة ولكن يبدو أنها كانت من اختصاص السلطات المحلية، وعملية تعبئة عمال السخرة كانت ضمن اختصاصات الوزير، أما الموظفون الذين يسحبون المواطنين للعمل الإجباري وتسخيرهم فتثبته بكل وضوح فكرة «الشوابتي» وهي تماثيل تنوب عن الميت في القيام بالأعمال المختلفة المفروض عليه أن يؤديها بنفسه، وكذلك في النصوص السحرية المصاحبة لها لأن فيها قوة سحرية تعمل على إحياء هذه التماثيل في الحياة الآخرة، وهي فكرة انتشرت أوائل الدولة الوسطى واستمر العمل بها، فكان يحتوي المتاع الجنائزي على واحد أو أكثر من هذه الشوابتي، وتحمل التماثيل معزقة ومعول وسلة تعبئة الأتربة.
إضافة إلى «الشوابتي» توجد بردية محفوظة بمتحف بروكلين تحتوي على أسماء سبعة وسبعين شخصا فرضت عليهم العقوبات لهروبهم من العمل بالسخرة. ولم تقتصر العقوبات عليهم إنما شملت ذويهم الذين كانوا يؤخذون كرهائن في بعض الأحيان. وصدرت في الدولة الوسطى قوانين للذين يتنصلون من السخرة والخدمة في الحقول منها قانون ترك الخدمة لمدة ستة أشهر متصلة، وقانون الفرار من الخدمة قبل أدائها.
نأتي الآن للموسم الأكثر بهاء في السنة كلها وهو «الإنبات»، وكان يشهد ذروة النشاط الزراعي، فكان فيه الحرث والبذر والنشاط الحقلي، وبعد ذلك يهل موسم الحصاد، ومشاهد الحصاد مصورة في مقبرة «باحري» في منظرين كاملين، بصورة تميل إلى المثالية. في هذه المشاهد يظهر الفلاحون وهم يجمعون المحاصيل وعليهم سمات الجد والإخلاص، ثم نأتي لصورة ضم المحاصيل وأحدها شعير والآخر كتان، وكان الشعير يُجمع بالمناجل ويتم حشه فوق الأرض مباشرة، أما الكتان فعند ضمه يقطع على مستوى التربة تماما، ثم يحزم لكي يجهز ويمشط لاستخراج الألياف للنسيج.
وكان مألوفا جدا تخزين الحبوب والمحاصيل في مصر في العراء، مثل الشون الترابية التي لا تزال موجودة حتى الآن في الأقاليم، وكانت مخاطرها ـ ولا تزال ـ أن المحصول الخارج منها يكون قليل الصفاء، متربا، سيء التخزين.
وبعد خمسة آلاف سنة من كل هذه اللوحة المصرية القديمة رائعة التفاصيل فى واحد من أهم نشاطات الحياة (الزراعة)، علينا أن نتساءل ونبحر في الإجابة: ما الذي تغير في حياة الفلاحين فى مصر الحديثة؟!
*مصادر:
-كتاب «كهان مصر القديمة» تأليف سيرج سونيون. ترجمة زينب الكردي.
-كتاب «الحياة أيام الفراعنة.. مشاهد من الحياة في مصر القديمة». تأليف ت. ج. جيميز. ترجمة د. أحمد زهير أمين
-كتاب «عندما حكمت مصر الشرق». تأليف ج. شيندروف و ك. سيل. ترجمة محمد العزب موسى.
-كتاب الموتى الفرعوني. إعداد برت إم هرو.
-المؤرخ فلافيوس جوزيفوس يسجل ما نقله مانيتون عن عصر الهكسوس.