هل أصبحت السينما عنصرا مؤثرا فى كتابة التاريخ.. وهل يمكن الاعتماد عليها عند كتابة التاريخ أو عند توثيق الوقائع التاريخية خاصة المعاصر منها لصناعة السينما وللإنتاج السينمائى؟ وكيف يتسنى للمؤرخ أن يتعامل مع الفيلم السينمائي سواء كان روائيا أو وثائقيا بوصفه وثيقة يمكن الإستناد إليها عند كتابة تاريخ القرن العشرين؟ وما هى الدوافع التي قد تدعوا المؤرخ للإعتماد على الفيلم السينمائي كوثيقة؟
تساؤلات عديدة فرضت نفسها على الندوة التي عقدت تحت عنوان «السينما.. تاريخ القرن العشرين» ضمن فعاليات السيمنار الشهري بمركز دال، والذي ينظمه الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، وذلك بمشاركة نخبة من المبدعين والباحثين والأكاديميين على رأسهم الدكتور عماد أبو غازي أستاذ التاريخ والوثائق بكلية الآداب جامعة القاهرة ووزير الثقافة الأسبق، والأستاذ الدكتور أيمن فؤاد سيد رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، والمصور السينمائي الكبير الأستاذ سعيد شيمي.
تغير فى المفاهيم
افتتح الدكتور محمد عفيفي أعمال الندوة بالتأكيد على أن هناك تغيرا قد حدث في العقود الأخيرة في مفهوم التاريخ، حيث لم يعد التاريخ هو التاريخ السياسي للحكام وفقط، وإنما صار التاريخ هو تاريخ الناس و تاريخ الشعوب بشكل عام، وبالتالي أصبح الموضوع مرتبطا بطريقة كتابة التاريخ، وبات الأمر الهام هو البحث عن وسائل جديدة لكتابة التاريخ حيث لم تعد الوثيقة التاريخية وحدها كافية كوسيلة لكتابة التاريخ.
د. محمد عفيفي
وأشار الدكتور محمد عفيفي إلى وجود عدد من المؤرخين باتوا يتعاملون مع الفيلم السينمائي بوصفه وثيقة تاريخية هامة يمكن الإعتماد عليها عند كتابة تاريخ القرن العشرين وضرب مثالا بالمؤرخ الفرنسي «مارك فيرو» الذي بدأ حياته كمؤرخ تقليدي يعتمد على سجلات الضرائب كوثائق تاريخية، إلا أنه حين حاول الكتابة عن تاريخ المجتمع السوفييتي لجأ إلى السينما السوفييتية التي أقر بأنها كانت أكثر فاعلية في التأريخ للمجتمع السوفييتي في القرن العشرين من سجلات الضرائب التي إعتاد الإعتماد عليها، وذلك بالرغم مما تعانيه السينما السوفييتية من خضوعها لأعمال الرقابة.
بدأ «مارك فيرو» كتابه «السينما والتاريخ» والذي صدرت له مؤخرا ترجمة للغة العربية عن المجلس الأعلى للترجمة، بفصل يحمل عنوان «الفيلم كوثيقة تاريخية» مؤكدا على أن الأفلام الروائية تعد وثائق أصدق – حتى من الأفلام الوثائقية -في كتابة التاريخ.
السينما والتاريخ.. جدل مستمر
الدكتور عماد أبو غازي تناول قضية العلاقة بين السينما وتاريخ القرن العشرين مشيرا إلى أن السينما المصرية من الصناعات الإبداعية التي وصلت مصر بمجرد ظهورها، فبعد أسابيع معدودة من أول عرض سينمائي بالعاصمة الفرنسية باريس، كان هناك عرض سينمائي بمدينة الأسكندرية، وذلك على عكس الطباعة التي لم تصل مصر إلا بعد ما يقرب من ثلاثة قرون من ظهورها.
الدكتور عماد أبو غازي
يضيف الدكتور غازي أن مصر قد عرفت الجريدة السينمائية من بداية العشرينات من خلال رائد السينما المصرية محمد بيومي وجريدة «أمون» ثم جريدة «مصر السينمائية» التي تمكن محمد بيومي من الحفاظ على عدد من شرائطها التي وثقت عددا من الأحداث الهامة مثل: وقائع بناء مسجد المرسي أبو العباس، ووقائع استقبال سعد زغلول عند عودته من المنفي.
القضية المثيرة للجدل في العلاقة بين السينما والتاريخ تتمثل في كون السينما التاريخية باتت مصدر الوعي التاريخي للعديد من الأجيال التي لا ترجع إلى أي مصادر تاريخية أخرى تتعلق بالأحداث التاريخية التي تطرحها تلك الأعمال، هنا يضرب دكتور غازي المثل بفيلم «الناصر صلاح الدين» للمخرج يوسف شاهين، والذي جاء على سبيل المثال بشخصية «عيسى العوام» كشخصية مسيحية ربما لكى يستطيع شاهين من خلالها أن يطرح قضية الوحدة الوطنية، على الرغم من أن الوقائع التاريخية تؤكد على أن العوام كان مسلما، إضافة إلى طرح يوسف شاهين لقضية القومية العربية وهى قضية بطبيعة الحال لم تكن تشغل صلاح الدين بأي حال من الأحوال.
يتساءل غازي هل سيتم محاسبة السينمائي بوصفه مؤرخا عليه توخي الدقة التاريخية؟ هل سيتم التعامل مع فيلم «الناصر صلاح الدين» بإعتباره وثيقة تاريخية للحروب الصليبية؟ يجيب غازي على تساؤلاته تلك بأن للفنان كامل الحرية في التعامل مع الموضوع الذي يقدمه بفيلمه كيفما شاء، وأن على الباحث التاريخي الذي يستعين بالفيلم السينمائي عند كتابة التاريخ أن يتحرى الدقة والتنقيب عند تعامله مع الفيلم السينمائي.
هنا يختلف الدكتور أيمن فؤاد سيد مع رؤية الدكتور عماد أبو غازي فيما يتعلق بالأفلام التاريخية فبينما أكد أبو غازي على مبدأ الحرية الكاملة للمبدع السينمائي في التعامل مع موضوع فيلمه، أكد أيمن على ضرورة المراجعة التاريخية من قبل المتخصصين عند تناول أي من الأحداث التاريخية بأي عمل درامي وذلك حتى لا يتم نقل أي معلومات تاريخية خاطئة.
د. أيمن فؤاد سيد
سباق مع الزمن
يروي المصور السينمائي سعيد شيمي رحلته مع عالم السينما منذ أن كان طفلا صغيرا برفقة رفيق رحلته المخرج الراحل محمد خان، مشيرا إلى الدور التأريخي الذي لعبته السينما في مصر في القرن العشرين، وكيف استخدم السياسيون السينما كوسيلة لتعزيز رؤيتهم فى كثير من القضايا، هنا يضرب سعيد شيمي مثالا بسلسة الأفلام الوثائقية التي رافقت بناء السد العالي حيث كان هناك فيلم أسبوعي يحمل عنوان «سباق مع الزمن» يهدف لتوثيق عملية البناء، إضافة إلى وجود ظاهرة سادت بكل دور العرض السينمائي بستينيات القرن الماضي تتمثل في عرض فيلم وثائقي قبل عرض الفيلم الروائي، وغالبا ما كانت تلك الأفلام الوثائقية تعرض لإنجازات ما بعد ثورة 23 يوليو 1952.
على الجانب الآخر يشيد سعيد شيمي بفترة تأميم صناعة السينما من عام 1963 حتى بداية السبعينات، التي شهدت إنتاج حوالي «150 فيلما» ضمت مجموعة من أفضل ما أنتج بالسينما المصرية كان منها على سبيل المثال: «المومياء.. الأرض.. الزوجة الثانية.. الحرام» وهى أفلام في مجملها هدفت لتغيير العديد من المفاهيم الإجتماعية التي كانت سائدة آنذاك.
القاهرة.. سينمائياً
وبعد أن اختتم سعيد شيمي كلمته قام بعرض فيلم روائي قصير أُنتج عام 1972 بعنوان «البطيخة» من تصويره وإخراج محمد خان، عن موظف حكومي يعمل بمصلحة حكومية، يبدأ يوم عمله بصوت زوجته وأبنائه يطالبونه بالعديد من المطالب المنزلية التي لن يستطيع تلبيتها بإستثناء طلب وحيد تمثل في شراء بطيخة، يحملها مع صحيفة الأهرام عائدا لمنزله بعد إنتهاء يوم عمله، مارا بشوارع القاهرة المزدحمة بكل ما تحمله من تفاصيل ومعالم ربما لم يعد بعضها متاحاً الآن.
أثار عرض فيلم «البطيخة» الحديث حول الدور الذي لعبته السينما المصرية في حفظ تاريخ مدينة القاهرة على وجه التحديد خلال القرن العشرين عبر العديد من الأعمال السينمائية كان منها على سبيل المثال، فيلم «حياة أو موت» لكمال الشيخ الذي أنتج عام 1954 واستعرض العديد من شوارع وميادين القاهرة، وفيلما «ضربة شمس» و«سائق الأتوبيس» وغيرها من الأعمال التي عمد مخرجوها إلى تصوير شوارع القاهرة ومبانيها فباتت تلك الأفلام بمثابة وثيقة يمكن للمؤرخ الرجوع لها عند تناوله لتاريخ القاهرة فى القرن العشرين، خاصة عند الحديث عن بعض الأماكن التي اختفت لسبب أو لآخر مثل مبني أوبرا القاهرة القديمة الذي كان قد احترق.
https://youtu.be/TnpE7au2pTQ
من جانب آخر أثار الحديث عن دور السينما في توثيق تاريخ القاهرة تساؤلا حول أسباب عزوف السينمائيين المصريين في كثير من الأحيان عن العمل خارج القاهرة ومن ثم الإهتمام بتوثيق مختلف مناطق الجمهورية؟
يجيب الأستاذ سعيد شيمي على ذلك التساؤل بأن هناك نقطتين الأولى تتعلق بطبيعة الموضوع المطروح، فقد يكون الفيلم مرتبطا بالقاهرة بشكل مباشر، أو قد يتعلق الأمر بالميزانية المخصصة لإنتاج الفيلم، ففي كثير من الأحيان تكون ميزانيات الإنتاج محدودة للغاية وبالتالي فالعمل بالقاهرة أقل كُلفة، وفي حالة الأفلام التي يتوجب معها العمل بالريف فإن المخرجين يلجأوون للمناطق الريفية القريبة من القاهرة توفيرا للنفقات.
اقرأ أيضا:
السينما المصرية والتاريخ.. «الحقيقة» الغائبة via @aswatonline https://t.co/1HPomTxeJ2
— أصوات Aswat (@aswatonline) October 14, 2019
المثير في قضية التاريخ والسينما يتمثل في النقلة النوعية التي أحدثتها السينما في مجال التعامل مع كتابة التاريخ، والتعامل مع موضوع الأرشفة حيث باتت الدراسات الأكاديمية مهمومة بتطوير آليات جديدة للأرشفة، وباتت قضية التحولات الثقافية والاجتماعية على رأس القضايا التي يهتم بها مؤرخو القرن العشرين استنادا إلى ما أصبح متاحا من أفلام روائية ووثائقية حملت بين طياتها – عن قصد أو عن غير قصد – تاريخ القرن العشرين كاملا.