مختارات

لماذا تقدم «الشيخ» وتراجع «الأستاذ» عند الإسلاميين؟

أدخل أبو عبد الإله صالح بن مقبل العصيمي الدشَّ أو الصحن اللاقط في أكثر من سبب من أسبابه الأربعينية للانتكاس، فلقد حذَّر منه في سبب الشهوة، ومما قاله عنه في هذا السبب إنه «من أكبر المصائب التي ابتُلِيت بها الأمة الإسلامية، حيث ساهم هذا الجهاز في انتكاسات كثيرة عايشت بعضها».
وتحدث عنه في سبب ضغط الزوجة، فقال: «لقد آثر كثير من الدعاة حب زوجته وطاعتها على الاستقامة ولزومها، يتنازل عن كثير من الأمور الشرعية من أجلها، كإحضار السائق، وإدخال الحرام إلى بيته تقرباً إليها. فبعدما كان بيته خالياً من التلفاز أصبح الدش بجميع قنواته الفضائية يحلق فوقه. عقَّ والديه من أجلها، وقصر لحيته أو حلقها ليظهر بزينة – كما يزعم – أمامها. هجر الصالحين ومجالسهم من أجل مجالستها. ترك حفظ القرآن الكريم، ودخل أماكن الاختلاط، وترك الصدقة والزكاة وما عليه من حقوق وواجبات طلباً لمرضاتها، وتحقيقاً لرغباتها».
موقفه المؤثَّم لاقتناء الدش هو صفحة من التاريخ التكراري عند الدينيين في القرن الماضي وفي القرن الحالي، الذين يحرمون في أول الأمر الوسائل الحديثة، وبعد حين ينغمسون فيها إلى القاع!
ولأن الدش كان عندهم بهذه الدرجة من الخطورة، فقد أورد في الفصل الثاني والأخير من كتابه، «فصل بأخبار المنتكسين»، قصة شاب انتكس بسبب الدش!
وقد يستهول إخواننا القاصون والروائيون حين أخبرهم أنه روى عن أحد أحبته أن داعية بارزاً انتكس بسبب قراءته رواية غربية! ولعل ما سيعزِّيهم أنني سأخبرهم أنه روى بعدها قصة رجل ألحد بسبب قراءة كتاب ابن كثير «البداية والنهاية». وتفصيلها أن أخاً إسلامياً له من السودان حدَّثَه أن قريباً له قرأ الجزء الأول من كتاب «البداية والنهاية»، ولما يحمله هذا الجزء من غرائب وعجائب عن الخلق وبدايته، فلم يستطع أن يتحمل الأمور أو يصدقها فارتد على أدباره خاسراً! وقصته هذه أغرب وأعجب من غرائب وعجائب ابن كثير في الجزء الأول من كتابه المذكور.
وحكايته هذه ليست القصة الوحيدة في غرائبيتها وعجائبيتها، فهناك قصص كثيرة هي من هذا الصنف. وكتاب أبو عبد الإله «من أخبار المنتكسين: مع الأسباب والعلاج» مليء بقصص سمجة وآراء سخيفة لا يستسيغها ويقبل بها ويأخذها على محمل الجد إلا مَن هو منغلق الذهن وبليد الفكر وتستعجم عليه المدركات الظاهرة.
هذا من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل، فالكتاب يخلو من ناظم ينتظمه، ويفتقر إلى الترتيب والتنسيق بين موضوعاته، وإلى تحديد موضوعه الأصلي.
إن كونَ هذا الكتاب كان منتشراً عند حركة الصحوة، كما أخبرني بذلك صديق، والشاهد على ما أخبرني به هو تعدد طبعاته؛ فهذا يشير إلى الحد الذي وصل إليه جمهور حركة الصحوة المستهلكين لكتبها من التواضع في التفكير والغفلة في الفهم والخفة في المنطق والغيبوبة في العقل والضحالة في الثقافة، ليروج ذلك الكتاب وغيره من الكتب السطحية شكلاً ومضموناً بينهم.
صحيح أن الضحالة الثقافية ميسم بارز في العديد من المؤلفات الإسلامية الأصولية، ابتداء من مؤلفات الإخوان المسلمين الأولى، وأنها ليست أمراً حادثاً أو طارئاً على الإسلاميين، لكنها في عقد السبعينات وفي عقود قبلها من القرن الماضي كانت أقل انحداراً، ولم تكن بذلك الكمّ الهائل كما في عقود تالية.
التفسير كما أراه لهذا المزيد من الانحدار في مستوى التأليف عند الإسلاميين يكمن في حصول خطابهم على شعبية كبيرة وجمهور عريض في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، لم تكن له قبيل منتصف سبعينات القرن الماضي، ويكمن في تراجع جاذبية وشعبية الخطاب العلماني العقلاني التقدمي عند الجمهور العام تدريجياً في عقد السبعينات. فالحالة العلمانية في العالم العربي التي كان لنخبها السياسية والثقافة جاذبية وشعبية عند الجمهور العام معظم عقود القرن الماضي كانت تشكل عاملاً ضاغطاً على الإسلاميين بأن تكون مؤلفاتهم متماسكة من حيث الشكل، وأن يظهروا فيها بصورة المثقف المطلع على الثقافة الحديثة، وإنْ على نحو مضاد لها من ناحية مضمونها. وحتى مَن يكون منهم رجل دين أو متخرجاً في كلية دينية كان يكتب بمنطق المثقف المعاصر لا بمنطق الشيخ التقليدي ولا بمنطق الشيخ الصوفي، ولا يتحدث بمنطق الولي المجذوب.
لكن مع وصول الإسلاميين إلى السلطة؛ السلطة على عقول وقلوب جماهير عريضة، ومع زوال ذلك العامل الضاغط عليهم، تردّى إنتاجهم في التأليف أكثر فأكثر، وازداد من حيث الكم. واقتحم مضمار النشر منهم المتردية والنطيحة في التأليف، لأن سوق بضاعتهم رائجة ومزدهرة ويباع منها حتى المعطوب والتالف.
ولما رأى المثقفون الإسلاميون الحركيون في ثمانينات القرن الماضي أن شباب حركتهم وجمهورها العريض صار يقبل على قراءة الكتب الدينية المحضة أكثر مما كان يفعل في عقود ماضية، وأن موقع المثقف عندهم تراجع وتقدم عليه موقع الشيخ، تمشيخوا ومشيخوا خطابهم على نحو تام، ولقد فعل ذلك حتى مَن كان منهم هو في الأصل ليس شيخاً، وإنما كان أستاذاً. ذلك لأن لقب الأستاذ أصبح عند جماهير الإسلاميين أدنى بكثير من لقب الشيخ.
ومما استلفت نظري في قضية تقدُّم موقع الشيخ وتراجع موقع الأستاذ عند الإسلاميين أن عدداً منهم في كتبهم وفي أحاديثهم وخطبهم في عقود متأخرة أصبحوا يسمون سيد قطب بالشيخ سيد قطب لا بالأستاذ سيد قطب، لأنهم يرون أن استعمال لقب الأستاذ يقلل من أهميته الشخصية والدينية، رغم أن لقب الأستاذ قد لازمه في حياته في مرحلته الأدبية وفي مرحلته الإسلامية، ورغم أنه في مرحلته الإسلامية ينظر إلى نفسه بوصفه أستاذاً ومثقفاً ومفكراً في الدين والحياة، لا شيخاً في الدين، ورغم أنه في خطابه السياسي والثقافي الإسلامي كان ينأى بخطابه هذا أن يكون خطاباً مشائخياً.
إنني حينما أقرأ عن هؤلاء أو أسمع منهم تلقيب سيد قطب بالشيخ لا بالأستاذ في السياق الخاص الذي يستعملونه فيه، وهو السياق الديني، أمجّه للأسباب السالفة، إذ يبرز لي هذا الاستعمال بوصفه شيئاً نافراً، لأنه قد ألصق باسمه عنوة وغصباً.
هذا التحول الذي طرأ على المثقفين الإسلاميين في عقد الثمانينات أضرّ بالثقافة الدينية التي بثوها ونشروها بين جماهيرهم، لأن الذي استدعوه وتلبسوا شخصيته وخطابه ليس الشيخ الفقيه ولا الشيخ الأصولي (الأصولي هنا نسبة إلى علم أصول الدين)، وإنما الشيخ المحدّث والشيخ الواعظ والشيخ الدرويش. استدعوا هؤلاء وتلبسوا شخصيتهم وخطابهم بلغة سياسية واجتماعية وثقافية إسلامية محدثة وراديكالية ومتشنجة.
نعود بعد هذا الاستطراد إلى كتاب صاحبنا، أبو عبد الإله، «من أخبار المنتكسين»، الذي حاكى فيه كتاب فتحي يكن «المتساقطون على طريق الدعوة كيف… ولماذا؟» وقلّده فيه. موضوع الكتاب المحُاكي والمُقلّد هو تحصين جماعة الإخوان المسلمين بحيث تكون جماعة حديدية لا يسهل التفلت منها والذهاب إلى جماعة إسلامية أخرى أو إنشاء جماعة إسلامية جديدة، أو اعتزال نشاط الإخوان المسلمين الدعوي من دون الانضمام إلى نشاط إسلامي دعوي آخر. وكانت اللبنة الأساسية التي أقام عليها تحصينه الحديدي في كتابه هي مماثَلة لعهد الإخوان المسلمين بالعهد النبوي! بل وأكثر من هذا، فالإسلام في تنظيره الشاطّ عن الحق والحقيقة له مجيئان أو ظهوران. المجيء أو الظهور الأول كان في العهد النبوي. والمجيء أو الظهور الثاني كان في عهد الإخوان المسلمين!
هذا الموضوع بهذا التحديد لا نجده في كتاب أبو عبد الإله، فهو يحذر في كتابه من التملص مما يُسمى ظاهرة الالتزام الإسلامي. والملتزمون الإسلاميون في السعودية ينتمون إلى أكثر من تيار إسلامي؛ فهناك سلفيون تقليديون، وهناك سلفيون تكفيريون جهاديون، وهناك سلفيون جاميون، وهناك إخوان مسلمون، وهناك تبليغيون. والتحريريون عدد لا يكاد يُذكر. وظاهرة الالتزام الإسلامي تكونت من هذه التيارات. وبين هؤلاء المنتمين إلى هذه التيارات من حيث الشكل والمضمون سمات وقواسم مشتركة. والتسمية بالالتزام والملتزم والملتزمين عند المتدينين آتية من الإخوان المسلمين، وهي في أساسها مستعارة من الفكر الماركسي والفكر الوجودي.
والالتزام الديني أو الإسلامي الذي يحذر أبو عبد الإله من التخفف أو التملص منه، كما يتجلى في تضاعيف كتابه، هو الالتزام بمعناه المتشدد والمغالي أياً كان تيار صاحب هذا الالتزام الديني أو الإسلامي.
وإذا كان فتحي يكن أصَّل زمنياً لمن سمَّاهم المتساقطين عن دعوة الإخوان المسلمين بزمن بعيد، هو زمن العهد النبوي، فأبو عبد الإله أصَّل زمنياً لمنتكسيه في زمن أبعد بكثير من هذا الزمن، ألا وهو الزمن التوراتي، فراح يروي لنا حكاية برصيصا، وحكاية بلعام بن باعورا.
وهذا كله يجعلني أسأل: هل فهم أبو عبد الإله مضمون الكتاب الذي حاكاه في كتابه وقلَّده؟ وهل فهم الغاية منه؟
في قائمة الأسماء التي رصَّها أبو عبد الإله على غلاف كتابه بحسب الترتيب الآتي: أبو شجرة، النعمان بن محمد، برصيصا، جبلة بن الأيهم، الرجال بن عنفوة، بلغام بن باعورا، عبده بن عبد الرحيم، عبد الله القصيمي، أسماء أعرفها ما عدا اسماً واحداً، ورحت أسأل: ما الذي حشر القصيمي بين هاته الأسماء؟! وما هذا الكسر في السرد الزمني؟ ومَن هو عبده عبد الرحيم؟
هكذا في البداية قرأته: عبده عبد الرحيم، ولم أتنبه لكلمة «بن» بين اسمه الأول واسمه الأخير، فقلتُ: لا بد أنه مصري من أبناء المنتصف الأول من القرن الماضي، وقد يكون علمانياً أو من المجّان في القول أو زنديقاً أجهل اسمه. وعلى الفور ذهبتُ إلى فهرس الكتاب لأتعرف إليه وأعرف خبر انتكاسه. فوجدت اسمه في فهرس الكتاب في رقم الصفحة التي سبقت مباشرة رقم صفحة الخاتمة، مكتوباً هكذا: عبده عبد الرحيم. ولأنه مصري فلقد قرأتُ اسم أبيه أو اسم عائلته على أنه «عبد الرِّحيم» وليس «عبد الرَّحيم».
ذهبت إلى تلك الصفحة وكلي لهفة وفضول، وعرفتُ منها أنه من أبناء القرن الثالث الهجري، وكان مجاهداً في بلاد الروم، وهوى امرأة من نسائهم، فتنصَّر. وقد أُنسي القرآن كله – كما قال هو عن نفسه – إلا آيتين، وهما قوله تعالى: «ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون».
فحمدتُ الله أنه لم يفُتْني اسم من أسماء العلمانيين والمجّان في القول والزنادقة من أبناء مصر المحروسة في أول القرن الماضي وفي منتصفه. وللحديث بقية.

علي العميم

كاتب وصحافي سعودي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock