ان الأزمة التي تعيشها بلداننا العربية اليوم لا تقتصر في أسبابها العميقة على طبيعة الأنظمة الحاكمة، ومدى مشروعيتها أو أهليتها للقيادة، بل إنها في الواقع أزمة مجتمعية شاملة تطاول كل مناحي حياة هذه المجتمعات، وهي في الوقت نفسه حصيلة حقبة ممتدة في التاريخ تميّزت بركود المجتمعات العربية وعطالتها وتخلّفها عن مواكبة التطور العالمي منذ مطلع العصور الحديثة.
فلقد امتدت هذه الحقبة أكثر من خمسة قرون مضت، أي منذ أن طويت صفحة حكم المماليك، وخلفته الدولة العثمانية في بداية القرن السادس عشر، وهي المرحلة التي شهدت فيها أوروبا تقدماً نوعياً هائلاً في شتى الميادين. فمن الاكتشافات الجغرافية إلى بدايات النهضة في المدن الإيطالية، والى الإصلاح الديني، ومن ثم عصر الأنوار إلى الثورات المعرفية الكبرى الثلاث التي حرّرت وعي الفرد من هيمنة الفكر الغيبي، وجعلت الانسان في محور عالمه، والمسؤول الأول عن أفعاله، والمقرر لمصيره؛ وهي ثورة كوبرنيكوس الكوزمولوجية، وثورة داروين البيولوجية، وثورة فرويد السيكولوجية، وتوٍّجت صيرورة هذا التطور المتكامل في البلدان الأوروبية بتحقيق أكبر إنجاز مجتمعي، ألا وهو بناء دول مدنية حديثة، دول الحق والقانون والمؤسسات، دول المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.
ومنذ الصدمة الأولى بمركز الحضارة العالمية آنذاك التي نجمت عن غزوة نابليون لمصر عام 1798، ومجيء أول مطبعة إلى لبنان في منتصف القرن التاسع عشر، بدأ الوعي والشعور الشعبي يستيقظ ويتحسس الواقع المتخلّف الذي تعيشه بلدان السلطنة العثمانية، وبلدان الشرق، بصورة عامة، وإدراك حجم الهوّة الفاصلة ين مجتمعاتنا والغرب، ولم تكن لتنفع أو تقنع في تبرير أو تفسير هذا الواقع، تلك المواقف والدعوات التبريرية الصادرة عن الطرفين، مثل: الغرب غرب، والشرق شرق، وأنهما لا يمكن أن يلتقيا؛ ومثل أن حضارة الغرب مادية وعلمانية، وحضارة الشرق روحية غيبية.
ومن الطبيعي أن تكون الاستجابة الأولى لهذا التحدّي الحضاري الذي ترافق لاحقاً مع السيطرة الاستعمارية لمعظم البلدان العربية، من قبل رموز الفكر الإصلاحي الذين ركّزوا على أهمية تشخيص مكامن الداء في حياة المجتمعات العربية، من أجل اتباع أفضل المسالك لإصلاح أحوالها المتخلّفة. وقد تتابع دور هؤلاء الروّاد منذ منتصف القرن التاسع عشر، فمن رفاعة رافع الطهطاوي إلى خير الدين التونسي، إلى اليازجيين وبطرس البستاني، إلى جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وفرح أنطون، وعبد الرحمن الكواكبي/وغيرهم. لكن هذا المسار العام للفكر العربي الإصلاحي شهد، وخاصة بعد انتهاء الخلافة العثمانية، تميّزه وانقسامه إلى تياريْن رئيسييْن: الفكر المدني الليبرالي الذي ركّز على ضرورة التخلص من الهيمنة الاستعمارية، وانتزاع الاستقلال الوطني، وعلى أهمية تحقيق النهضة القومية، واللحاق بركب الأمم المتقدمة، وذلك بالاستناد إلى ثلاثة معطيات: وعي الحاضر، واستيعاب دروس الماضي، والأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية الصاعدة التي هي في حقيقتها خلاصة الحضارة الإنسانية التي أسهمت فيها أمم وشعوب كثيرة.
غير أن هذا الفكر المدني الليبرالي لم يكتب له أن يقوم بوظيفته التي من المفترض أن يضطلع بها في مجتمعاتنا، كما اضطلع بها في المجتمعات الأوروبية، وذلك لأسباب عديدة في مقدمها مستوى تطور المجتمعات العربية، ومحدودية دور الطبقات الوسطى التي لا شك في أنها الأداة والحامل الأجدر للمشروع الحضاري الليبرالي الاجتماعي الديمقراطي. وهكذا رأينا أنه بُعيد حصول البلدان العربية على استقلالها، ومواجهتها لمعركة التنمية الشاملة، والتوحيد القومي لكياناتها العديدة، تراجع دور الفكر الليبرالي، ممثلاً بمناهج التفكير العلمي، وبقيم الحرية والديمقراطية والحداثة، لصالح التيارات الأيديولوجية والسياسية، مثل التيارات القومية، والوطنية، والاشتراكية، واليسارية، والماركسية، وغيرها، التي كانت أبرز إخفاقاتها حتى اليوم فشلها في بناء دول مدنية حديثة في أقطارها.
أما التيار الإصلاحي الآخر، فقد تمثل في بدايته بالإطار العام للفكر السلفي الإصلاحي الذي أولى اهتمامه الأساسي لإصلاح أحوال المجتمعات العربية بالعودة إلى الأصول، والتركيز على مفهوم الأصالة وفق رؤيته لها، وعلى استعادة عصر المسلمين الذهبي الماضي عن طريق الجهاد، وإقامة دولة الخلافة من جديد. ومع تقدم الزمن، وفي مواجهة التحديات الضخمة، الذاتية منها والموضوعية، الداخلية والخارجية، التي واجهتها عملية التحرر الشامل للكيانات العربية، رأينا تيار الفكر السلفي الإسلامي في إطاره العام، يشتمل على ثلاثة تيارات فرعية متمايزة في أساليبها، ومشتركة في مرجعيتها العقيدية، وهي تيار الإسلام الدعوي، وتيار الإسلام السياسي، وتيار الإسلام الجهادي التكفيري.
هكذا عاشت المجتمعات العربية طول نصف القرن الماضي، وعاش الفكر العربي خصوصاً، صراعاً محتدماً، وتناقضاً مدمراً، بين الثنائيات التي تواجهه، والتي تحوّلت إلى إشكاليات معيقة لتجدّده وعصرنته، مثل: الموقف من الأصالة والمعاصرة، والموقف من العلم والدين، والموقف من العلمنة والديمقراطية، والعلاقة بين الهوية الوطنية والهوية العربية الجامعة، وأولوية الديمقراطية السياسية أو العدالة الاجتماعية، وأيهما يسبق الآخر، التحرر أو الوحدة أو تحرير فلسطين، وأخيراً وليس آخراً، العلاقة بين الذات والآخر، أي الكلّ الإنساني الأشمل.
لقد ظلّ دعاة الأصالة من السلفيين يركّزون كل همهم على السعي إلى تحقيق المثل الأعلى الذي يرومونه، لكن هذا المثل الأعلى غير موجود الآن في الواقع، ولا يتمثل بأي من الأنظمة التي تسمّي نفسها إسلامية. كما أنه، من جهة أخرى، غير قابل للتحقيق. وإذا كان ما هو مطلوب فهم مسألة الأصالة فهماً عصرياً مستوعباً ومتجاوزاً للإشكاليات التي واجهت الفكر السياسي العربي على امتداد القرن الماضي، فلا بد من وجهة نظرنا أن تستبدل بمفهوم آخر هو مفهوم الخصوصية التي تشكّل الثقافة عماد لحمتها الحيّة المتجدّدة على الدوام بالنسبة إلى أي شعب وأمة. هكذا تكون قراءتنا للتاريخ قراءة موضوعية سليمة، اذ بدل أن يكون تاريخنا العنصر الكابح والمعرقل لتحرّرنا ولنهضتنا الموعودة والمجهضة حتى يومنا، فإنه سيكون التاريخ الملهم بعبره ودروسه، والحافز لنا لتجنيد طاقاتنا وإمكاناتنا الذاتية، للحاق بركب الحداثة في زمن أصبح فيه العالم كله يعيش في ظل حضارة إنسانية واحدة. لكن مواقف الرفض تجاه ثقافة الآخر لا يمكن أن تشكّل بحدّ ذاتها ثقافة حقيقية أو مقوّمات هوية خاصة لأي شعب، وحتى على صعيد الأفراد فإن إدانة سلوك ومواقف الآخرين لا تعني، في أي حال من الأحوال، أننا نمتلك بديلاً أفضل، لأن هذا الأمر يقتضي منا امتلاك مقوّماته المعرفية والأخلاقية والإنسانية. وقد رأى هاملتون غب، وهو أحد المستشرقين المشهود لهم بالنزاهة والحياد، أن المجتمعات العربية والإسلامية لن تتصالح مع العصر، ولن تصبح كياناً فاعلاً في مسيرة العصر إلا إذا أعادت النظر في موروثها الفكري، في ضوء قواعد المنهج التاريخي. فإلى متى يستمر العقل العربي في دوامة الصراع والتناقض والازدواجية في تعامله مع الإشكاليات والثنائيات، التي لا تزال تعرقل وظيفته الأساسية كدليل مستشرف لآفاق وسبل التحرر والتقدم والنهضة؟ متى ينتهي هذا التيه المدمّر كي نخرج من حمأة هذا الصراع الذاتي المدمّر، فتغادر شعوبنا المهمّشة المستلبة المغلوبة على أمرها مواقع الانبهار من حضارة الآخر، والتطّير من شروره ومشاريعه ومخطّطاته، إلى مواقع العمل والبناء والتدبير العقلاني الواعي.
هكذا، ونتيجة الواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية منذ أكثر من أربعة عقود في ظلّ أنظمة استبداد شمولي، وفشل كل محاولات الإصلاح الذي طالبت به الشعوب العربية، وخاصة بعد انتفاضات الربيع العربي، وتراجع اهتمام النظام العربي الرسمي بالقضية المركزية للأمة، أي القضية الفلسطينية، والذي أعقب احتلال العراق وتدمير دولته؛ في مثل هذا المناخ توفّرت الظروف المؤاتية لتيار الإسلام السياسي، كي يمدّ في هيمنته ويسيطر على الحراك الشعبي لانتفاضات الربيع العربي، ومن ثم العمل على حرف هذه الانتفاضات عن مسارها الطبيعي، بعيداً عن الأهداف التي انطلقت من أجلها. وما حدث في ليبيا واليمن وسورية والعراق، هو خير دليل على ذلك، إذ بدعوى التمسك بالأصالة والحفاظ عليها، ظلّ الإسلام السياسي يطرح حتى اليوم مشروعاً مجتمعياً خاصاً به، يطلق عليه المشروع الحضاري الإسلامي الذي يرى فيه العلاج الشافي لكل جوانب النقص والتأزم في الحضارة العالمية الراهنة. فإذا سئل دعاة هذا المشروع عن موقفهم إزاء أمهات المسائل التي تشكّل عماد بنيان الدولة الحديثة، كانت الإجابة ملتبسة أو متناقضة أو تحتمل أكثر من تأويل.
فعلى صعيد الدولة ومرجعية الدستور يستمرّون في تأكيدهم أن الحاكمية لله، لا للبشر، وأن مرجعية الدستور هو الشريعة التي يختلفون في تفسير أو تأويل الكثير من نصوصها. أما بالنسبة إلى الديمقراطية، فيوافقون على العملية الإجرائية فيها، مثل دور الصندوق في الانتخابات والاستفتاءات. كما أنه بالنسبة إلى منظومة القيم التي تشكّل جوهر الديمقراطية، وخاصة علاقتها بالعلمانية، فلا يوافقون عليها أبداً، لأن الشورى في منظورهم هي الإطار الأوسع لتدبير كل شؤون الحياة، وللدفاع عن الأصالة التي بها يؤمنون.
من هنا، فإن الإسلام السياسي يقف موقفاً سلبياً من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، لا باعتباره قانوناً وضعياً فحسب، وإنما لأنه يعارض ما تضمنه إزاء العديد من الحريات الأساسية، وفي مقدمها حرية الضمير والاعتقاد، وحرية الإنسان بأن يؤمن بدين ما أو لا يؤمن، أو أن يغيّر دينه، أو أن يعترض على المساواة التامة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات… وغير ذلك. فالإسلام السياسي، بصورة عامة، يرى في الروابط الوطنية والقومية عصبيات تهدّد وحدة الأمة التي يدعو إليها، والتي تجمعها رابطة الدين.
خلاصة القول، إن الأصالة بالنسبة إلى تيار الإسلام السياسي تقتضي الاغتراب والهجرة من الزمن الحاضر، والانشداد والعودة إلى الماضي، إلى دولة الخلافة وعصرها الذهبي، وما خلافهم مع الإسلام الجهادي التكفيري إلا من حيث توقيت إعلان قيام هذه الدولة وتهيئة مستلزماتها. وإذا كانت المنظمات الجهادية تقسم العالم إلى فسطاطيْن؛ فسطاط الحرب، وفسطاط السلام، فإن الإسلام السياسي بدوره يقسم هذا العالم إلى دارين: دار الكفر، ودار الإيمان.
إن ما هو مطلوب منا اليوم، حيث مجتمعاتنا العربية تعيش منعطفات مصيرية تهدّد كياناتها، وتنذر بانتقالها من حياة القهر والاستلاب والاستبداد إلى بدائل أشد خطورة وظلمة وانتحاراً، وهي متمثلة بانتشار وهيمنة الفكر التكفيري الإرهابي، مثل داعش، وجبهة النصرة، وبقية فروع القاعدة، وأضرابها، والتي تحاول اختطاف مجتمعاتنا وإرجاعها إلى أبعد أغوار الماضي، وحرمانها من امتلاك أبسط قيم ومنجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة.
إن ما هو مطلوب هو أن يتطور ويتجدّد الفكر العربي السياسي، ليكون في مستوى التحدّيات والمهمات المطروحة. وهذا المستوى المطلوب لا يمكن أن يكون إلا ثمرة ثورة ثقافية فكرية جذرية، تعيد قراءة الموروث بمنهج نقدي تاريخي، كما أسلفنا، وتعيد بناء العناصر والمقوّمات الأساسية للخصوصية الوطنية التي تكفل التفاعل الإيجابي، أخذاً وعطاءً، مع حضارة العصر، وهذه الغاية لا يمكن بلوغها، كما علّمتنا دروس التاريخ القريب والبعيد، إلا في ظل مشروع تأسيس دولة مدنية حديثة.
نقلا عن: مركز دراسات الوحدة العربية