منوعات

نظمي لوقا.. مسيحي عشق نبي الإسلام (1)

شهد عام 1959 الظهور الأول لكتاب (محمد… الرسالة والرسول) للأكاديمي وأستاذ الفلسفة الدكتور نظمي لوقا، وصحيح أنه لم يكن هناك دافع تاريخي أو اجتماعي يلح على الكتاب في فكر مؤلفه الذي شرع في كتابته منذ أواخر الأربعينيات إلا أن ما قدمه في الكتاب كان ضروريا لتقوية أواصر المجتمع المصري ونسيجه الوطنى الذى كان أعداء ثورة يوليو في الداخل والخارج يسعون للقضاء عليه من خلال إثارة مشاعر الطائفية والكراهية بين أبناء المجتمع الواحد، ولعل هذا هو ما دفع عددا من كبار المثقفين المصريين إلى المسارعة في الحفاوة بالكتاب وموضوعه إلى الحد الذي دفع السيد/ كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم في الجمهورية العربية المتحدة آنذاك إلى استصدار قرار بتعميم تدريس الكتاب في إقليمي الجمهورية (مصر، وسوريا)، كما كتب حسين مقدمة للكتاب في طبعته الثانية الخاصة بوزارة التربية والتعليم وكان مما ورد فى هذه المقدمة: (موسى.. وعيسى.. ومحمد.. هم أنبياء هذه الدعوة الواحدة الأزلية الأبدية لا يختلف أحد منهم عن أحد في مبدأ من مبادئها ولا غاية من غاياتها، وإنما اختلفت الأزمان وتطورت الجماعات من عهد نبي منهم إلى عهد نبي، فكان التعبير المتطور لمعنى تلك الدعوة على لسان كل نبي، والغاية واحدة والإيمان واحد والإله واحد.. معنى لم يفطن له كثير من الناس في كثير من العصور، وفطن له مؤلف هذا الكتاب، فأضاء مصباحا قوي الضوء خليقا بأن يهدي إلى طريق الرشاد)

 

احتفاء لائق

كان الكتاب يمثل حلا جذريا لمواجهة العديد من المؤامرات التي كانت تحدق بالمجتمع المصري والعربي في الداخل والخارج، وسلاحا رادعا في مواجهة حرب الأفكار الضروس التي اجتاحت العالم العربي منذ بداية مرحلة الستينات، أو بتعبير كمال الدين حسين: دين (سارتر) غربا أو دين (كارل ماركس) شرقا بينما نتخلى عن مثلنا وقيمنا وتعاليم أدياننا السماوية، وسرعان ما بادرت الدولة التي كانت تملك وعيا  ومشروعا حقيقيا لتكريس فكر المواطنة والإخاء الإنساني بتدريس الكتاب على الناشئة من الطلاب في المراحل التعليمية المختلفة.

 غير أن تلك الحفاوة من وزير التربية والتعليم في الجمهورية العربية المتحدة، لم تكن مظهر الاهتمام الوحيد بذلك المؤلف الفريد في بابه ونظمه وموضوعه، فلقد مٌهرت الطبعة الثانية بمقدمة بديعة لأحد فلاسفة التنوير العرب المعاصرين والتي عنونها بـ (تطور… نبيل)، وهو الشيخ أمين الخولي الذي تنفس في كتاب لوقا رائحة محاولة قديمة له لكشف أواصر الصلة والارتباط ما بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، وما بين الإسلام والإصلاح البروتستانتي على وجه الخصوص – فكان مما جاء في مقدمته

(يشعر قارىء كتاب «محمد الرسالة والرسول» أن باستطاعة البشرية الترفع المٌحلق عن وراثاتها ورواسبها الصلبة من أفعال آلاف الأجيال.. واستهواءاتها العنيفة..وضعفها المتهالك أمام هذا وأشباهه مما يثقلها، ويحول دون كل استعلاء منها.. إننا بكل ضعف بشريتنا لا ندرك من صلة الأديان المختلفة إلا العداوة والبغضاء.. والحقد على حطب جهنم المخالفين لنا، وتلك هي الآفة التي صب بها أهل الأديان على الحياة في كل عصور التاريخ شواظا من نار.. إن هذا الكتاب يرد إلى العقول القوية والقلوب الكبيرة الثقة في بلوغ الحياة)

وقد حرك الكتاب شغاف قلب المفكر الكبير فتحي رضوان الذي سارع بمراسلة مؤلفه يثني عليه شجاعته ومغامرته بعديد من روابط مجتمعه المسيحي في تأليف كتاب منصف عن نبي الإسلام على الرغم من كونه مسيحي، مستبعدا أن يكون هذا السبب فقط هو الدافع وراء مراسلته، وإنما لأن (الطابع الإنساني في كتابه قد مس شغاف قلبي أكثر من أي شىء آخر على الرغم من جماله كله، فقد جرى بأسلوب من يحب الناس ويحب الخير لهم، ويحب لهم أن يعيشوا متآخين، صافية نفوسهم، مشرقة بالود والتسامح قلوبهم)

في الكتاب يحيلنا نظمي لوقا إلى مشهد درامي بالغ التأثير يعود بنا إلى مدينة السويس عام 1926، أما عناصره فشيخ معمم فقيه حٌرم نعمة الإبصار لكنه حاز حظا وافرا من نعمة البصيرة، يعرفه القاصي والداني من سكان المدينة، أما العنصر الثاني في المشهد فهو صبي في السادسة من عمره فيه وسامة وأناقة. ابن لموظف نقل حديثا إلى المدينة يعرف الجميع أنه (مسيحي صليبة) كما كانوا يدعونه، ينتمي لأسرة عريقة في الطقس الكنسي فأكثر أجداده من أصحاب الطيالس والعمائم السود.

كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم في الجمهورية العربية المتحدة

 كان ولع الوالد الذي يقرض الشعر بلغة الضاد وأسرار بلاغتها وفصاحتها سببا مبشرا في إلقاء الصبي بين أيدي ذلك الشيخ الأزهري المعمم الذي يتحدث الفصحى في بلاغة وطلاقة – كأنما خرج للتو من سوق عكاظ – كما يصف الصبي، كان الشيخ زاهدا في التدريس للطلاب لولا ان أغراه الأب بشأن الإبن الذي قرأ عليه كليلة ودمنة قبل أن يلتحق بسني الدراسة الأولى، ويأبي أن يحادث معلميه في المدرسة بغير الفصحى مما يعرضه للسخرية من قبل أقرانه، وإن الأب ليرجو من الشيخ أن يٌقوّم لسانه بالقرآن، وأن ينهل ولده على يديه من المعلقات وعيون الشعر، لكن هذا التقارب ما بين الصبي وشيخه أثار منغصات المتعصبين والمتزمتين، حتى لقد أثار تأثر التلميذ بشيخه قلق الأم نفسها التي راحت تدفعه للذهاب إلى الكنيسة أيام الآحاد، وتتلو عليه آيات من الكتاب المقدس قبل أن تصارح الوالد بقلقها من وقوع الصبي في غواية دين الشيخ.

كان الشيخ سيد البخاري يتولى تعليم الصبي من بعد عصر كل يوم وحتى إغلاق المسجد عقب صلاة العشاء، فإذا قامت الصلاة توجه الشيخ لإمامة المصلين ثم يعود إلى التدريس للصبي اللامع الذهن المتقد الفكر، ولم تكن أسرار اللغة وأساليب البلاغة وحدها هي ما يقوم به الشيخ، وإنما تخطى ذلك إلى تربيته وتأديبه وفق الأصول الإسلامية التقليدية، فقد حدث في إحدى المرات، ان حضر خادم الشيخ إلى المسجد في قضاء حاجة، فأخبر الصبي نظمي الشيخ بأن خادمه يطلبه، وما أن فرغ الشيخ من لقاء الخادم حتى توجه إلى الصبي باللوم قائلا (ما هكذا يكون أدب السادة أيها السيد!.. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فتاي وفتاتي ولا يقول عبدي وأمتي) وتلى عليه صنوفا من آداب صحابة النبي مع خدمهم وإمائهم، فلما عاد الصبي إلى البيت ولمس من والدته سوء معاملة لخادمهم انهال عليها بما تعلمه في درس الشيخ من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته، فارتعدت فرائصها، وسرعان ما حادثت زوجها في أمر الصبي، منع الأب ابنه من الدرس وذهب لملاقاة الشيخ ومصارحته، فإذا به ينتفض في وجهه..

 «هل ترضى مني أن آخذ ولدك  بغير الأدب الأكمل والنهج الأقوم وأن أعرف الحق وأحيد عنه؟ ألم تجد في كتابك المقدس أن المسيح غسل أقدام حوارييه؟ آداب الرسل ليس بينها تفاوت، وإنما التفاوت عندنا حين نفرط في لباب الدين لنتعلق بزخارف الدنيا».

أسقط في أيدي الأب الذي عاد لزوجته يخبرها بأن الصبي سوف يستأنف دروسه مع الشيخ من الغد، فإنه ليستحي أن يظن فيهم الشيخ دون هذه الآداب.

يحكي نظمي الذي يروى سيرته الذاتيه، بأنه منذ ذلك الحين حوصر بتعاليم المسيحية، وصبت عقائدها في عقله صبا، وحين حاول المناقشة في عقائده كانت الإجابة… أن الشك يفتح طريق الكفر، حينها ذهب الصبي إلى شيخه يستشيره فتحرج الشيخ، لكنه أرشده إلى  أن العقل هو الإمام الذي أنعم الله به عليه، وأن الدين المتين يَقْوى بالتعقل والتفكير، وأن اليقين الذي لا يصمد أمام الشك يقين زائف، لقد رأي الشيخ في الفتى استعدادا للانفتاح على سائر العقائد والديانات، فحدثه عن غاندي، وعن صوفية الإسلام وأخبره أن لباب الأديان كلها واحد عند من ينفذون إلى الجوهر وينبذون القشور.

وقد تعرض الصبي في تلك المرحلة لعظة ألقاها واعظ شهير بمدينة السويس يندد بطائفة البروتستانت، مطلقا عليهم عبارات من قبيل (الذئاب الخاطفة)، حينها حمل الصبي فزعه إلى الشيخ وحكى له، فأجابه الشيخ..أواثق مما سمعت؟ قال. نعم. فأجابه أعوذ بالله إن مسيح هذا الواعظ ليس مسيح الناصرة الذي قال أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم. إقرأ انجيلك يا بني وأعرض عن مفسري السوء، وقد استمر الشيخ في تعليم الصبي لسنوات وما أن أتم التاسعة من عمره حتى كان الصبي قد حفظ القرآن، ووعى المعلقات وديوان الحماسة، وقرأ اللزوميات، وأفتتن بابى العلاء والمتنبي، وأصبحت سيرة نبي الإسلام وخلفائه آلف إليه من سيرة أصحابه- إلى أن طرأ خطب كان من شأنه أن يفرق ما بين الشيخ وتلميذه.. دون أن يستسلما.

(يتبع)

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker