كانت المعضلة الحقيقية لصلاح أبو سيف وهو يجهز لإخراج فيلم «القاهرة 30»، هى اختيار ذلك الممثل الذى يمكنه – ليس فقط – قبول دور محجوب عبد الدايم، وإنما إبداعه بالكيفية وبالأداء الذى يطمح له أبو سيف، والذى كتبه نجيب محفوظ فى روايته البديعة «القاهرة الجديدة» وكان محجوب هو بطلها الرئيسى.
ومن حسن حظ أبو سيف والسينما المصرية أن عين المخرج الكبير كانت قد وقعت على فنان مسرحى، يؤدى أدوارا مسرحية متميزة لكنه لم يكن قد عمل بالسينما من قبل، وقد تابعه أبو سيف أكثر من مرة، و ذهب ليشاهده للمرة الأخيرة فى عرض مسرحي بالأسكندرية، قرر بعدها أن يرشحه لدور محجوب عبد الدايم، فهل قبل حمدى أحمد الدور بسهولة؟
محجوب عبد الدايم
وُلد حمدى أحمد محمد خليفة فى التاسع من نوفمبر عام 1933، بمحافظة سوهاج ثم انتقل منها إلى القاهرة، ليلتحق بكلية التجارة، وبمعهد الفنون المسرحية، ليقرر بعدها أن يترك الكلية، وأن يستمر بالمعهد، وفى عام 1961 التحق حمدى أحمد بفرقة التليفزيون المسرحية التى فاز بجائزة أفضل وجه جديد بها، ومثل عددا من المسرحيات والتى من خلال متابعتها قرر صلاح أبو سيف أن يرشحه للدور الأهم والأصعب فى تاريخه الفنى بل وفى تاريخ السينما المصرية ففى منتصف أغسطس عام 1965 عرض صلاح أبو سيف سيناريو فيلم القاهرة 30 على حمدى أحمد، وأخبره بأنه اختاره لدور محجوب عبد الدايم، وطلب رده بأسرع وقت، لكن حمدى أحمد اشترط إمهاله فسحة من الوقت لصعوبة الدور الذى نعرفه جميعا، دور الرجل الذى يبيع شرفه ورجولته ويقايضهما بوظيفة حكومية توفر له دخلا ثابتا، الرجل الذى يقبل أن يتزوج عشيقة المسئول النافذ فى الوزارة لكى يكون ستارا للعلاقة المحرمة بين المسئول وعشيقته، عاش حمدى أحمد ضغطا نفسيا رهيبا و استشار كثيرين من أهل الفن والثقافة ومن أقربائه خاصة شقيقه، وتباينت آراؤهم جميعا ما بين موافق على قبوله للدور ومعارض له، فقرر أن يذهب إلى نجيب محفوظ شخصيا ليسأله وكان رد محفوظ : إن محجوب عبد الدايم الذى قصده فى روايته هو متهم يحمل وثيقة اتهام للمجتمع أى أنه ليس المذنب الوحيد فالجميع مذنبون، وشاركوا فى وصوله إلى تلك الدرجة السحيقة من السقوط والإنحدار، فوافق حمدى أحمد بعد حوالى شهر ونصف الشهر على قبول الدور ليبدأ تصوير الفيلم فى الحادى والثلاثين من أكتوبر عام 1965، والغريب أن نجيب محفوظ كان معترضا فى البداية على ترشيح حمدى أحمد لدور محجوب عبد الدايم، باعتباره ممثلا جديدا لم يخض تجربة العمل فى السينما من قبل، لكن محفوظ عاد بعد عرض الفيلم ليعلن قناعته التامة بأداء حمدى أحمد، وأنه – محفوظ – أخطأ حين اعترض عليه فى البداية
https://www.youtube.com/watch?v=fhIYtf28IOQ
الضغوط التى عاشها حمدى أحمد قبل قبول دور محجوب كانت طبيعية، فالرجل صعيدى قح، وشرقى قح، يحرص على القيم والمبادىء، وله مواقف نضالية منذ صغره، ففى عام 1949 اعتقلته قوات الإحتلال الإنجليزى، على خلفية مشاركته فى مظاهرة مناهضة للإنجليز، وهو محافظ وملتزم دينيا إلى حد كبير فكيف يقبل مثل هذا الدور؟، فى الحقيقة رأى حمدى أحمد أن افتضاح أمر محجوب عبد الدايم واكتشاف والده لحقيقة ابنه ونفسه الدنيئة، وضياع كل شىء فى نهاية الفيلم بالنسبة له ولزوجته إحسان شحاتة التى جسدتها سعاد حسنى ببراعتها المعتادة هو رسالة لبائعى الشرف وإنذار بنهاياتهم السوداء، ثم أن الدور كان فرصة عمر بالنسبة لممثل مبتدىء لم يكن قد أدى مشهدا سينمائيا من قبل، ثم أن الجمهور – فى رأيه – لن يماهى أو يخلط بين شخصية حمدى أحمد الحقيقية وبين شخصية يجسدها على الشاشة، لكن رهان حمدى أحمد كان خاطئا – فقط – بالنسبة لأهله فى الصعيد، الذين ثارت ثائرتهم عقب عرض الفيلم ورشقوا دور العرض التى كانت تعرض الفيلم فى محافظة سوهاج بالطوب بل قاموا بتكسير بعض محتويات تلك الدور، ولم يهدأوا إلا عندما رفعت دور العرض السنمائى فيلم القاهرة 30 من عروضها، واستبدلته بفيلم آخر
وبشكل عام يمكننا أن نقرر – من وجهة نظر فنية – أن دور محجوب عبد الدايم كان أهم وأعظم الأدوار التى قام بها حمدى أحمد، وأنه كان بوابته لعالم النجومية، وأنه وضع قدمه راسخة فى السينما المصرية، وتبارى مع سعاد حسنى وأحمد مظهر وتوفيق الدقن وعبد المنعم إبراهيم وأحمد توفيق وعبد العزيز مكيوى والكبيرين شفيق نور الدين وعقيلة راتب، فى الفيلم الذى نال مركزا متقدما فى قائمة أفضل أفلام السينما المصرية، وحصل عنه حمدى أحمد على أول جائزة فنية منحتها له جامعة الدول العربية .
مثل حمدى أحمد دور محجوب عبد الدايم الشاب الريفى الفقير القادم إلى القاهرة محملا بفقره وعجزه وبؤسه ليلتحق بالجامعة وفيها يتعرف على المناضل على طه والصحفى أحمد والجميلة الفاتنة إحسان شحاتة التى ترتبط بقصة حب عنيفة مع على طه، لكنها تماثل « محجوب » فى الفقر والبؤس والعجز، ليجدا نفسيهما يلتقيان عند نقطة السقوط للهاوية حين تبيع إحسان شرفها لقاسم بيه وكيل الوزارة الذى يبحث عن ستار يؤمن علاقته بإحسان فلا يجد رئيس مكتبه سالم الإخشيدى إلا بلدياته محجوب عبد الدايم ليقبل هذه الدنية فيقبلها بالفعل، ليسقط الجميع فى الهاوية ولا يبقى نظيفا شريفا إلا الوطنى المناضل على طه، و بقيت كلمة طظ التى كررها محجوب عبد الدايم فى مشاهد كثيرة كلما تعرض لموقف صعب إحدى علامات الدور.. مثل قوله طظ فى الليسانس .. طظ فى الشرف
بين السينما والتليفزيون
حاول بعض النقاد اختصار تاريخ حمدى أحمد فى دوره الأشهر محجوب عبد الدايم، لذلك كان هذا الفنان الكبير يرفض فى كثير من الأحيان الحديث عن تلك الشخصية التى أبدعها فى أول مشواره السينمائى. وقد شارك بعدها فى 24 فيلما سينمائيا نذكر منها « الأرض – أبناء الصمت – لقاء مع الماضى -المتمردون – فجر الإسلام -أنف وثلاثة عيون – سوق المتعة – و صرخة نملة » آخر أفلام الفنان الكبير ومن المهم هنا التأكيد على أن اختصار حمدى أحمد فى دور محجوب عبد الدايم هو سوء تقدير وتقييم فمثلا قام أحمد بدور محمد أفندى فى فيلم الأرض، ذلك الفلاح المتعلم الذى يتعالى على أهل قريته كفر الأنجب فى فيلم الأرض والذى ينافس عبد الهادى على حب وصيفة والذى يحمله أهل القرية توصيل شكواهم المطالبة بعدم اقتطاع أى شبر من أرضهم لمصلحة تعبيد طريق لقصر الباشا لكنه يفشل فى مهمته ويقع ضحية خديعة الباشا الرأسمالى ويخسر قلب وصيفة كما يخسر حب واحترام أهل القرية، دور أداه حمدى أحمد ببراعة منقطعة النضير لكنه سقط فى جب النسيان بعد أن غطت عليه وعلى غيره من أدوار حمدى أحمد شخصية محجوب عبد الدايم، لكن أحمد تجاوز هذا المأزق السينمائى بعد ان أدرك عقدة شخصية محجوب عبد فكثف نشاطه فى الدراما التليفزيونية واشترك فى مئات المسلسلات التليفزيونية ولا يمكن أن تنسى ذاكرة الدراما أدواره فى مسلسلات: « شارع المواردى – وادى فيران – جمهورية زفتى – إمام الدعاة – السمان والخريف – على الزيبق »
https://www.youtube.com/watch?v=lGjGDeeVeHU
فنان سياسى
أما فى المسرح فرغم أن بداياته كانت مسرحية وعن طريق تلك البدايات دخل عالم السينما فإنه لم يعمل بالمسرح كثيرا ووقف على خشبته فى مسرحيات « حرم جناب السفير – إزاى الصحة – ريا وسكينة.. التى لم يستمر فيها أكثر من ثلاثة أشهر فى دور عبد العال الذى أداه من بعده أحمد بدير ونتيجة خلافاته مع أبطال العمل شادية وعبد المنعم مدبولى وسهير البابلى خاصة شادية التى أعلنت عدم ارتياحها للعمل معه، تلاقت رغبته فى الإنسحاب مع رغبة مخرج المسرحية حسين كمال ومنتجها سمير خفاجى فتركها مبكرا.. وعن ريا وسكينة قال حمدى أحمد : ما جذبنى لتقديم ريا وسكينة جملة كان يقولها عبد العال هى « عمر البلد دى ما هينصلح حالها طول ما فيها ناس بتخاف.. أنا قبلت المسرحية علشانها وفكرت فى اختيار وعاء كوميدى أوصل من خلاله هذه الجملة » وذكر حمدى أحمد أن صوفى أبو طالب رئيس مجلس الشعب وقتها شاهد العرض وعقب على تلك الجملة قائلا لحمدى أحمد: البركة فيك يا سيدى وهى الجملة التى تم إلغاؤها حين تم إسناد الدور لأحمد بدير.
كان حمدى أحمد فنانا سياسيا من الطراز الأول وانضم لحزب العمل المعارض، وانتخب عضوا بمجلس الشعب عن دائرة بولاق عام 1979، وكتب مئات المقالات فى صحف الأهالى والشعب والأحرار وغيرها من الصحف، وكانت له ميوله الاشتراكية، وعُرف بتأييده الشديد لمواقف وقرارات الزعيم جمال عبد الناصر، ومن المؤكد أن مبادىء حمدى أحمد وقيمه الإنسانية ومواقفه السياسية المحترمة التى كانت سببا فى أن يجلس فى بيته سنوات بلا عمل فى عصر الرئيس الأسبق حسنى مبارك من المؤكد أن هذه الخلطة الإنسانية الفريدة قد أنقذته من الوقوع فى براثن « كراهية الجمهور » التى كانت كفيلة بأن تنهى مشواره الفنى مبكرا عقب أدائه لشخصية محجوب عبد الدايم. وفى الثامن من يناير عام 2016 رحل حمدى أحمد، مشيعا بمحبة أولئك الذين عرفوا تاريخه كفنان صاحب رسالة لا تموت.
الفيديو جراف:
نص: بلال مؤمن
جرافيكس: عبد الله محمد