«فلتذكروني.. لا بسفككمُ دماء الآخرين.. بل إذكروني بإنتشال الحق من ظفر الضلال، بل إذكروني بالنضال على الطريق، لكي يسود العدل فيما بينكم.. فلتذكروني بالنضال
فلتذكروني عندما تغدو الحقيقة وحدها حيرى حزينة
فإذا بأسوار المدينة لا تصون حِمى المدينة
لكنها تحمي الأمير وأهله والتابعين»…
هكذا يوصينا عبد الرحمن الشرقاوى على لسان «الحسين» فى رائعته «الحسين ثائرا وشهيدا»…
فى10 نوفمبر 1920 ولد عبد الرحمن الشرقاوى، وفى 24 من نفس الشهر وبعد 67 عاما رحل الفتى المقاتل، تاركا سيفه الذى حمله دفاعا عن «الأرض» منتصرا لـ «عرابى زعيم الفلاحين» ثائرا «للحسين»، ذلك السيف الذى فتح عليه براكين الغضب وهو لم يكترث قائلا: «نحن الذين يموت أفضلنا ليحيا الآخرون– نحن الذين صدورهم كظهورهم مكشوفة للدارعين». وهو الذى منح «جميلة بوحريد» جمالا لا مثيل له، وصرخ فى وجه القبح والإستغلال.
إنحاز للنبى محمد الإنسان والمُعلم رافضا الاتجار بالدين متصديا لأسرى النصيّة، موثقا ملامح العدل والمساواة وحرية الإجتهاد فى أعمال ستظل باقية.
عبد الرحمن الشرقاوى نبى الشعر الذى أطلق صرخته فى وجه الطغاه وتلفَح بالبسطاء وإحتمى بالمقهورين وانتصر لهم فإلتفوا حوله ودعموا رسالته. هو المناضل والثائر وأحد صناع الوعى،و أحد نبلاء الأدب والفن العظام.
النشأة والتكوين
ولد عبد الرحمن الشرقاوي في قرية «الدلاتون» مرکز شبين الکوم بمحافظة المنوفية. تلقی تعليمه بالمدرسة الأولية بالقرية وحفظ أجزاء من القرآن الکريم، ثم التحق بالمرحلة الجامعية وتخرج في کلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1943م
ساهمت القرية التى نشأ فيها الشرقاوى في تشكيل وعيه ووجدانه، وأثرت بشكل كبير على إنحيازاته، لم تكن القرية عنده مجرد مكان نشأ فيه وارتبط بذكرياته فى الطفولة، فقد استوعب بدقة كل تفاصيلها وعلاقاتها المركبة، وساهم ذلك فى صياغة رؤيته ومشروعه الفكرى والإبداعى.
كان والد الشرقاوى حريصا على تحفيظه القرآن الكريم، وقراءة كتب التراث مبكرا، وكان منزل الأسرة يستضيف مثقفى القرية من خريجى دار العلوم فى لقاءات فكرية وثقافية يحرص والده على أن يحضرها أبناؤه.
أدرك الشرقاوى مبكرا ذلك الظلم والقهر الذى يتعرض له الفلاحون فى قرى مصر، ولعل قدرته المذهلة على تصوير حياة المستضعفين من فقراء الفلاحين فى روايته الرائعة «الأرض» بكل تلك الدقة، وبكل هذا الغنى فى التفاصيل، كانت دليلا على تأثير القرية على الشرقاوى.
بعد تخرجه في الحقوق سنة 1943 استطاع الشرقاوي عبر تواجده فى القاهرة أن يقترب من المد الفكرى والأدبى الذي
تميزت به العاصمة، كما اقترب من معارك فكرية ومدارس ابداعية جديدة. وفي ظل هذا المناخ تعرّف الشرقاوي إلي أديبين كبيرين أثرا في وجدانه وحياته واستفاد منهما، هما «سعد مكاوي» وهو من نفس قريته، و«محمود البدوي».
وإنضم الشرقاوي إلي جماعة «الفجر الجديد» الأدبية اليسارية، وكانت هذه الجماعة عنصر جذب للكثير من المثقفين والأدباء حينذاك .
إمتلك الشرقاوى رؤية اجتماعية واضحة وكانت دعواته إلي اقتسام الثروة بين طبقات المجتمع قبل ثورة 23 يوليو قد فتحت عليه هجوما حادا من قبل البعض، وخاض معارك فكرية مبكرة دفاعا عن وجهة نظره وعن إنحيازاته.
ولم يستمر الشرقاوى فى عمله بالمحاماه كثيرا حيث اشتغل بها لمدة عامين فقط، ثم عمل مفتشاً للتحقيقات بوزارة المعارف العمومية، وإستقال عام 1956، ليتفرّغ للعمل الأدبي بجريدة الشعب، ورأس تحرير مجلة الطليعة الشّهرية التي كان يصدرها إتحاد خريجي الجامعة عام 1945م، حتّي أغلقت عام 1946م.
شارك في تحريرالصفحة الأدبيّة لجريدة «المصري» ونشر فيها الكثير من القصص والمقالات والقصائد، وأشرف علی الصفحة الأدبيّة بجريدة «الشّعب» ثم جريدة «الجمهوريّة» وخاض علی صفحاتها معارك كثيرة ،دفاعاً عن الشعر الحديث
وعيّن رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة، «روز اليوسف» عام 1971م، وعيّن سكرتيراً للمجلس الأعلی لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعيّة بدرجة وزير في الفترة من 1977- 1979، ثم تفرّغ للكتابة في جريدة «الأهرام»،
حصل علی جائزة الدولة التقديريّة في الأدب، ونال وسام الآداب والفنون من الطبقة الأولی عام، 1974م.وإنتخب رئيساً لمنظمة تضامن الشّعوب الإفريقيّة والآسيويّة في مؤتمر عدن عام 1981م كما حصل على جائزة لينين للسلام,
معارك وأزمات
لم يكن الشرقاوى مجرد شاعر مجدد أو مسرحى فذ أو روائى متميز، بل كان باحثا ومفكرا ومناضلا تقدميا مرموقا. وقد أثارت كتبه وتناوله المختلف والمغاير لسيرة النبى محمد عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام، غضب عدد من علماء الدين، خصوصا بعد صدور كتابه «محمد رسول الحرية» الذى صدرت طبعته الأولى عام 1962، وتم نشره على حلقات فى جريدة المساء، مما فتح أبواب الهجوم الحاد عليه، الذى وصل لدرجه اتهام البعض له بالكفر.
فقد صور حياة رسول الله على نحو أدبى عبر مشاهد متتابعة لسيرة النبى الإنسان، من الطفولة ثم زيجاته، ومرحلة تلقيه الوحى، مستعينا بالحقائق التاريخية فى التجسيد الإنسانى للشخصية، وهو ما رأى فيه بعض علماء الدين خروجا عن المتداول والمُستقر، بأن عظمة الرسول تدلل عليها معجزاته وليست إنسانيته فقط. ورغم إشادة طه حسين والعقاد بالكتاب، فقد وُجهت للشرقاوى الكثير من التهم لدرجة مطالبة بعض المتشددين بإعدامه وإحراق كتبه.
وبعد ان علم الرئيس جمال عبدالناصر بالأزمة سأل الشيخ محمود شلتوت، شيخ الجامع الأزهر وقتها عن الكتاب، فأبدى إعجابه به، فصرح عبدالناصر بتداوله والإفراج عنه، بعد أن تم منعه.
وعن هذا الكتاب يقول الشرقاوي إنه «أراد أن يصور قصة إنسان اتسع قلبه لآلام البشر ومشكلاتهم وأحلامهم، وكونت تعاليمه حضارة زاهرة خصبة أغنت وجدان العالم كله لقرون طويلة، ذلك أن هذا الإنسان العظيم يتجاوز العصور والأمكنة، ويمثل نموذجا فذا ومثلا أعلى للباحثين عن قيم البطولة المبشرة بالعدالة والحرية والسلام والحب والرحمة والمساواة والمستقبل الأفضل للبشر جميعا بإختلاف الديانات والأجناس واللغات والثقافات، بمعنى أن الكتاب ليس موجها إلى المسلمين وحدهم، لكن لسائر البشر للتدليل على عبقرية النبى وإنسانيته وعقلانيته وتسامحه».
وبعد سنوات قليلة وفى عام 1969 يخوض الشرقاوى معركة أخرى مع علماء الدين عقب نشر مسرحيته «الحسين ثائرا وشهيدا»، والتى تعد إحدى أيقونات المسرح الشعرى العربى ويواصل خلالها الشرقاوى الإرتكاز على التراث العربى والإسلامى وإسقاطه على واقع يسود فيه القمع والظلم.
لكن هذا العمل لم ينج من هجوم شرس منذ أن خرج إلى النور ،وفشلت محاولات الحصول على موافقة الأزهر الشريف لعرض العمل على خشبات المسرح لسنوات طويلة، كما كانت هناك معوقات سياسية منعت عرضه.وظل هذا الحلم يراود الفنان الراحل كرم مطاوع الذي حاول تقديم النص تحت عنوان «ثأر الله»، ورغم الانتهاء من البروفات تماما فى عام 1972، إلا أن مظاهرات الطلاب المطالبة بخوض الحرب مع إسرائيل، أجلت تحقيق هذا الحلم.
وفى عام 1976 كرر كرم مطاوع المحاولة، إلا أن الأزهر رفض النص بدعوى عدم جواز ظهور شخصيات إسلامية قديمة بارزة على المسرح.
وفى آخر سنوات الشرقاوى تولى الدكتور عبدالمنعم النمر أحد كبار علماء الازهر الدفاع عن آرائه -بإعتباره باحثاً محترماً وتحمس للمسرحية. وبالفعل عُرضت المسرحية مرة أخرى على الرقابة التى أحالتها للجنة من علماء الأزهر فأبدوا أربعة تحفظات رئيسية؛ أولها ظهور الحسين، وثانيها ظهور السيدة زينب، وقد تم التحايل على التحفظين بأن يتحدث الممثلون بصيغة المفرد الغائب، أما التحفظ الثالث فكان حذف الأبيات التى تسب «يزيد بن معاوية» باعتباره صحابياً ،وأخيراً تغيير اسم «ثأر الله»، فاستقر الشرقاوى على «الحسين ثائراً» عنواناً لجزئى المسرحية (الحسين ثائراً والحسين شهيداً) بعد دمجهما وتمت إجازة المسرحية، لكن عجز المسرح القومى ثم المسرح الحديث عن تمويل العمل، أجل تحقيق حلم الشرقاوي في أن يرى هذا العمل على خشبة المسرح.
https://youtu.be/lGjGDeeVeHU
تراث فكرى وأدبى
كان التنوع الهائل لابداع الشرقاوى مثار المتابعة الدائمة من جانب النقاد، فهو الشاعر الذى أصدر مجموعتين هما ديوان شعر يحمل عنوان قصيدته الشهيرة «من أب مصري إلی الرئيس ترومان»، والثانى يضم مسرحية من فصل واحد ومجموعة قصائد «تمثال الحرّية» و«قصائد منسيّة» 1987.
وهو كاتب الرواية والقصه القصيرة، الذى قدم للمكتبة العربية مجموعتة القصصية الأولى «أرض المعركة»، والمجموعة الثانية التي نشرت تحت عنوان «أحلام الصغيرة». كما قدم أربع روايات هى «الأرض» 1954، التى تحولت إلى فيلم سينمائى أخرجة الراحل يوسف شاهين، و«الشوارع الخلفية» 1957، «قلوب خالية» 1957، «الفّلاح» 1980.
وهو الباحث الجاد والمجدد الذى أثار جدلا واسعا حول كل ما قدمه من جهد فكرى فى تجديد الخطاب الدينى واشتبك مع كل ما كان يراه رجعيا.. وقد ساهمت كتبه «محمد رسول الحرية» و«على إمام المتقين» و«الفاروق عمر» وغيرها فى تحرير العقل العربى وكانت دوما تنحاز للإنسان فى التاريخ الاسلامى.
ويظل الدور الذى لعبه الشرقاوى فى المسرح الشعرى العربى أحد أهم إسهاماته، حيث إستطاع أن يحول المسرح الشعرى إلى حالة تنبض بالحياة والحيوية، منطلقا من أهمية الدور الاجتماعى للفن وضرورة أن يحمل الفن رسالة إنسانية ونضالية إضافة لرسالته الجمالية.
وقدم الشرقاوى للمسرح العربى «مأساة جميلة»، عام 1962 حول المقاومة الجزائرية للاحتلال والمناضلة جميلة بوحريد،
ثمّ «الفتی مهران» عام 1966 ثمّ «الحسين ثائراً والحسين شهيداً» عام 1969م ثمّ «وطني عكا» عام 1970م ثمّ «النسر الأحمر» عام 1976 عن صلاح الدين الأيوبى، وأخيراً «عرابي زعيم الفلاحين» عام 1985.
وفي مجال السينما شارك الشرقاوى فى كتابة عدد من الأعمال السينمائية إضافة إلى فيلم «الأرض» 1970 المأخوذ عن روايته وفيلم «جميلة» 1958 الذى أخرجه أيضا يوسف شاهين والمأخوذ عن نص مسرحى للشرقاوى، كما شارك فى كتابة فيلم «الرسالة» للمخرج «مصطفى العقاد» 1976.
الفيديو جراف: