عانت الحياة السياسية في مصر غياباً تاماً لمبدأ التعددية الحزبية منذ سنة 1953 وصولا لسنة 1976 التي شهدت ميلادا جديدا لثلاثة فقط من التنظيمات أتخذ أحدها اسم «مصر العربي الإشتراكي»، والذي عُرف بمنبر الوسط والثاني باسم «الأحرار الإشتراكيون» المعبر عن اليمين، والثالث حمل اسم «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» الذي مثل تجمعا لقوى اليسار، ولم ينته العام إلا متوجا بإجراء إنتخابات 1976.
فكيف عالجت مجلة «الطليعة» اليسارية، ومجلة «الدعوة» الناطقة باسم جماعة الإخوان المسلمين خلال لحظة إلتقائهما بين عامي 1976 و1977 قضية الديمقراطية؟ ومن ثم كيف تعاملت مع تلك الأحداث المتعددة من إطلاق التنظيمات الثلاثة، وما أثير حول قضية التعددية الحزبية وإجراء العملية الإنتخابية؟ وهل قدمت كل منهما رؤية بديلة لما كان مطروحا في الحياة السياسية آنذاك؟ وهل مازالت تلك الرؤية ملائمة للحظة التاريخية التي يمر بها مجتمعنا في الواقت الراهن؟.
الطليعة.. نقاش جاد
فتحت «الطليعة» عبر بابها الثابت «الرأى والرأى الآخر» – الذي تضمن عددا متنوعا من المقالات حول قضية الديمقراطية من وجهات نظر مختلفة – نقاشا مفتوحا يتعلق بتجربة التنظيمات الثلاثة. وكان من بين هذه المقالات -على سبيل المثال- سلسلة مقالات بعنوان «تجمع سياسي وليس حزبا عقائديا» لإسماعيل صبري عبدالله و«تعقيب ناصري على ديمقراطية المنابر .. ديمقراطية التعدد» لأحمد عبد الرحمن جمال بعدد يوليو 1976.
غير أنه من المفيد في هذا السياق أن نقف عند هذا المقال الذي جاء تحت عنوان «الديمقراطية في الشريعة الإسلامية» للدكتور محمد أحمد خلف الله المنشور بعدد أغسطس 1976، فقد شكل هذا المقال محاولة جادة للرد على من ادعوا أن ممارسة الديمقراطية تتعارض مع الإسلام ،ومن ثم تناول الكاتب طبيعة العلاقة بين الشورى والديمقراطية مؤكدا عدم وجود أي تعارض بينهما، وأن الآية الكريمة «وأمرهم شورى بينهم» إنما تعني أن القرآن قد امتدح أن يكون الرأي في الأمور العامة جماعيا وليس فرديا… ومن ثم أشار الدكتور خلف الله إلى أن أساس الشورى يقوم على أن يعهد إلى الأمة بإنتخاب من تثق بهم لوضع القوانين العامة، والمراقبة على الحكومة في تنفيذها شريطة أن يقوم هذا الإنتخاب على حرية الإختيار دون أي ضغوط من قبل الحكومة أو غيرها، ودون أي ترغيب أو ترهيب وهى ذاتها الأسس التي تقوم عليها ممارسة الديمقراطية.
د. محمد أحمد خلف الله
رؤى نقدية
من جانب آخر انتقد الدكتور محمد عامر في مقاله الذي جاء تحت عنوان «مشروع برنامج التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. ملاحظة نقدية» بعدد يوليو 1976 قصور معالجة برنامج الحزب لقضية الديمقراطية، حيث جاء البرنامج دون أية إشارة لحرية تكوين الأحزاب وحرية الصحافة، وذلك على الرغم من أن برنامج الحزب قد تضمن بندا يحمل عنوان «في الديمقراطية» تناول قضية ضمان التمثيل الحقيقي والفعلي لفئات العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين في كافة أجهزة السلطة والتشريع والإعلام، كما نص البرنامج على ضرورة ضمان حرية الرأى والتعبير وإطلاق الحريات النقابية والعمالية.
وقد عزا الدكتور عامر هذا القصور – من وجهة نظره – لطبيعة الصيغة التي قام عليها «حزب التجمع» بوصفه «تحالف قوى الشعب العامل»، وهى صيغة تتعارض كليا مع فكرة حرية تكوين الأحزاب وتكوين التنظيمات النقابية المختلفة. إذ أنها تتعامل مع كل العاملين بوصفهم كيانا واحدا شاملا، ومن ثم فهى صيغة تؤثر على عملية تعددية التنظيمات إلى جانب إنحصار المؤسسات التي تهتم بالإصدارات الصحفية وهو ما يوثر على حرية الصحافة.
كما اهتمت مجلة «الطليعة» بطرح قضية التعددية الحزبية وقضية حرية الصحافة، وقد كان للنقابات المهنية نصيب في طرح علاقتها بقضية الديمقراطية .فعبر مقال الدكتور محمد رضا محرم الذي جاء يحمل عنوان «النقابات المهنية ومعركة الديمقراطية» بعدد يوليو 1976، يطرح الكاتب أزمة النقابات المهنية على إختلافها والتي وصلت إلى حد «التشابك بالأيدي» بين بعض الأعضاء بلجنة التعليم بقاعة مجلس الشعب عند مناقشة تعديل قانون نقابة المعلمين، والتي أعلن نقيبها في وقت لاحق إنضمام نقابته إلى «تنظيم الوسط» التابع للحكومة.
ودلل محرم على غياب الديمقراطية عن تلك النقابات المهنية بالإشارة إلى أن المجلات التي تصدرها بعض تلك النقابات كانت توصد صفحاتها في وجه أصحاب الرأى المخالف، سواء كانوا يكتبون في مجال القضايا النقابية الخلافية أو يكتبون في أي موضوع آخر.
من جانب أخر أشار محرم إلى بروز جيل جديد من شباب المهنيين غير الراضين عن أداء شيوخ نقاباتهم ،لإنفرادهم باتخاذ القرارات إلى جانب نزوعهم نحو البيروقراطية في تسيير العمل اليومي بتلك النقابات، ومن ثم كانت لديهم رغبة شديدة في تغيير وجه العمل النقابي مع رفضهم للدور «القزمي» للنقابات المهنية في مجتمع يعلن صباح مساء توجهه نحو مزيد من الإنفتاح.
حول انتخابات 76
أما بالنسبة لتناول «الطليعة» لإنتخابات 1976 فقد أفردت لها المجلة العديد من الصفحات قبل إجراء العملية الإنتخابية وعقب الإنتهاء منها، حتى أنها قامت بإجراء إستطلاع رأى استعرضت نتائجه بعددها الصادر فى شهر سبتمبر 1976.
وقد تمحور هذا الإستطلاع حول تساؤل رئيسي «ما هى في رأيكم الضمانات والضوابط السياسية والقانونية اللازمة لإجراء انتخابات نيابية تعبر تعبيرا سليما عن اتجاهات هيئة الناخبين في مصر؟» ومن ثم تبارى ممثلو مختلف القوى السياسية في طرح رؤيتهم حول أهم الضمانات اللازمة لإجراء العملية الإنتخابية مؤكدين على أن «الديمقراطية لا تتحقق بالنوايا الطيبة»، وإنما لا بد من وجود إجراءت تحفظ مسارها.
كما قدمت المجلة في أعقاب العملية الإنتخابية دراسة معمقة شارك فيها الأساتذة: «أبو سيف يوسف، حسين شعلان، حلمي ياسين، رفعت السعيد، عادل حسين، وديع أمين» وصدرت نتائجها تحت عنوان «إنتخابات 1976 في مصر» بعدد شهر ديسمبر عام 1976، حيث أوضحت أن حصول حزب الوسط أو «تنظيم مصر العربي الإشتراكي» على أغلبية المقاعد جاء نتيجة علاقته المباشرة بالجهاز التنفيذي والإعلامي بالدولة، ومن ثم طرحت الدراسة رؤية بديلة لكيفية إدارة الحملات الإنتخابية في المستقبل، تقوم بالأساس على مبدأ المشاركة التفاعلية وحرية إستخدام وسائل الإعلام المختلفة.
الدعوة.. والبحث عن حزب!
في المقابل انقسمت معالجة مجلة «الدعوة» لقضية الديمقراطية إلى طريقتين متمايزتين، يمثل كل طريقة فريق معين.. فريق يرفض مسألة الديمقراطية تماما ويتعامل معها بوصفها خارجة على «نظام الحكم في الإسلام»، و قد مثل هذا ا الفريق مقال يحمل ذات العنوان للدكتور عبد الله شحاتة تناول فيه الشروط الواجب توافرها في «الإمام أو الحاكم» وطريقة إختيار «خليفة المسلمين» التي تعتمد على «أهل الحل والعقد وهم أهل الشورى والرأى السديد، ووجهاء الأمة والممثلين لها والمعبرين عن كلمتها» وهو ما يتضمن بطبيعة الحال إستبعاد رأى عامة الشعب وإنحصار الرأى بفئة أهل الشورى ومن إليهم.
في ظل هذا النظام يصبح لا وجود لأى عمل سياسي أو حزبي وهو ما عبر عنه عمر التلمساني المرشد العام الأسبق لجماعة الاخوان المسلمين، في مقاله المعنون «الدين والسياسة والأحزاب» الذي لم يشر فيه للأحزاب السياسية ولو بجملة واحدة على الرغم من ذكرها بالعنوان، حيث اكتفى بالإشارة إلى أن السلف الصالح كله لم يعرف هذا الإصطلاح الذي وصفه بكونه «الغريب الشاذ: الدين والسياسة كشيئين مختلفين لا يجتمعان».
الفريق الثاني الذي تعامل مع «قضية الديمقراطية» على صفحات مجلة الدعوة، لم يتناولها بشكل مباشر وصريح أي لم يكن هناك من نادي بضرورة تطبيق الديمقراطية ومن ثم إطلاق مختلف الحريات على سبيل المثال.. هم فقط كانوا عبارة عن مجموعة رأت في تلك اللحظة التاريخية فرصة مواتية للدعوة لتأسيس حزب سياسي يعبر عن «جماعة الإخوان المسلمين».
المثير في الأمر أن الرئيس الراحل أنور السادات الذي استعان بالتيار الإسلامي في مواجهة ما اعتبره توغلا لتيار اليسار، كان رأيه صريحا بهذا الشأن، حيث أعلنها مرارا وتكرارا «لا أسمح بقيام أي حزب على أساس ديني»، وهو التصريح الذي وضعته مجلة «الدعوة» كعنوان فرعي لمقال القيادي الإخواني صلاح شادي المعنون «أهى مؤامرة على الشريعة الإسلامية» بعدد يناير 1977 التي اعترض فيها على عدم السماح بتأسيس حزب على أساس ديني.
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى مقال نصر مهنا «تأملات إسلامية في المسألة الحزبية» عدد مارس 1977، والذى علق فيه على تأسيس التنظيمات الثلاثة الممثلة لمنابر «الوسط واليمين واليسار»، مشيرا إلى أن الدولة قد حرصت على إرضاء كل الأذواق لتكون بذلك قد «أرست ما تراه دعما لحرية فكرية وديمقراطية سياسية».. إلا أنها «أرضت الجميع على حساب المسلمين» وفقا لوصفه، ومن ثم يواصل حديثه متسائلا: «أما كان أجدر بدولة العلم والإيمان أن تجعل للإسلام حزبا» واستخدم الكاتب هنا التوصيف الشائع الذي طالما استخدمه أنور السادات لوصف مصر بكونها «دولة العلم والإيمان» كمبرر للسماح بتأسيس حزب على أساس ديني.
عمر التلمساني، وأنور السادات
مقارنة كاشفة
إذا عقدنا نوعا من المقارنة بين تناول مجلتى الطليعة والدعوة لقضية الديمقراطية يمكننا أن نخلص إلى الآتي:
-أولت الطليعة اهتماما خاصا بطرح كل ما يتعلق بقضية الديمقراطية ومن ثم أبدت إهتماما كبيرا بمناقشة قضية التعددية الحزبية وأعلنت موقفا نقديا صريحا يتعلق بقصور الإعتماد على ثلاثة تنظيمات سياسية فقط، كما طرحت كل ما يتعلق بالعملية الإنتخابية وقضايا حرية الرأى والتعبير وحرية الصحافة إلى جانب طرح تلك القضايا المتعلقة بحرية تأسيس التنظيمات النقابية.
– إجمالا قدمت الطليعة رؤية تتعلق «بقضية الديمقراطية» تقوم على أن الحرية والمشاركة السياسية الفعالة هما «جناحاها»، وهى رؤية مازالت بالطبع صالحة لمعالجة واقعنا الراهن برغم كل ما يعانيه من تعقيدات.
-أما بالنسبة لرؤية كُتّاب مجلة «الدعوة» فهى رؤية لم تكن بأى حال من الأحوال داعمة لقضية الديمقراطية، وإنما كان تناولهم لها مجرد وسيلة لطرح رغبتهم في تأسيس حزب معبر عنهم، يقوم على أساس ديني، وهو ما تمكنوا من تحقيقه في أعقاب ثورة 25 ينار 2011، عبر تأسيسهم حزب «الحرية والعدالة» الذي تمكنوا من خلاله من الوصول لحكم مصر. ولعل الفشل السريع الذي مُنيت به تجربتهم لهو أبلغ دليل على فساد رؤيتهم المتعلقة بضرورة تأسيس حزبهم القائم على أساس ديني.
(يتبع)