الحزبان الكبيران في الجزائر هما حزب الإدارة وحزب الزوايا، وكل عملية سياسية عليها أن تأخذ شفاعة هذين الحزبين كي تمرّ للبلع الشعبي. الحزب الأول هو منتج ثقافة البيروقراطية والتزوير المعمم والرشوة الممنهجة والحزب الثاني هو منتج ثقافة «الطاعة» الدينية التي تنتج ثقافة «البركة» لتوزعها على ممارسي الحكم الذين بدورهم يغدقون عليها «أكياس» المال.
فكل من يرغب في أن يصعد درجات سلّم السلطة، عليه أن يكون مقبولاً وعليه رضا الحزبين المتحالفين «الإدارة والزوايا» بشكل يتقاسمان فيه الأدوار بدقة متناهية ومتناغمة ومتكاملة.
لقد كتب ابن خلدون في القرن الرابع عشر (1332-1406) عن علاقة العربي- المسلم بالسلطة وبالدين، قائلا «إن العرب لا يساسون إلاّ بالدين»، أي أن قوة التأثير السياسي لا تنتجها الأحزاب ولا المشاريع الاجتماعية التي يطرحها هذا الحزب أو ذاك، أو هذا المرشح أو ذاك، إنما الذي يؤثر هو من يستطيع أن يستغل الدين ويحولّه إلى تجارة رابحة، وهو التجارة الأكثر فعالية وشعبوية. وبعد أكثر من ستة قرون، لا تزال هذه الحالة قائمة حتى اليوم، وربما بشكل أقوى وأعنف.
في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، وعلى المستوى السوسيولوجي أساساً، مثّلت مؤسسة الزوايا الإسمنت الحقيقي الذي لملم أطراف المجتمع الجزائري في فترات مختلفة وعويصة، ولأن هذه المؤسسة كانت قوية سوسيولوجياً وثقافياً ولغوياً ودينياً، فقد كانت محط اهتمام الاستعمار الفرنسي منذ الإنزال العسكري في الجزائر عام 1830. كان عليه أن يبحث عن مؤسسة عريقة التقاليد في المجتمع كي يتمدّد داخل المجتمع، جاعلاً منها الوسيط بينه والشعب البسيط، بخاصة في الأرياف والصحراء والمواقع البعيدة في الجبال حيث تتمركز الزوايا وتتحكم بشكل متميز في تفاصيل حياة الفرد والجماعة. ومنذ البداية، وجد الاستعمار في هذه المؤسسة بعض أجوبته عن كيفية الاستقرار في مجتمع غريب الثقافة واللغات والدين بالنسبة إليه، ولذا عمد إلى تقريب شيوخ بعض الزوايا منه وتقرّب منهم، وعمل على خطة تفريغ مؤسسة الزوايا من أبعادها الاجتماعية وحصر عملها في تكريس فكر الطاعة وغرس أيديولوجيا «القدرية» و«المكتوب»، والتركيز على «شراء» ذمم شيوخ الزوايا لأنهم يمثلون «رمزاً» يُعبد من قبل مريديهم.
ولم تفقد الزوايا خصوصياتها السوسيو – ثقافية وقد عبرت الاستعمار على الرغم من الانتقادات التي وجده إليها من قبل بعض تيارات الحركة الوطنية، وقد ظلت إلى حد كبير الطابور الخامس الذي يلجأ إليه كل نظام لمجرد الشعور بأنه مهدد من قبل اليسار أو من قبل الإسلام السياسي، وبشكل خاص تنظيم الإخوان المسلمين ومشتقاتهم السياسية الكثيرة والمتكاثرة.
بعدما كان مرشح المؤسسة العسكرية، لم يكتف الرئيس الشاذلي بن جديد (1929-2012) بالحزب-الجهاز (حزب جبهة التحرير الوطني) كي يخلق لنفسه شعبية ما. لذا، فقد حمل عصاه ورحل إلى الزوايا، بوصفها الخزان الشعبي والديني في الوقت ذاته لصناعة صورة تُنسي الناس صورة هواري بومدين الذي صنع لنفسه صورة من خلال الشعبوية الفلاحية أساساً، وكان الشاذلي بن جديد أول من أعاد الزوايا إلى مركز الانشغال السياسي.
وتُعدُّ الزوايا خزاناً شعبياً كبيراً وعابراً لحدود البلدان، فكل «طريقة» لها زوايا بأتباع في بلدان مختلفة، كما هي القادرية والشاذلية والطيبية والبلقايدية والعلوية وغيرها. وقد تجاوز عدد أتباع بعض الزوايا عشرات الملايين منهم، أي من «القناديز»، ويتميز الانتماء إلى الزاوية بثقافة الانضباط والطاعة لشيخهم الذي لا تُناقَش كلمته ولا يُرَد أمره، لذا فالرهان على هذه المؤسسة سياسياً، له مردود جماهيري واضح.
والاستثمار في الزوايا سياسياً ليس ظاهرة جديدة، فقد كانت فرنسا الاستعمارية وهي ما هي عليه من قوة وجبروت، السباقة في التفطن إلى قوة هذا المنجم البشري، واعتمدت عليه بشكل واضح، فحين أشكل على الاستعمار الفرنسي أمر اقتحام الأرياف، لِما كانت تتميز به الحياة في هذا الفضاء المحافظ من كُودَات اجتماعية وثقافية ولغوية يصعب فكها، لجأت إلى سلطة الزوايا، فاشترت كثيرين من شيوخها، وروّضت كثيرين من زعمائها، فأصبحوا خدماً لسياستها أو في أفضل الظروف ساكتين عن ظلمها أو مبرّرين أفعالها. وصنعت من بعضهم ملاحق لها في الأرياف لمراقبة أية حركة شعبية، وأيضاً لتوصيل مجموعة من الأفكار المرتبطة بالخنوع ورفض المقاومة واعتبار كل ما حصل من «قدر» السماء.
لقد أدركت جيوش فرنسا أن كرامة ولي صالح أو شيخ زاوية هي أقوى وأكثر فعالية من أحدث دبابة أو وسيلة من وسائل الدعاية الإعلامية الجديدة يمكن استعمالها في تكريس وجودها.
يعيد التاريخ نفسه، فاليوم يبحث المترشحون للرئاسيات الجزائرية المفترضة في 12 ديسمبر (كانون الأول) 2019 عن قاعدة شعبية باسم الدين، لكنهم يتفادون القاعدة الشعبية المرتبطة تنظيمياً بالإسلام السياسي والمنضوية في أحزاب عصرية على شاكلة تنظيم الإخوان المسلمين ومشتقاتهم وعددهم في الجزائر خمسة تنظيمات، ولأنهم يدركون أن المجتمع العربي والمغاربي يساس بالدين قبل أي حزب، وأن الدين يظل «أفيون الشعوب» في أشكاله السياسية المختلفة، فإنهم يلجؤون إلى القاعدة الشعبية لما يُسمى بدين الزوايا، وهو دين الطاعة، أو ما أسميه بـ«الدين الناعم»، والقاعدة الشعبية التي تتميز بـ«الولاء» لشيخها ولاء مطلقاً وتتحرك بإشارة منه في هذا الاتجاه أو ذاك من دون نقاش أو هرج أو إعلام. لذلك، نلاحظ كيف يتفادى المرشحون القاعدة الشعبية لدين “المحاججة”، أي دين «التوحش» الاجتماعي و«العنف» السياسي ومغازلة الدين «الشعبوي»، دين الزوايا.
في المجتمعات العربية والمغاربية، يمثل الدين في عين رجل السياسة «حوض الاستحمام» الذي فيه «يغتسل» من تهمة الفساد والخيانة والرشوة والعنصرية، فبمجرد أن «يغطس» السياسي في هذا الحوض حتى يبدأ مسلسل إيهام الناس البسطاء بالاستقامة واليد البيضاء والنقاء، وهو ما يؤثر بالفعل في الرأي العام.
لكن يبدو أن تغييراً قد بدأ يهز الوعي الفردي والجماعي، إذ نكتشف ذلك من خلال النقاشات والحوارات والتعليقات على شبكات التواصل الاجتماعي التي يحاول بعض النشطاء فيها ومن خلالها التشويش على تجار الدين السياسي والدين الشعبوي على السواء. ففي الحملة الانتخابية للرئاسيات الجزائرية المقبلة، حاول اللاعبون فيها من المترشحين «الغطس» في «حوض الاستحمام الديني»، بخاصة الزوايا، إلاّ أنّ هناك مقاومة سياسية شعبية عريضة لمثل هذا الاستغلال السياسي للدين.
لقد أبدع المتعاملون مع شبكات التواصل الاجتماعي ثقافةً ووعياً متميّزَيْن في طريق محاربة الاستثمار في دين «الزوايا”» أو في “الصلاة” الاستعراضية، وظهر جراء هذه المقاومة الشبانية الواعية أدباً سياسياً يتميز بالسخرية الحادة ضد تجار الدين.
تأسست ثقافة السخرية العميقة والمقاوِمة على مجموعة من النصوص المكتوبة بلغة شعرية بسيطة ومفهومة وكثيراً ما تكون باللهجة العامية الجزائرية وتأسست أيضاً على تداول جملة من رسوم الكاريكاتور، إذ ظهر جيل من فناني الكاريكاتور، وأبدعت مجموعة كبيرة من النكت السياسية البليغة. وبالفعل، تمكّنت ثقافة السخرية المقاومة هذه من بث وعي اجتماعي كبير يعمل شيئاً فشيئاً على تخليص المجتمع من خطاب طبقة سياسية منتهية الصلاحية، التي لطالما تستّرت بالدين لتغطية فسادها وعجزها في التسيير.
نقلا عن: إندبندنت عربية